بعد ثلاثة أسابيع من الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكية، مايك بومبيو للمغرب، نشرت الإدارة الأمريكية الخميس الماضي النص الكامل لجلسة تواصلية جرت بين مسؤولين كبيرين في الخارجية الأمريكية وبعض الصحافيين، لتسليط الأضواء على هذه الزيارة تحديدا. الخطوة جاءت بهدف رئيس، هو تصحيح ما ذهب إليه الرأي العام من ربط هذه الزيارة بأجندة ضغط محتملة على المغرب بهدف التطبيع مع إسرائيل، والكشف عن وجود أجندة أخرى هي الضغط من أجل منع المغرب من المضي في تقاربه المتسارع مع العملاق الصيني. فالمسؤولون الأمريكيون خرجوا ليقولوا إن ما جاء بومبيو من أجله في الحقيقة، لم يكن التطبيع مع إسرائيل، بل الحد من التأثير الصيني، والانتباه إلى مخاطر الجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية، المعروف اختصارا ب G5 وصلته بالتجسس، ونشاط شركة “هواوي” المتزايد في المملكة، ما يعني أن أمريكا قررت أن تشرك المغرب، أيضا، في حربها على الصين، بعدما سعى هو نحو الصين سنة 2016، في إطار سياسة تعدد الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية الكبرى. في هذا السياق، نفهم الحذر المغربي من الانخراط في الموجة العالمية لإدانة الصين بسبب القمع الذي يتعرض له المسلمون “الإيغور”، تحت مبرر الحرب على الإرهاب، حسب الزعم الصيني، إلى الحد الذي دفع بعض المحللين إلى التحذير من السقوط في “فخ” أمريكي جديد، على شاكلة “الفخ” المسمى “الجهاد الأفغاني”، حيث استعمل المسلمون حطبا في الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، سابقا، بعد احتلال هذا الأخير لدولة أفغانستان في نهاية السبعينيات. فكيف هي العلاقات المغربية الصينية اليوم؟ أين تلتقي المصالح المغربية الصينية وأين تتعارض؟ وما موقعه في مشروع الصين الحزام والطريق؟ وهل يمكن للصين أن تكون بديلا ممكنا عن حلفائه التقليديين؟ يرى حسن مصدق، أستاذ العلوم السياسة بفرنسا، أن الصين تبشر ب”أسس جديدة لنظام عالمي بديل، تقترح أن يرتكز على خمسة أولويات: التنسيق السياسي، وربط البنى التحتية، وفتح القنوات التجارية، وتدفق التمويلات، والتواصل بين الشعوب”، وهو نظام “يمنح الدول العربية مساحة أكبر للمناورة”. هذا ما قد يفسر لجوء العديد من الدول العربية، ومنها المغرب سنة 2016، إلى البحث لها عن موقع في مشروع الصين المسمى “الحزام والطريق”، وهي المبادرة التي جرى الكشف عنها في أكتوبر 2013، ويُراد لها أن تشمل 68 دولة، يقطنها نحو 65 في المائة من سكان العام، وتسعى إلى الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، والسكك الحديدية، والطرق السّريعة، والسيارات، والعقارات، وشبكة الطاقة والحديد والصلب. يرى عبدالصادق توفيق، باحث في العلاقات الدولية، أن المغرب يمكن أن يستفيد اقتصاديا “من الاستثمارات الصينية الخارجية والمتمركزة في عديد الدول الإفريقية، والتي حسنت بشكل كبير من البنية التحتية لعدة دول في إفريقيا”. ويضيف توفيق أنه “يجب أن نهتم بما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم 03 شتنبر 2018 أمام 53 من قادة ورؤساء حكومات إفريقية في العاصمة بكين حين أعلن تقديم 60 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، كمساعدات وقروض بدون فوائد، وخطوط قروض واستثمارات لشركات صينية، للمساهمة في تنمية القارة”. لكن الصين تقدم استثماراتها بدون شروط حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، تلك الشروط التي يستعملها الأوروبي والأمريكي للابتزاز أحيانا، التوجه الذي يجد رضا وإقبالا لدى الأنظمة المستبدة في إفريقيا والعالم العربي، وتفسر في جوانب منها حجم الاختراق الصيني لإفريقيا ومدى التخوف الغربي من النفوذ والقوة الصينية الصاعدة، التي قد تطيح بالزعامة الأمريكية للعالم. لكن أليست تحذيرات وتخوفات أمريكا والغرب جدية؟ ألا ينبغي الحذر من المارد الصيني؟ إذا وضعنا موقف الغرب جانبا، والذي لا يتردد في الحديث عن “الاستعمار الصيني” لإفريقيا على سبيل المثال، فإن إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي سنة 2014 يمثل الجانب الخفي في سياسة الصين الرسمية. إقدام الصين على الحضور عسكريا، وبناء حاملات طائرات، وامتلاك كل مقومات القوة العسكرية، لا يمكن فهمه خارج الرغبة في بناء قوة سياسية مؤثرة في العالم، وقد تتحول إلى القوة رقم واحد، كما ينادي بذلك المفكر العسكري الصيني “ليو مينغفو” في كتابه المعنون ب: “الحلم الصيني”، المشار إليه سابقا. وفي الوقت الذي يقدّم فيه البعض الحضور الثقافي المتزايد للصين داخل المجتمع المغربي، يعتبر عنصر القوة الناعمة هامشيا في تحديد مستقبل العلاقات بين البلدين. محمد الشرقاوي، أستاذ النزاعات الدولية بجامعة “جورج ميسن” بواشنطن وكبير الباحثين بمركز دراسات الجزيرة للإعلام؛ يقول إنه وفي ظل موجة التنديد الإعلامي بالعنف الممارس على المسلمين، “قد يبدي المغرب الشعبي بعض التعاطف مع أقلية الإيغور، وما تتعرّض له في الصين. لكن على الرغم من قناعة التضامن المعلن مع شتى القضايا الإسلامية، لن يصل موقف الرباط الرسمي إلى مستوى الشجب أو الإدانة، أو أيّ ما قد يعكر صفو العلاقات مع الصين، أو يقلب عليه ميزان قوة اقتصاديا واعدا”. ويشدد الشرقاوي على أن هناك منطق المصلحة، إلى جانب اعتبارات الواقعية السياسية، كعنصر متحكم في تدبير العلاقات بين الدول، “ولن يخرج المغرب عن هذا القاعدة”. الصين.. فرصة أم تهديد؟ خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، إلى المغرب في 5 دجنبر الجاري، جرى التركيز على قضية التطبيع بين المغرب و”إسرائيل”، رغم نفي وزارة الخارجية الأمريكية أن تكون موضوعا للمباحثات، بيد أن القضية التي كانت محور جدول أعمال الزيارة وتم السكوت عنها، بحيث لم يلتفت إليها أحد، تتعلق بما أبعد من ذلك بكثير، إذ طلبت واشنطن من المغرب التفكير جديا في الحد من التأثير الصيني، والانتباه إلى مخاطر الجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية المعروف اختصارا ب G5 وصلته بالتجسس، ونشاط شركة “هواوي” المتزايد في المملكة، ما يعني أن أمريكا قررت أن تشرك المغرب، أيضا، في حربها على الصين، بعدما سعى هو نحو الصين سنة 2016، في إطار سياسة تنويع الشراكات الاستراتيجية مع القوى الدولية الكبرى. في هذا السياق، نفهم الحذر المغربي من الانخراط في الموجة العالمية لإدانة الصين بسبب القمع الذي يتعرض له المسلمون “الإيغور”، تحت مبرر الحرب على الإرهاب، حسب الزعم الصيني، إلى الحد الذي دفع بعض المحللين إلى التحذير من السقوط في “فخ” أمريكي جديد، على شاكلة “الفخ” المسمى “الجهاد الأفغاني”، حيث استعمل المسلمون حطبا في الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي سابقا، بعد احتلال هذا الأخير لدولة أفغانستان في نهاية السبعينيات. فكيف هي العلاقات المغربية الصينية اليوم؟ وأين تلتقي المصالح المغربية الصينية؟ وأين تتعارض؟ وما موقعه في مشروع الصين الحزام والطريق؟ وهل يمكن للصين أن تكون بديلا ممكنا عن حلفائه التقليديين. الحزام والطريق تشهد الصين تمددا في القوة والنفوذ منذ بداية القرن الواحد والعشرين، مدخلها الرئيس لذلك، هو الاقتصاد، الذي جعلت منه الأداة الفعالة في اختراق محاور ومناطق استراتيجية عبر العالم. حسن مصدق، أستاذ العلوم السياسة بفرنسا، يؤكد أن الصين تبشر ب”أسس جديدة لنظام عالمي بديل، تقترح أن يرتكز على خمس أولويات: التنسيق السياسي، وربط البنى التحتية، وفتح القنوات التجارية، وتدفق التمويلات، والتواصل بين الشعوب”، وهو نظام “يمنح الدول العربية مساحة أكبر للمناورة”. ربما، لهذا السبب، لجأت العديد من الدول العربية، ومنها المغرب سنة 2016، إلى البحث لها عن موقع في مشروع الصين المسمى “الحزام والطريق”، وهي المبادرة التي جرى الكشف عنها في أكتوبر 2013، ويُراد لها أن تشمل 68 دولة، يقطنها نحو 65 في المائة من سكان العالم، وتسعى إلى الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، والسكك الحديدية، والطرق السّريعة، والسيارات، والعقارات، وشبكة الطاقة والحديد والصلب. الأهداف تبدو تنموية، أساسا، لكنها تعكس رؤية واحدة فقط، لدى جانب من النخب الصينية، التي تؤمن بنظرية “الصعود السلمي” التي دعا لها الاستراتيجي الصيني والمستشار السياسي “زينغ بيجيان”، منذ 2003، وتقوم على أن صعود الصين لن “يغير من هيكل النظام الدولي، أو يهدد أمنه واستقراره، كما يحصل في العادة عند بروز قوى دولية جديدة أو عودة قوى قديمة”. لكن تلك رؤية واحدة من بين رؤى أخرى تخترق النخب الصينية الحاكمة، ويمكن الإشارة هنا إلى رؤية المنظر العسكري “ليو مينغفو” في كتابه المعنون ب: “الحلم الصيني” الصادر سنة 2010، والذي يدعو فيه الصين إلى أن تتخلى عن تواضعها فيما يتعلق بأهدافها على الساحة العالمية، وأن تتحدى الولاياتالمتحدة على الزعامة العالمية. ويتحدث “مينغفو”، بصراحة، عن الحلم الصيني في القرن الواحد والعشرين، المتمثل في أن “تصبح الصين القوة رقم واحد في العالم”، ويعتقد أن الأوان، “مناسب جدا” لتحقيق هذا الهدف، على اعتبار أنه “إذا لم تتمكن الصين في القرن الحادي والعشرين من أن تكون رقم واحد في العالم، وأن تكون القوة العظمى، فإنها ستصبح حتما مهمشة”. ورغم أن الرؤية الأولى تكاد تكون الأكثر حضورا في الخطاب السياسي الصيني الرسمي، إلا أن انتشار الرؤية الثانية وسط العسكريين والقوميين الصينيين، لا يكاد يخفى. وإذا كانت الصين تتكلم لغة الاقتصاد عبر العالم، وتتمدد تجاريا في كل أرجاء المعمور، ما جعل مصالحها تتعاظم بشكل غير مسبوق مقارنة مع القوى الكبرى، كالولاياتالمتحدة، حتى أن الصين أضحت الشريك التجاري الأول للقارة الافريقية بما يناهز 190 مليار دولار، فإن تعاظم المصالح سرعان ما يفرض استدعاء الرؤية الثانية، أي الارتكاز على القوة العسكرية لحماية المصالح المتعاظمة، ولعل أقوى المؤشرات على ذلك، الاﺗﻔﺎق الموقع ﻣﻊ دوﻟﺔ ﺟﯿﺒﻮﺗﻲ سنة 2014 بهدف إﻧﺸﺎء ﻗﺎﻋﺪة ﻋﺴﻜﺮﯾﺔ، وهﻲ أول ﻗﺎﻋﺪة ﻋﺴﻜﺮﯾﺔ ﻟﻠﺼﯿﻦ ﺧﺎرج ﺗﺮاﺑﮭﺎ اﻟﻮطﻨﻲ. الحضور الصيني المتزايد دفع الدول العربية والمغاربية إلى نسج تحالفات معها. يرصد حسن مصدق، أستاذ العلوم السياسية بفرنسا، ذلك