الوضع الاعتباري للثقافة والمثقف في بلداننا العربية لقد بات من المؤكد في عصرنا الحالي بأن رهان التفوق ما بين الأمم هو تملك ناصية البحث العلمي بمختلف تشعباته وتخصصاته .لامجال للتفريق بين الحقل وذاك بحيث أن الجسم المجتمعي يحتاج لمختلف الفنون والعلوم ومجالات المعرفة والإبداع في شمولية وتماسك وتناسق. "" ذلك أن تفاعلهم المستمر والمتكامل يمكن من صحة جيدة لمختلف أعضائه ، ويؤدي بالتالي إلى فعالية ملموسة على مستوى الحياة اليومية عبر مختلف مجالاتها و مرافقها. ولعل رهان المستقبل يتم تحديده من خلال الوضع العام للجامعة ومراكز البحث ومعاهد التكوين ...وللوضع الاعتباري للباحث والعالم والمفكر والمبدع بشكل عام . إنه القوة الدافعة والمتحكمة في آليات كل تنمية او إقلاع او تواجد حتى ما بين الأمم والحضارات ،علما ان المنجزات المادية آيلة للزوال إن عاجلا أم آجلا . وحدها الأمور الرمزية تبقى شاهدة إثبات على حضارة ما داخل حياة فانية لامحالة. وضعية البحث العلمي في العالم العربي: هذه البديهية لامحل لها من الإعراب داخل البلدان النامية ،المتلهفة نخبها حتى الموت على السلطة وما أدراك ما السلطة ريعا واستفادة وامتيازات. أو المتوجسة من بطشها وطغيانها حد التقوقع والانحسار . ويكفي الإطلالة على المؤشرات التالية لفهم وضعية البحث العلمي ببلدان العالم العربي . *نسبة الإنفاق على البحث العلمي و التطوير في البلدان العربية لا يتجاوز ما معدله 0.2 % من مجموع الدخل القومي لجميع الدول العربية (في الدول المتقدمة تبلغ النسبة2.5-5 %) و لا يساهم القطاع الصناعي في هذه النسبة الضئيلة بأكثر من 3% وكنتيجة لذلك فان معدل الأبحاث العلمية المنشورة (لكل مليون نسمة) في البلدان العربية لا يتجاوز 2% من نفس المعدل في الدول الصناعية وهذا الوضع يخفي وراءه شروطا متدنية لأوضاع البحث و الثقافة والإبداع وحتى الاختراع ..... • الشروط التدبيرية لكثير من المؤسسات المرتبطة بعالم الفكر والمعرفة والثقافة . • طبيعة آليات إنتاج وصناعة النخب . • القيم الاجتماعية السائدة المتحكمة في معايير النجاح الاجتماعي . هذه العوامل كلها تبرهن بالملموس على كوننا خارج التغطية ،بمفهوم الحداثة الحقيقة كما أريد لنا أن نكون من طرف أصحاب القرار دوليا و محليا حتى تبقى وظيفتنا استهلاكية تبعية وذيلية لا نتقن شيئا أكثر من الاستهلاك السطحي والفج وفي أحسن الاحوال الانبهار بعقول كتب لها أن تنشأ حيث يمكن أن تنمو وتزدهر وتبدع عوض أن تلجم وتحبط وتكبح . البعد العصامي أو النضال المعرفي : يكاد يجمع اغلب المشتغلين بالحقل المعرفي والثقافي على تردي الشروط الموضوعية التحفيزية المادية منها والمعنوية ، وبالتالي فإن العديد ممن تمكنوا من تحقيق بعض النجاح والتالق هم عصاميون او مناضلون معرفيون استنفروا كل طاقاتهم الذاتية لتحقيق ما تمكنوا من إنجازه على حساب امور حياتية أخرى،بصبر أيوب أو مثابرة اسثنائية اللهم إلا من حظي منهم بدعم هيئات أو مؤسسات ،وهم قلة على أية حال وهذا حق قد يتحول على امتياز في بلدان ندرة الحقوق هذه. المركز الاجتماعي للمشتغل بالحقل الفكري : قد يكون من المنطقي في بلدان تتجاوز فيها نسبة الأمية الأبجدية 60 % وتتعدى فيه الأمية المعرفية هذا الرقم بكثير أن لا يحظى المشتغلون بعالم الفكر و المعرفة بالاعتراف المنشود .