بداية يجب علي الاعتذار للسادة القراء على هذا الانقطاع المؤقت، و السبب هو اشتغالي مع نخبة من الصحفيين و الإعلاميين على الإعداد لبرنامج حواري سيبث قريبا إن شاء الله، فمن واقع التجربة تبين لنا أن الإقبال على القراءة أصبح جد محدود في عالمنا العربي، وأغلب رواد الشبكة العنكبوتية يفضلون مشاهدة مقاطع الفيديو والبرامج التحليلية السمعية- البصرية، ولعل هذا السبب هو مادفعنا إلى البحث عن منفذ أخر لتمرير الرسالة الإعلامية الموضوعية والمحايدة عبر وسائط أخرى أكثر تأثيرا…لكن مع ذلك تبقى للكلمة المكتوبة أهميتها وللمقال خصوصيته، كمرجع يمكن الرجوع إليه من قبل جمهور القراء وطلبة العلم.. وقد سبق لي أن رفضت في أكثر من مناسبة التحدث عن الصين و التجربة الصينية عبر قنوات تلفزيونية، لأني أرى أن دراسة الصين تقتضي منا مزيدا من البحث وعدم التسرع في إصدار الأحكام، ومن ذلك العبارة الشائعة التي أصبحت متداولة على لسان بعض الساسة العرب، ومعهم وسائل الإعلام العربية من قبيل "التوجه شرقا"، ويقصدون بذلك مواجهة "المشروطية" والهيمنة الأمريكية والغربية عامة باللجوء إلى الصين.. وفي ذلك جهل بالصين و بالتحدي الذي تفرضه الصين، فلسنا في حاجة كعرب ومسلمين إلى الخضوع لهيمنة وحماية أخرى وإن كانت صينية… صحيح أن الصين بعد 1989 ابتعدت عن منطق القوة الصلبة في فض المنازعات و اعتمدت سياسة سلمية تقوم على التعاون و التنمية، إلا أنها بذات الوقت تبنت منهجا سياسيا يقوم على تعزيز قوتها الناعمة، و من ذلك تنصيب نفسها كقائدة للحضارة و الثقافة الكنفوشيوسية، و تعزيز نفوذها عبر توظيف "صيني ماوراء البحار"، خاصة وأن هؤلاء لهم نفوذ اقتصادي و تجاري بالغ الأهمية في العديد من بلدان آسيا…كما عملت على استغلال عضلاتها الاقتصادية و فوائضها المالية الضخمة لفرض رؤيتها و تحقيق مصالحها… هذا التوجه القائم على توظيف العضلات الاقتصادية واستغلال المشاريع الكبرى والقروض والاستثمارات وغيرها من التسهيلات الإئتمانية، أصبح موضع جدل، وولد جملة من المخاوف الجدية، لدى الدول المتقدمة والنامية على السواء، ومن ضمن الأمثلة على جدية هذه المخاوف، الموقف الذي عبر عنه سابقا " محمد مهاتير" بعد عودته للسلطة سنة 2018 ، إذ قام بإلغاء ثلاث مشروعات إقتصادية عملاقة كانت ستمولها الصين، في إطار مبادرة "طريق الحرير و منطقة الحزام" ، وتم تبرير القرار بالتكلفة العالية التي قد ترهق البلاد فيما بعد في سلسلة من الديون التي لا يمكن تحملها، وتتمثل المشروعات الملغاة في مشروع خط سكك حديدية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي إضافة إلى مشروعي طاقة بقيمة 2.3 مليار دولار. وقد أوضح " محمد مهاتير" أن بلاده لا تحتاج لهذه المشروعات في الوقت الراهن، واعتبر أن الحكومة السابقة وافقت على دفع مبالغ أكثر مما تستحق تلك المشاريع، و هو ما فسر على أنه انتقاد للصين و سياساتها التجارية عندما حذر مما سماه " نسخة جديدة من الاستعمار" المخاوف التي عبر عنها "محمد مهاتير" تأكدت في