من خلال تفعيل مبادرة “الحزام والطريق”، بقوله: “من دول الخليج العربي، إلى مصر، مرورا بالجزائر، وصولا إلى المغرب، تم توقيع عدة شراكات ضمن مبادرة الحزام والطريق الجديد”. كما “لا يمكن تجاهل دور الصين في تنفيذ مشروعات بنية تحتية وموانئ وطرق تربط الدول العربية، بعضها ببعض، وهو ما يبدو واضحا في الاهتمام البالغ بالاستثمار في الموانئ والمناطق الحرة (الكويت، الإمارات، مصر، تونس، الجزائر والمغرب). وجود التنين الأصفر في منطقة الخليج العربي الحيوية أصبح أمرا واقعا في الخارطة الدولية، من الصعب تجاوزه، أو حتى تجاهل تداعياته الإقليمية والعالمية. لكن، هذا لا يكفي لضمان القوة المطلوبة، حيث تحتاج الصين، بحسب حسن مصدق، إلى “التمدد في الطرف الآخر من المنطقة العربية، والذي لا يقل أهمية، وهو المغرب العربي”. الملك في بكين في هذا السياق، يمكن قراءة زيارة الملك محمد السادس في عام 2016 إلى الصين، باعتبارها نقطة تحول استراتيجي، حيث جرى الإعلان إبان تلك الزيارة عن “شراكة استراتيجية” بين المغرب والصين، مكّنت من جعل الصين الشريك التجاري الثالث للمغرب بعد كل من الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة. لم تكن العلاقات مع الصين وليدة 2016، فقد سبق للملك أن زار بكين في بداية الألفية، وخلال السنة عينها أورد تقرير اقتصادي ومالي مرفق بمشروع قانون المالية لسنة 2016 أن حجم المبادلات بين البلدين بلغ حينها 39,5 مليار درهم، وبلغت حصة الصين من إجمالي المبادلات التجارية المغربية 6.2%. بالمقابل، سجلت طفرة نوعية في الاستثمارات الصينية المباشرة في المغرب منذ سنة 2014، وبلغ المتوسط السنوي للاستثمارات الصينية 316 مليون درهم ما بين 2014 و2016، مقابل أقل من 3 ملايين درهم قبل سنة 2013. وبسبب ارتفاع المبادلات التجارية بين الصين والمغرب، أضحت المنصة الأولى لميناء طنجة المتوسط الميناء الأكبر للحاويات في افريقيا، متجاوزا منافسه ميناء بورسعيد المصري، وكذا ميناء ديربان في جنوب إفريقيا. وتخطط شركات مثل شركة الاتصالات العملاقة “هواوي” لتشييد مراكز لوجستية محلية في ميناء طنجة المتوسط. وبمناسبة الذكرى العاشرة لتدشين الميناء، أعلن عن مشروع استثماري بقيمة 10 مليارات دولار يحمل اسم “مدينة محمد السادس طنجة تيك”، يُفترض أن يضم مئاتي مصنع في السنوات العشرة المقبلة، ليصبح المغرب بذلك المقر الصناعي الصيني الأكبر في القارة. الشراكة مع الصين توجت بإعلان المغرب سنة 2017 إعفاء الصينين من تأشيرة الدخول إلى أراضي المملكة، ما رفع نسبة الإقبال الصيني إلى أزيد من 100 ألف سائح. ومنذ أيام، أعلنت شركة الخطوط الملكية المغربية عن إطلاق خط جوي مباشر بين الدارالبيضاء والعاصمة بكين، ابتداء من 16 يناير المقبل، في إطار مخطط تنموي يمتد لمدة ثلاث سنوات. ويسمح الخط الجوي لأول مرة، بربط المغرب بالصين في 13 ساعة، وبشكل مباشر، عبر طائرات من الجيل الجديد وهي: “بوينغ 787-9 دريملاينرز”. وإلى جانب الاقتصاد والتجارة والسياحة، شملت الزيارة الملكية إلى الصين الجانب العسكري، كذلك. ففي غشت 2017 أحالت الحكومة على البرلمان مشروع قانون يوافق بموجبه على اتفاقية للتعاون في المجال العسكري، وتعد الاتفاقية الأولى من نوعها بين البلدين، وتحدد مجالات التعاون في ميادين: زيارة الوفود، والتكوين والتدريب العسكري، والصحة العسكرية، وعمليات السلام الدولية، وتدبير