ذلك أن مجتمعا بهذه المواصفات لا بد أن ينتج معاييره الخاصة "للنجاح الاجتماعي " حسب القيم السائدة فيه وحسب مستوى الإدراك العام. فلا بد أن تتبوأ الإنجازات المادية والملموسة صدارة هذه المعايير بغض النظر عن شروط وظروف تحقيقها. وحيث أنه نادرا ما يتوازى الرصيد العلمي أو المعرفي مع الرصيد المادي ،بل حتى مع الموقع الوظيفي )داخل الإدارات العمومية بالخصوص) ،فإن تموقع هؤلاء داخل المجتمع غالبا ما يكون باهتا أو هامشيا حسب الوضعية والمعايير السائدة . ومن ثم فلا عجب أن نجد المغني الشعبي ( الذي قد يتغنى بكلام منحط وبذيء) أكثر نجومية وشعبية من المطرب والفنان أو الموسيقي المبدع . وأن يكون النجم الرياضي أكثر تألقا واعترافا و ثروة واستثمارا من المفكر او الفيلسوف أو الكاتب او الباحث الموهوب في هذا المجال أو ذاك من فروع المعرفة الرمزية . وان تكون بعض "الخلائق" ذات الأخلاق الرديئة أقرب إلى مدارات النفوذ وأكثر قدرة على قضاء المآرب من أي عالم أو مبدع و مبدعة . ولاعجب أيضا أن يكون الربح المالي لعدد من الحرفيين :كالرصاص أو النجار أو حتى نادل المقهى أحيانا ...أو أية مهنة لا تتطلب تحصيلا محترما أو مهارات راقية ..أهم بكثير من ربح المعلم أو حتى الأستاذ..او بعض أنواع الصحافيين أو التربويين ... بدون أن نتكلم عن بعض أشكال الإبداع التي لازالت غير مقننة او منظمة او في الطريق إلى ذلك )في بلد كالمغرب) كالمسرح والسينما والفن التشكيلي او الموسيقى....او الشعر والقصة والرواية . من هذا المنطلق نتفهم ذلك الرصيد الهام من النكات والأمثال التحقيرية التي انتجها المجتمع ضد المدرسين بشكل عام والمعلمين منهم بشكل خاص . باعتبارها المهنة الفكرية الأكثر قربا والتصاقا بالمجتمع ...لأنه بالتأكيد يجهل مهن البحث والإبداع الأخرى او على الأقل هي أقل تداولا وانتشارا من مهن التدريس و إلا لغرفت بدورها نصيبها من التحقير مثل ربيبتها التعليمية داخل نسق القيم المنقلبة على رأسها حيث يحظى النجاح المادي ولو على مطية الانحراف بانواعه بتزكية قلما تثير التساؤل في زمن التواطؤ المكشوف هذا.. ! علما انه بالأمس القريب ،كانت حضارتنا العربية تبويء الفقيه والعالم مكانة التبجيل والاحترام وتقر بان المعلم كاد أن يكون رسولا حيث قال الشاعر : قم للمعلم وفه التبجيلا..........كاد المعلم أن يكون رسولا فمكانة المعلم هي استمرار لمكانة الفقيه في ابسط درجاته (معلم الكتاب الديني) التي كانت شخصية محورية في الدوار أو الحي بل حتى القبيلة كلها او المدينة حسب درجة علمه ومعارفه .فما ادراك بالعالم والمفكر الذي كان يتماهى مع مكانة الأنبياء واولياء الله الصالحين داخل الوجدان العام. لكننا نعيش الآن للأسف وضعا مختلفا إن لم نقل عكسيا . انحسار او على الأقل تهميش للمبدع والمثقف . ذلك ان اغلب الفضائيات العربية تحرس على تأثيت برامجها بانواع معينة من المنتوجات التي تتوافق مع استراتيجية إعلامية تعمل على مخاطبة الأجساد و الغرائز قبل العقول ....وتكرس وضعية التخلف والتجهيل اللهم إلا استثناءات قليلة وفقها الله في رسالتها السامية. الاستثمار الملتبس للثقافة والمثقفين : داخل سياق بهذه المواصفات ،لايمكن للمثقف إلا ان يكون مناضلا للحصول على اعتراف ما ..وللنضال أشكال مختلفة .فإما أن يدخل في جبة السياسي أو على الأقل يتشبث باهدابها علما بأن الهيمنة السياسية لازالت تلقي بظلالها على الكثير من المجالات ذات الطابع الثقافي .وإما أن يكون مناضلا معرفيا عصاميا يواجه اختياره الصعب بوسائل فردية محضة . ومن ثمة غدا التأرجح ما بين النضالية والاحتراف لازمة لكل عمل ثقافي او فكري أو على الأقل لأغلبهم.يتم استثمار هذا المجال لصالح ذاك بحق أو بدونه .استثمار قد يصل درجة الاستغلال احيانا،حيث تبتلع الحقوق باسم النضال من أجل غايات هي في الحقيقة شخصية او فئوية مغلفة بيافطة المصلحة العامة. ذلك أن من ينتج منتوجا رمزيا غالبا ما يتماهى في إدراك بعض الفاعلين مع "بضاعته" ويتحول إلى كائن هلامي مجرد من أية حاجيات معيشية ملموسة يجب تحقيقها او يتم استغلال تعففه من مناقشة الأمور المادية للسطو على حقوقه من غير رحمة. ذلك أن مؤلف كتاب ما ،قلما يغطي مصاريف طبعه وتوزيعه أو على الأقل نادرا ما يفكر في ربح لن يتنازل عنه الناشر أو الطابع أو الموزع أو أية حلقة من حلقات إنتاجه . وحده المؤلف يحتفظ له بمكانة المتطوع داخل سلسلة مهنيي إنتاج الكتاب أو البرنامج التلفزيوني أو...و وقد يتم العمل بكل مكر على استثمار هذا التعفف الناتج عن ثقافة النضال بالأمس القريب كأقصى أشكال الاحترافية من طرف فاعلين جدد يبرزون شطارتهم في إنتاج منتوج بأقل تكلفة وبشعارات يمكن القول أنها لا تخلو من التباس. نفس الشيء يحدث بالنسبة لأغلب النشاطات الفكرية أو الثقافية حيث يتم تأدية مصاريف الإقامة والتغذية والقاعة والممون وفتيات الاستقبال والمطبعة والميكروفون والنادل والمصور ...ولن يتنازل المنظمون بالتأكيد عن أي قرش يصرفونه او يعتقدون في أحقيته لدى الجهة المتعهدة بتمويل النشاط . داخل هذه السيرورة يكون صاحب "المساهمة الفكرية " هو المتطوع الأوحد رغما عن أنفه حيث يتعامل معه كمناضل يساهم في التوعية والتحسيس والأدهى من ذلك أن يتم اعتبار الإقامة والتغذية شكلا من اشكال تعويضات الخدمة . امتداد لشكل التعامل مع "الطلبة" ( حفظة القرآن ) حيث كانوا يقايضون تدريس الأطفال مقابل التغدية والإيواء ودريهمات يوم الأربعاء . التباسات عديدة تصاحب العديد من الأعمال ذات الطابع الفكري ،وتنم بالملموس عن الوضع الاعتباري لهؤلاء داخل مجتمعات ينخرها الجهل والفساد وتطفو على سطحها قيم مشوهة داخل واقع اكثر تشوها بتركيباته العديدة. عائشة التاج / باحثة اجتماعية