بتنصيصه الواضح والصريح على أن "الحكومة تعتبر منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب المعبر عنها بالأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح البرنامج الحكومي"، كان الفصل 88 من دستور 2011، قد وضع حدا لإشكالية دستورية ظلت قائمة لعدة سنوات. وبالضبط منذ أن كان الفصل 59 من دستور 1992، قد سمح، ولأول مرة، في التاريخ الدستوري المغربي، بربط تشكيل الحكومة بمناقشة وتصويت مجلس النواب على البرنامج الذي تعتزم تطبيقه، بكل ما كان قد أثاره وقتئذ من سجال سياسي و"فقهي" بين اتجاهين رئيسيين: أحدهما كان يدافع عن ازدواجية التنصيب الحكومي بين الملك، الذي يتولى تعيين أعضاء الحكومة، والبرلمان (مجلس النواب)، الذي يقوم بالتصويت على برنامجها. بينما الثاني، وإن كان لا يتجاهل كليا أهمية وإيجابية التغييرات التي حملها دستور 1992، فإنه لم يكن مقتنعا كل الاقتناع بأنها قد أحدثت تحولا أساسيا في مراكز السلطة التنفيذية، بالشكل الذي يسمح بالانتقال من وضعية التنصيب من طرف الملك وحده، التي كنت سائدة طيلة الدساتير الثلاثة السابقة، إلى وضعية التنصيب المزدوج، أي التنصيب من طرف الملك والبرلمان. وإذا كانت الممارسة التي أعقبت صدور هذا الدستور، وكذا الدستور الذي جاء بعده (دستور 1996) قد ذهبت في اتجاه تكريس التنصيب الحكومي الأحادي من جانب الملك، وبالتالي الانتصار للقائلين بالرأي الثاني، فمع دستور 2011، وإن كان التنصيب الحكومي قد ظل أحاديا، فإنه تكرس لصالح البرلمان وليس الملك، إذ أضحى تصويت البرلمان، وتحديدا مجلس النواب، على برنامجها هو الذي يعطيها شرعية الوجود ويضفي الطابع القانوني على تصرفاتها وأعمالها. ولكن، يبدو أن حل هذه الإشكالية على المستوى النظري، أي من خلال النص، لم يمنع من أن تظل قائمة في واقع الممارسة، التي لا تزال تجعل من التنصيب الحكومي اختصاصا ملكيا و"مجالا محفوظا" له. وهذا الأمر كان قد برز مع "حكومة بنكيران الأولى"، حينما كان تعيين الملك للوزراء كافيا لإقدام هؤلاء على تنظيم مراسيم تسليم السلطات مع نظرائهم في الحكومة السابقة ومباشرة مهامهم القانونية دون انتظار تصويت مجلس النواب على البرنامج الحكومي، قبل أن يعود من جديد لكي يعلن عن نفسه مع "حكومة بنكيران" في طبعتها الثانية. فمع هذه الحكومة كان أيضا تعيين الملك لأعضائها كافيا لاستلامهم لمهامهم ولانطلاقهم في مباشرة أعمالهم وممارسة اختصاصاتهم. بل ولانعقاد مجلس حكومي وآخر وزاري كان مطروحا على جول أعماله مشاريع نصوص قانونية على درجة كبيرة من الأهمية (ثلاثة مشاريع قوانين تنظيمية، والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية). وهذا الأمر يبدو، في تقديري، انتهاكا صريحا للدستور واعتداء واضحا على أحد أهم المقتضيات التي حملها، ويبرر إمكانية الطعن في مدى قانونية الأعمال التي تقوم بها هذه الحكومة، خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار أننا لم نكن أمام مجرد تعديل حكومي جزئي، غادر فيه وزير أو بعض الوزراء المناصب التي كانوا يشغلونها وتم تعويضهم بوزراء جدد، وإنما إزاء حكومة جديدة كاملة الأوصاف والأركان. وهذه بعض المعطيات التي تبين ذلك: أولا، حديث بلاغ الديوان الملكي الصدر بتاريخ 22 يوليوز 2013، والمتعلق بقبول الملك لاستقالة وزراء حزب الاستقلال الخمسة، عن "تشكيل أغلبية حكومية جديدة"، بكل ما يعنيه ذلك من إقرار واضح ب"انهيار الأغلبية القائمة"، وإعطاء إشارة الضوء الأخضر لانطلاق مفاوضات بناء أغلبية جديدة تنبثق عنها حكومة جديدة. وهذا الأمر هو الذي أعاد بلاغ آخر صادر عن الديوان الملكي في أعقاب الإعلان عن تشكيلة الحكومة التأكيد عليه في مناسبتين. الأولى عندما أخبر عن ترأس الملك ل"مراسيم تعيين أعضاء الحكومة الجديدة"، والثانية عندما أشار إلى أن مراسيم التعيين اختتمت بأخذ الملك لصورة تذكارية مع "أعضاء التشكيلة الحكومية الجديدة" (أنظر بلاغ 10 أكتوبر 2013 المنشور بالموقع الإلكتروني لوكالة المغرب العربي للأبناء في نفس التاريخ). ثانيا، الكيفية التي جرى بها تعيين أعضاء الحكومة، إذ لم يكتف الملك بتعيين الوزراء الجدد الذين عززوا الفريق الحكومي، والوزراء الذين انتقلوا للإشراف على قطاعات حكومية ليست هي تلك التي كانوا يشرفون عليها في الحكومة السابقة، بل جرى استقبال وتعيين جميع الوزراء التسعة والثلاثون، كل واحد باسمه ومنصبه. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن ظهير 14 أكتوبر 2013 المتعلق بتعيين الحكومة، والمنشور بالجريدة الرسمية (عدد 6195 بتاريخ 14 أكتوبر 2013)، لم يكتف بالإشارة فقط إلى التغييرات التي حصلت على مستوى الوزراء والقطاعات الحكومية، بل تضمن أيضا التشكيلة الكاملة لجميع وزراء "حكومة بنكيران الثانية". ثالثا، استناد تشكيل الحكومة على أغلبية جديدة أصبح فيها حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي كان بمعية أحزاب سياسية أخرى قد رفض المشاركة في الحكومة السابقة وعارض برنامجها، يحتل مكانة مهمة فاقت المكانة التي كان يحتلها حزب الاستقلال الذي غادرها واختار التموقع في إطار المعارضة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن "الحزب الأزرق" قد تمكن من انتزاع ثمانية حقائب وزارية، تسمح له بالتحكم في قطبين حكوميين على درجة كبيرة من الأهمية (القطب المتعلق بالخارجية، والقطب المتعلق بما يمكن تسميته بالاقتصاد الاجتماعي..). وهي المكانة التي يفترض أن تتعزز إذا ما كان الاتفاق الذي حصل بين الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ورئيس التجمع الوطني للأحرار يقضي بتولي هذا الأخير لرئاسة مجلس النواب خلال الدورة الربيعية المقبلة للبرلمان، بالنظر إلى أن الدستور ينص على تجديد انتخاب هياكل مجلس النواب (الرئيس وأعضاء المكتب، ورؤساء اللجان الدائمة ومكاتبها) في السنة الثالثة من كل ولاية تشريعية. رابعا، إعادة الهيكلة الشاملة التي خضعت لها "البنية التنظيمية" للحكومة، والتي تظهر سواء من حيث ارتفاع عدد وزرائها (من 32 إلى 39)، أو من حيث العدد الضخم الذي أضحى يمثله الوزراء المنتدبون داخلها (13 وزيرا منتدبا)، أو من حيث التغيير الذي حصل في خريطة توزيع الحقائب الوزارية بين الأحزاب المكونة للأغلبية الحكومية (استفادة كل من الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية من مقاعد إضافية)، أو من حيث حجم الحضور الذي أضحى لوزراء ووزارات السيادة، ليس فقط من ناحية العدد (8 وزراء) بل وأيضا من ناحية أهمية وحساسية القطاعات الحكومية التي يتولون الإشراف عليها (التعليم، الداخلية، الأوقاف والشؤون الإسلامية، الدفاع، الأمانة العامة للحكومة، الشؤون العامة والحكامة، الفلاحة والصيد البحري...). خامسا، إعلان رئيس الحكومة عن تشكيل لجنة تضم ممثلين عن الأحزاب المكونة للأغلبية الجديدة تتحدد مهمتها في تعديل وتدقيق البرنامج الحكومي الذي سبق أن قدمته الحكومة السابقة وصوت عليه مجلس النواب. الشيء الذي يطرح معه التساؤل حول كيف يمكن تعديل البرنامج الحكومي، الذي على أساسه كان مجلس النواب قد أعطى تأشيره المرور للحكومة السابقة دون أن يخضع هذا البرنامج من جديد للموافقة البرلمانية. والموافقة تعني هنا مناقشة مجلس النواب للبرنامج الحكومي والتصويت عليه وفقا للمسطرة المنصوص عليها في الفصل 88 من الدستور، وليس وفقا لمقتضيات الفصل 103، كما قالت بعض الآراء. لأن هذا الأخير وإن كان هو الآخر يسمح بمنح الثقة للحكومة بناء على تصويت في مجلس النواب، فإنه يختلف عما ينص عليه الفصل 88، من جهة في كونه يندرج في إطار الآليات الرقابية التي يتيحها الدستور للبرلمان لمراقبة عمل الحكومة، حتى ولو أن تحريكه يتم بمبادرة من هذه الأخيرة، ومن جهة ثانية لأن اللجوء إليه يرتبط إما بتقديم تصريح حول السياسة العمومية أو نص وليس برنامج الحكومة، ومن جهة ثالثة لأنه لا يروم إعطاء شهادة الميلاد لحكومة قيد التشكل ولم تستكمل بعد الشروط القانونية المطلوبة في تنصيبها، بقدر ما يهدف إلى أخذ رأي ممثلي الأمة في مدى موافقتهم أم لا على استمرار حكومة قائمة الذات، ولكن ظروفا معينة جعلت ثقة البرلمان وربما الشارع تهتز فيها. أخذا بعين الاعتبار هذه المعطيات،إذن، يبدو أننا أمام حكومة جديدة كان يفترض أن يستتبع تعيينها من طرف الملك خضوع برنامجها الجديد للتصويت أمام مجلس النواب. وبالتالي، فإن فرق المعارضة عندما استغلت أول جلسة لمجلس النواب في دورته الجديدة للمطالبة ب"التنصيب البرلماني" للحكومة، كان موقفها سليما من الناحية الدستورية، ولا يهم ما إذا كانت جادة في هذا الموقف وستذهب إلى أبعد الحدود في الدفاع عنه، أم أن طرحها له كان لمجرد إحراج الحكومة الجديدة، وبصفة خاصة رئيسها، الذي كان قبل يومين فقط من انعقاد تلك الجلسة قد استغل برنامجا تلفزيونا مثيرا لمهاجمتها والتقليل من شأنها ومن امتداداتها.