الكوارث، والتاريخ العسكري والأرشيف وعلم المتاحف، وكل مجال آخر يتفق عليه البلدان عن طريق التفاوض بينهما، وتسمح الاتفاقية لوزارتي الدفاع في الدولتين إبرام اتفاقيات تقنية خاصة، ومن أجل تنفيذ ذلك ينص الفصل الثالث على إنشاء لجنة عسكرية مشتركة يتم تحديد اختصاصاتها وطرق عملها بتوافق مشترك. وينص الفصل الخامس من الاتفاقية أنه “لا يحق لأي طرف تحويل أو إرسال أو نقل المعلومات المتوصل بها أو المحصل عليها في إطار التعاون العسكري الثنائي لطرف ثالث دون موافقة كتابية مسبقة من الطرف الآخر”، وتمنع الاتفاقية، كذلك، أحد أطرافها من “استخدام المعلومات المحصل عليها بين الطرفين في إطار التعاون العسكري، على حساب الطرف الآخر”، وتحظى المعلومات المتبادلة بين الطرفين “بالحماية والتصنيف حسب التشريعات الجاري بها العمل في كل من الدولتين”، وتلزم الاتفاقية البلدين باستمرار حماية المعلومات المشتركة بينهما “حتى بعد إنهاء العمل بهذا الاتفاق”. منذ ماي 2016، تاريخ الزيارة الملكية، باتت العلاقات استراتيجية، ويبدو واضحا من خلال المعطيات والمؤشرات المتوفرة أن التعاون يتطور بشكل مطرد، ويحظى برضا الطرفين. ففي شتنبر 2018، صرح الرئيس الصيني لدى استقباله رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بقوله إن بلاده “تعتبر المغرب شريكا مهما لتنفيذ مبادرة الحزام والطريق”، في التفاتة يبدو منها أن الصين تراهن على الاستفادة من موقع المغرب الجغرافي في حركة التبادل التجاري مع غرب إفريقيا. تماما، مثلما يطمح المغرب إلى أن يصبح أرضية لتوجيه الاستثمارات الصينية المباشرة بإفريقيا. في هذا الصدد، يعد ميناء “الداخلة الأطلسي” نقطة التقاء الاستراتيجيتين المغربية والصينية، حيث يطمح المغرب إلى أن يجعل من الميناء الأطلسي منصة نحو إفريقيا الغربية، ويعول على الاستثمارات والتجارة الصينية، في إطار مبادرة الحزام والطريق، لكي يعتبر محطة تموين ونقل في سلسلة الموانئ التي تعبر منها الصين نحو إفريقيا الغربية وأمريكا اللاتينية. منافع بدون إملاءات تبدو المصالح متناغمة بين البلدين إذن، إذ ترتكز العلاقات القائمة على الربح المتبادل، بدل سياسة الإملاءات والشروط التي لا تنقضي، والتي تتميز بها سياسات الغرب الأوروبي والأمريكي. وإذا كانت أمريكا ترددت دائما في الاستثمار في الصحراء المغربية، على سبيل المثال، فإن الصين لا تبدو لها أي من تلك الحسابات. ويبدو أن شركاتها الكبرى لن تتردد كثيرا، كما هو حال الغربيين، في الإسهام لبناء وتشييد ميناء الداخلة الأطلسي. في هذا السياق، يرى عبدالصادق توفيق، باحث في العلاقات الدولية، أن المغرب يمكن أن يستفيد اقتصاديا “من الاستثمارات الصينية الخارجية والمتمركزة في عديد الدول الإفريقية، والتي حسنت بشكل كبير من البنية التحتية لعدة دول في إفريقيا”. وأضاف توفيق أنه “يجب أن نهتم بما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ يوم 03 شتنبر 2018 أمام 53 من قادة ورؤساء حكومات إفريقية في العاصمة بكين حين أعلن تقديم 60 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، كمساعدات وقروض بدون فوائد، وخطوط قروض واستثمارات لشركات صينية، للمساهمة في تنمية القارة”. كما يمكن للمغرب، بحسب توفيق، أن يستفيد “جيوسياسيا” من الصين، في إشارة إلى قضية الصحراء المغربية، لأن “الصين من أهدافها الجيوسياسية، كذلك، بالقارة