واقعة ميناء "هامبانتوتا" ب"سريلانكا" ، " إذ اضطرت الحكومة السريلانكية إلى تسليم ميناء "هامبانتوتا" الجنوبي لنظيرتها الصينية بموجب عقد إيجار مدته 99 عامًا، بعد فشلها في سداد أقساط الديون التي حصلت عليها لتمويل بناء المشروع الذي فشل في تحقيق العوائد المالية المتوقعة …عملية التسليم هذه أثارت مخاوف دولية من خطر الديون الصينية، كما تسببت في قلق لدى القوى العسكرية الكبرى مثل الولاياتالمتحدة واليابان والهند من احتمال استخدام مثل هذه البنى التحتية كقواعد عسكرية لتقويض نفوذ الخصوم الإقليميين. خاصة و أن الصين قد أقرضت و إستثمرت بكثافة في العديد من البلدان الأسيوية و الإفريقية وإفريقيا، هذه المخاوف ولدت مصطلح "فخ الديون الصيني"، ومضمون المصطلح يفيد بأن الصين تستخدم الديون كجزء من سياستها الخارجية للتودد إلى البلدان المتطلعة للتمويل الرخيص…ويُعتقد أن الصين تهدف من الإفراط في إقراض هذه الدول إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية عند عجزها عن الوفاء بالتزامات الدين… فخ الديون إستعملته العديد من البلدان الغربية، وكان السبب المباشر في إحتلال العديد من البلدان في إفريقيا و أسيا، إذ شكلت الديون أداة للسيطرة على مالية هذه الحكومات، عبر تعيين مفوض مالي يمثل حكومات البلدان المقرضة ، وفي حالة العجز عن الوفاء بالدين يتم وضع اليد على أصول و موارد هذه البلدان، والاستحواذ على مشاريع البنى التحية كالسكك الحديدية و الموانئ والمناجم، وهذا التوجه عرف تاريخيا ب "الحماية" أو "الانتداب"… والحديث عن "فخ الديون الصينية" أصبح يشكل تهديدا حقيقيا للبلدان النامية، التي لاتملك أدوات فعالة لتحصين نفسها من القوة الصينية والشهية المفتوحة لهذا البلد لجني أقصى قدر ممكن من الأرباح، وتحقيق فائض في الميزان التجاري مع أغلب هذه البلدان .. أما في حالة البلدان القوية والمتماسكة إقتصاديا وسياسيا فهي مدركة جيدا لنقاط ضعف الصين، وأين تكمن قوتها و مصلحتها،فأمريكا وأغلب البلدان الأروبية مديونة للصين، بل إن الصين تستثمر بكثافة في سندات الدين الأمريكية والأروبية، لكن هذا النوع من القروض يحقق مبدأ "رابح-رابح" ورأينا ذلك في أكثر من مقال ، حيث أن الصين لعبت دورا بالغ الأهمية في إنقاذ أمريكا و بلدان أوروبا من الأزمة المالية لعام 2008..و تدخل الصين نابع من مصلحتها الوطنية، فإنهيار الاقتصاديات الغربية يعني إنهيار الاقتصاد الصيني، فالسوق الأمريكية والأروبية هي الوجهة الأساسية للصادرات الصينية…نفس الموقف الصيني تكرر في أزمة كورونا فقد حرصت الصين على تقديم تسهيلات إئتمانية و مساعدات جد سخية للبلدان الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية .. لكن في حالة البلدان النامية فالوضع مغاير تماما، فالقوي يحاول فرض شروطه، في تجسيد حي "للنهج الدارويني" ، فحالة "سريلانكا" ليست الوحيدة التي سقطت في "فخ الديون"، فتطلع "الإكوادور" المشروع للحد من الفقر دفعها إلى ركوب الصعب ، و تبني خيارات إقتصادية