الإفريقية، اكتساب أصوات القارة في المنتظم الدولي من أجل الدفاع عن قضيتها السيادية الأولى، والمتعلقة بمناهضة استقلال “تايوان”. ويشير توفيق أن “تايوان” تعد “عنصرا مهما قد يساهم في تقارب البلدين، وفي تنسيق جهودهما في أروقة الأممالمتحدة، ووسط المنظمات الدولية، لنزع ورقة الانفصال من أيدي الحركات والبلدان الداعمة لهذا النهج، لا سيما وأن الصين عضو دائم في مجلس الأمن وتمتلك حق النقض”. وتستند بكين، بحسب عادل عبدالغفار، باحث في مركز بروكينغز الدوحة، إلى حجتين رئيسيتَين لكي تتميّز عن منافسيها الغربيين؛ الحجّة الأولى، تتمثل في السياسة الرسمية بعدم التدخل بالشؤون الداخلية الخاصة بشركائها، والذين يجدون في هذا الأمر منفذا جذابا من الالتزامات والشروط التي يفرضها التعاون مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تعتبر الرباط وتونس والقاهرة أحيانا أن معاهدات الشراكة الموقّعة مع الاتحاد الأوروبي مقيدة للغاية. أما الحجة الثانية، فتكمن في البراغماتية والانتهازية اللتين تتصف بهما السياسة الصينية. ففيما يتم اتخاذ القرارات في الصين عبر تسلسل قيادة شديد الترتيب، مما يسرع عملية اتخاذ قرارات الاستثمار، غالبا ما تأخذ الموافقة على قرارات من هذا النوع الكثير من الوقت في العواصم الغربية. تقدم الصين استثماراتها بدون شروط حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، تلك الشروط التي يستعملها الأوروبي والأمريكي للابتزاز أحيانا، التوجه الذي يجد رضا وإقبالا لدى الأنظمة المستبدة في إفريقيا والعالم العربي، وتفسر في جوانب منها حجم الاختراق الصيني لإفريقيا ومدى التخوف الغربي من النفوذ والقوة الصينية الصاعدة، التي قد تطيح بالزعامة الأمريكية للعالم. لكن أليست تحذيرات وتخوفات أمريكا والغرب جدية؟ ثم ألا ينبغي الحذر من المارد الصيني؟ الصين تهدد أيضا تسعف العديد من المؤشرات في القول إن الصين تمثل تهديدا أيضا، وليست فرصة مجزية فقط. إذا وضعنا نظرة الغرب جانبا، والذي لا يتردد في الحديث عن “الاستعمار الصيني” لإفريقيا على سبيل المثال، فإن إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي سنة 2014 يمثل الجانب الخفي في سياسة الصين الرسمية. إقدام الصين على الحضور عسكريا، وبناء حاملات طائرات، وامتلاك كل مقومات القوة العسكرية، لا يمكن فهمه خارج الرغبة في بناء قوة سياسية مؤثرة في العالم، وقد تتحول إلى القوة رقم واحد، كما ينادي بذلك المفكر العسكري الصيني “ليو مينغفو” في كتابه المعنون ب “الحلم الصيني”، المشار إليه سابقا. من جهة أخرى، يرى فؤاد فرحاوي، أستاذ العلاقات الدولية بالراشيدية، أن مبادرة “الحزام والطريق” مثلما تنطوي على فرص، فهي لا تخلو من مخاطر، “إذا لم يصاحب هذا الرهان إحداث نوع من التوازن الذي يفتح فرصا أكبر ويخلق مساحة للمناورة على الصعيد الإقليمي والدولي”. ويضيف فرحاوي أن الانفتاح الاقتصادي للمغرب على الصين “قد يزعج الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين للمغرب، خاصة إسبانيا وفرنسا”، لكن قد يخفف من ذلك باعتبار أن الصين بدورها “دخلت بقوة للاستثمار في إسبانيا وإيطاليا وإسبانيا، مستغلة الأزمة الاقتصادية لإحداث مزيد من الانقسام بين الدول الأوروبية الجنوبية والدول الأوروبية الشمالية”. وقد يكون للمغرب بعض المكاسب السياسية، خاصة ما يتعلق بقضية الصحراء، لاسيما إذا استمر تراجع أسعار النفط التي تشكل العمودي الفقري للصادرات الجزائرية نحو الصين، غير أن فرحاوي يرى أن ذلك “لا يعني أنه بإمكان المغرب أن يراهن على الصين في هذا الموضوع على المدى البعيد، وتجربة الصين مع السودان بخصوص استقلال الجنوب واضحة في هذا المجال. ثم إن الجغرافية السياسية للمغرب تجعل جزءا من استراتيجيته رهينة أكثر بالمحور الأوروبي الأطلسي، مما يجعل رهاناته على الصين لا يمكن أن تصل إلى مدى غير مسموح به، خاصة إذا تقاطعت مع خطوط تماس استراتيجية”. ويشير فرحاوي إلى واقعة جرت في الستينيات من القرن الماضي، حين ضغطت واشنطن والغرب بقوة على المغرب من أجل أن يوقف تصدير مادة الكوبالت إلى الصين، التي كانت تستعملها في تطوير صناعتها النووية. وبالخلفية عينها يشير، كذلك، إلى أنه “ليس من المستبعد أن تضغط بعض الأوساط الاقتصادية في واشنطن على المغرب من أجل فرملة التعاون مع الصين”. وجدير بالذكر أن “صندوق حساب تحدي الألفية (MCC)”، الذي يستفيد منه المغرب في مشاريع ضخمة، سبق أن راسله السيناتور الأمريكي “Jim Webb” في غشت 2010، لإيقاف مساعدات لدولة مالي بلغت 461 مليون دولار، بحجة استفادة الصين من “الصندوق”، عبر حصص تمتلكها في شركات تابعة للدولة المالية. كما ضغطت الإدارة الأمريكية، أيضا، على دول غرب إفريقيا التي تستفيد من “قانون الفرص والنمو الإفريقي”، من أجل التعاون في المجال الجمركي، ومنع إعادة شحن السلع، مخافة أن تستفيد الصين من تلك الثغرات لإعادة تصدير بعض سلعها نحو الولاياتالمتحدة، خاصة منتجات النسيج. وإذا كان المغرب قد ألغى تأشيرة دخول الصينيين إلى البلاد، وهو ما انعكس إيجابا على القطاع السياحي، إلا أن فرحاوي يرى أن “الرباط ستكون مجبرة، أيضا، للحذر من بعض الانعكاسات السلبية المحتملة لهذه الخطوة، خاصة إذا تطور الأمر نحو تدفق الصينيين للاستقرار في المغرب قصد مزاولة بعض الأنشطة الاقتصادية، على غرار ما فعلوه في عدد من البلدان الإفريقية، مثل ناميبيا وأنغولا ومالي وتنزانيا وجنوب إفريقيا، وأدى ذلك إلى حدوث اصطدامات مع السكان المحليين، تطورت أحيانا إلى أحداث قتل، بسبب سيطرت الوافدين الصينيين على بعض القطاعات الإنتاجية. ويشير فرحاوي أنه عند إلقاء الضوء على المجمعات السكانية الصينية التي يطلق عليها "China Town" في الخارج، فسنلاحظ أنها تشكل حلقات بشرية مترابطة من إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، تستعملها بكين كذراع لتوسيع نفوذها، بما فيها نشاط أسطولها البحري، في إطار ما تسميه ب” طريق الحرير البحري في القرن ال21″. خلاصة القول إن الصين تتيح فرصا مهمة على الصعيد الاقتصادي للمغرب، لكن في الوقت عينه يحتاج إلى توازن دقيق في هذه العلاقات، سواء باستحضار حلفائه التقليديين، أو من خلال البحث عن مساحة جديدة لتفاعل السياسة الخارجية المغربية مع دول آسيا. ولعل تأسيس “لجنة رابطة دول جنوب شرق آسيا” (ASEAN) في فبراير 2016 بالسفارة الإندونيسية بالمغرب، خطوة مهمة في هذا الاتجاه، خصوصا إذا تم تعزيز الشراكات الاستراتيجية بنفس القدر والقوة مع دول أخرى، مثل اليابان والهند وتركيا والبرازيل، باعتبارهم قوى فاعلة ولاعبين أساسيين في إفريقيا. لكن التحدي اليوم، سيظل هو قدرة المغرب على إدارة التحالفات والمصالح المتناقضة التي تفرضها شراكاته الاستراتيجية مع قوى كبرى لا تتردد في افتراس الضعفاء؟