خاطئة، إذ راهنت الحكومة على مشروع سد "كوكا كودو سينكلير" لتقليص نسب الفقر…و بالرغم من تحذير مسؤولون حكوميون وعلماء جيوليوجيا من مغبة إقامة هذا المشروع في موقعه الحالي لاعتباره منطقة خطرة مليئة بالزلازل وقريبة من بركان ضخم نشط، ومع ذلك لم ينصت أحد، وافتتح السد عام 2016 بسعة إنتاج كهربائي تبلغ 1500 ميغاواط… لكن بعد نحو عامين من افتتاحه ظهرت آلاف الشقوق والتصدعات ببنيته، وانسد خزانه مع تراكم الطمي والرمال والأشجار، وعندما حاول المهندسون ذات مرة رفع عزم المولدات اهتز السد بالكامل وتسبب في ارتباك بشبكة الكهرباء الوطنية. وقد تم تمويل مشروع السد من الصين وتولت شركة "ساينوهيدرو" المملوكة لحكومة الصين مهمة التشييد، على أمل الإسهام في حل احتياجات "الإكوادور" من الطاقة ودفع خطط انتشاله من الفقر، لكنه أصبح جزءا من قضية فساد واسعة النطاق.. و قد بلغت التكلفة الإجمالية للمشروع حوالي 19 مليار دولار، قدمت في شكل قروض من الصين، لتدشين السد بالإضافة إلى عدة جسور وطرق سريعة ومشاريع ري ومدارس وعيادات صحية ومجموعة من السدود الأخرى، وهي تكلفة واجهت الإكوادور صعوبة بالغة في سدادها… ولسداد هذه القروض تم الاتفاق على أن تذهب 80% من صادرات "الإكوادور" من النفط إلى الصين، لأن العديد من العقود التي يبرمها البلد اللاتيني يتم سدادها بالنفط وليس الدولار، وهو ما يعني أن الصين تحصل على النفط من الإكوادور بسعر منخفض ثم تتولى هي بيعه بسعر السوق لتحقق ربحا إضافيا.. حالة "الإكوادور" تتكرر في العديد من البلدان الإفريقية و العربية، فالأطروحة القائلة بأن الصين تدعم التنمية بهذه البلدان تحتاج إلى مزيد من التمحيص والتدقيق، ولست من المتحاملين على الصين، فالتنمية الفعلية بالبلدان النامية، تقتضي السير على نفس الخطى التي سلكتها الصين بعد 1978، بمعنى تشجيع الإنتاج و زيادة الصادرات و التقليص من الواردات.. لكن في الواقع، فإن تحقيق هذا التصور غير ممكن في الوقت الراهن، لأن الصين تغزو البلدان الإفريقية بسلع منخفضة الكلفة والجودة معا، و في ظل وضع كهذا من المستحيل الحديث عن التأسيس لبنية تحتية صناعية أو إنتاجية سليمة …و أرجو من صناع القرار في معظم هذه البلاد، إلى التعامل ببرغماتية مع الصين، وتغليب مصالح الوطن بالدرجة الأولى، ولست أرى من مصلحة أكبر من الحد من إغراق الأسواق المحلية بمنتجات يمكن فعلا تصنيعها محليا وبرؤوس أموال محلية، ومن تم خلق فرص عمل، وتقليص عدد الفقراء و العاطلين، و خلق دورة تنموية حميدة .. فالديون سواءا كانت صينية أو أروبية فهي تحمل الكثير من المخاطر على المدى المتوسط و البعيد، و صدق محمد عليه الصلاة و السلام عندما كان يستعيذ من الفقر والدين، إذ كان يقول عليه الصلاة و السلام في دعاءه " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن و البخل ، وأعوذ بك من غلبة ومن قهر الرجال"…و سنحاول إستكمال هذا النقاش في مقال موالي إن شاء الله تعالى… و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة