منذ تأسيسها في أواخر الخمسينات، عرفت الجامعة المغربية في مسارها التاريخي تطورا مهما في مجال التكوين المعرفي و الاقتصادي و الاجتماعي للمغرب.حيث استجابت الجامعة المغربية عبر كل هذه المراحل لحاجيات التطور العام للبلد و رافقت عمليا مشروع »البناء الدولتي« و ما عرفه المغرب من تطورات سياسية و ثقافية و اجتماعية.فذاكرة المغاربة تحتفظ للجامعة بتلك الرؤية التي تعتبرها، علاوة عن وظيفتها في مجال التربية و التكوين، مؤسسة ومنارة وطنية لإنجاز مهام التنوير في المجتمع المغربي و قلعة لبث الفكر الحديث و العقلاني و فضاء لتلاقح الأفكار و نشر قيم الحوار و التسامح بين مكونات الجامعة في تدافع سلمي و حضاري بين جميع المدارس و التوجهات بمختلف مشاربها.لكن ما الذي تغير اليوم؟ ولماذا أضحت الجامعة المغربية موضع اتهام وانتقادات لاذعة تناولتها العديد من الندوات والمؤتمرات واللقاءات على المستوى الوطني والتي وضعت الإصبع على مختلف المؤثرات المباشرة التي كانت وراء فشل دور الجامعات في بناء المغرب الحديث، الاقتصادي والسياسي والمعرفي. في ضوء هذه البانوراما عن أوضاع الجامعة المغربية بعد خمسين سنة عن تأسيسها، نتساءل من يتحمل المسؤولية؟ ولماذا فشلت جامعاتنا في ما نجحت فيه جامعات غيرنا؟ ثم هل الجامعة المغربية كانت وفية لشعار انفتاحها على محيطها الاقتصادي والاجتماعي؟و هل من دور للجامعة في مغرب اليوم؟. للإجابة عن هذه الأسئلة و رصد واقع الجامعة المغربية من زوايا متباينة و بأصوات مختلفة ومتخالفة أحيانا و التي تسلط بعض الضوء على دور الجامعة في مغرب اليوم بكل اكراهاته و تحدياته، اتصلت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» ببعض الأطراف التي يعنيها أمر الجامعة المغربية و نقلت إليهم انشغالات الشارع المغربي بمختلف أطيافه السياسية و الفكرية و الثقافية و الاقتصادية و الاجتماعية و التي تتطلع إلى بناء مغرب الجامعات والبحث العلمي ومؤسسات المجتمع المدني. أولى الإجابات عن أسئلتنا حملها إلينا الأستاذ عبد الرحمان طنكول، عميد كلية الآداب و العلوم الإنسانية (ظهر المهراز) بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، والذي يرى: «بأن الجامعة المغربية تمر في الوقت الراهن بمرحلة جد صعبة في مسارها التاريخي بسبب الهزات التي عرفها العالم منذ نهاية القرن الماضي و بداية القرن الجديد،كما أن علاقتها بالمقاولة لم ترقى بعد إلى المستوى المطلوب و بالتالي لم تستطع تغير العقليات حول أهداف التكوين الذي تقوم به.لكن مهما تعددت المعوقات التي تعاني منها الجامعة المغربية،فهي لا تدخر جهدا من أجل القيام بدور طلائعي داخل المجتمع بهدف النهوض به و ترقيته ليكون في مستوى التنافسية العالمية. ولعل هذا لن يتحقق إلا بمساهمة الجامعة بحرص اكبر على تعزيز مباديء الديمقراطية و إشاعة ثقافة المواطنة و الحكامة الجيدة و تنويع العرض التربوي باتجاه بناء اقتصاد المعرفة و تحديث أساليب التعليم ونشر المعارف الحديثة عن طريق التوطين الامثل لآليات التكنولوجيا و تقنيات التواصل، دون أن ننسى دور الجامعة في ربط الجسور مع سوق الشغل و عالم المقاولة ودعم البحث العلمي بكل أصنافه وما يتطلبه من انخراط كلي في شبكات التعاون الدولي و اعتماد تدبير فعال لمختلف مكونات الجامعة المغربية و إرساء قواعد التقويم و الجودة. ولعل الاعتمادات المالية الهامة المرصودة للجامعة المغربية في إطار البرنامج الاستعجالي، ستساهم لا محالة في تحقيق الشيء الكثير من هذه الأهداف المرجوة،لكن لا ينبغي أن يغيب عنا انه من مسؤولية الجميع دعم مهام الجامعة و طموحها في بناء مجتمع حداثي،كما يتوجب على المقاولة المغربية بالدرجة الأولى أن تتحمل مسؤولياتها في هذا المجال، فإذا كانت غايتها الأساس- و نعتقد ذلك- هي السعي للخلق و الابتكار فان خير داعم لها للوصول إلى تلك الغاية هو الجامعة باعتبارها ورشا كبيرا لصناعة المستقبل.ويبقى الأكيد هوان الجامعة المغربية بالرغم من الانتقادات القاسية التي توجه إليها،لم تنهى قط عن المهام التي أنيطت بها منذ إحداثها إذ يعود إليها الفضل في تكوين عدة أجيال من الأطر المتوسطة و العليا التي تساهم اليوم في بناء دعائم الاقتصاد الوطني». فالخلاصة التي انتهى إليها الأستاذ عبد الرحمان طنكول، يعاكسها الأستاذ الجامعي عبد الرحمان العمراني الذي اختار المغادرة الطوعية لمهمته التربوية منذ 3 سنوات و الذي يرى من جهته بأن :» الجامعة المغربية عرفت تحولا ابتداء من أواخر الثمانينات، أصبح خلالها الجسم الجامعي أمام تناقض وتفاوت ما بين الجامعات والمدارس والمعاهد العليا. بحيث أصبحت الجامعات إطارات تستقبل أفواج الطلبة الحاصلين على الباكالوريا ممن لم يتمكنوا من إيجاد موطن قدم في المدارس و مؤسسات المعاهد العليا.خلال هذه المرحلة بالذات اعتقد بان الجامعة المغربية دخلت في أزمة بسبب هذه الثنائية التي لم تحد من تمظهراتها سلسة الإصلاحات التي انطلقت مع أواخر الثمانينات و التي سعت إلى تقنين و تطوير العملية التعليمية و البيداغوجية،وهنا ظهر شعار انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي و الاجتماعي.ولكن شخصيا اعتبر أن هذا الشعار كان للاستهلاك فقط بحيث أن الجامعة المغربية لم تستطع ترجمة هدف الانفتاح على اعتبار أن البحث العلمي و الجامعي لم يشكل تلك الجسور المنظمة التي تمكن الجامعة من لعب دورها العلمي اللهم بعض الاستثناءات القليلة التي لعب فيها الأساتذة الجامعيون دورا أساسيا و هنا أسوق تجربة يعض كليات العلوم التي ارتبطت ببعض المؤسسات عن طريق عقد للبحث العلمي.فالتصور الذي كان قائما أواخر الثمانينات و الذي جعل من الجامعة مؤسسة تقنية تسعى إلى تخريج أفواج الراغبين في الولوج إلى سوق العمل،ضيع عنها وظيفتها الإشعاعية و التكوينية و المعرفية المنيطة بها.لذلك يتوجب علينا اليوم بان نبحث عن التوازن المطلوب بين الجامعة كإطار لتخريج الأطر و الجامعة كمنبر لإنتاج الفكر العقلاني و إشاعة المعرفة.فالغريب هو أن الجامعة المغربية التي لم تكن لديها إمكانيات كبيرة في مرحلة السبعينات و الثمانينات، تمكنت من إنتاج أجود النخب والأطر التي يعتمد عليها المغرب في العديد مناحي تدبير الشأن العام.الآن مع وجود تحسن على مستوى المضامين في ظل ثورة المعلومات و المناهج و تكنولوجيات التواصل، نلاحظ تراجعا بالمستوى التعليمي للطلبة يعاني منه المشتغلون بالعملية التربوية.ولعل ذلك يعزى - في نظري - إلى وجود إشكالية الحافز المطروحة بالنسبة للجامعة التي أصبحت تحتاج إلى منحها دورا جديدا، مادام أن الكل يقر بان وظيفتها المنحصرة في إنتاج المتخرجين الذين يلجون سوق الشغل لا يمكنها بان تستمر.وفي نفس الوقت تبدو الاختيارات القائمة لا تعطي للجامعة دورا للتكوين العام للمجتمع ككل.فتجربة الجامعة المفتوحة التي أبدعت فيها الحكومة الماضية كان من المفروض بان تدفع الجامعة المغربية بموازاة مع دورها التكويني بان تنفتح على كل فئات المجتمع ممن يريدون الاستزادة من العلوم والمعارف أو في الحياة المهنية.غير أن المقاربة التقنوقراطية للحقل الجامعي والتطورات المطلوبة فيه و التفاعلات القائمة بين مكوناته،لم تمكن الجامعة من لعب هذا الدور.فنحن اليوم نحتاج إلى حوار وطني جديد يأخذ بعين الاعتبار تراكمات السنوات الأخيرة و خاصة بعد أن تم وضع الميثاق على محك التجربة و ما يتطلبه ذلك من نبذ للثنائية الجامدة ما بين العلوم الحقة و التخصصات المعرفية المهتمة بالانسانيات (العلوم الإنسانية، التاريخ، الآداب، الفلسفة والعلوم السياسية) فلعل هذا الفصل الجامد خلق لدينا نوعا من الانعزالية وسمح بظهور الفكر العلمي المعملي من جهة و الفكر الخرافي عند المشتغلين بالعلوم من جهة ثانية والذي يصعب نعته بالعلمي.من هنا نجد أن مطلب إعادة تحديد دور جديد للجامعة المغربية أضحى يطرح نفسه اليوم بشكل كبير لإعطاء الجامعة شمولية اكبر ليس فقط تكوين الأطر و التعامل معها كأنها «غيطوات» معزولة عن محيطها بل لابد من منحها ذلك الدور الذي يضعها أمام مسؤولياتها اتجاه المجتمع وتطوير التكوين العام لمختلف مكونات المجتمع المغربي حتى يتحقق وفاؤها العملي لشعار انفتاح الجامعة على محيطها الاقتصادي و الاجتماعي». و في السياق ذاته، يرد عضو اللجنة الإدارية للنقابة الوطنية للتعليم العالي وأستاذ مادة القانون العام بكلية الحقوق بفاس، عسو منصور، بقوله:« إن الجامعة المغربية و في إطار الإصلاحات التي عرفتها،أصبحت منفتحة أكثر على محيطها الاقتصادي والاجتماعي.أما من حيث المناهج و البرامج و المضامين الجديدة التي همت منظومتها التربوية فقد أضحت الجامعة المغربية متطورة أكثر و قادرة على الاستجابة لمتطلبات التنمية الجهوية والوطنية.لكن مع ذلك هذا لا يعني أن الجامعة في الوقت الحاضر تلعب دورها المنوط بها كاملا،فهي تعاني من بعض الصعوبات و التحديات و في مقدمتها ضعف الموارد المالية المخصصة لإنجاز الإصلاح.فالإصلاح الأخير تطلب إمكانيات مادية و موارد بشرية ضخمة.لكن الظاهر أن الموارد المرصودة تبقى دون مستوى احتياجات الجامعة.ومع ذلك فان الجامعة ماضية في لعب دورها كقاطرة للتنمية و فضاء للتاطير و نشر الثقافة و إشاعة الحداثة و القيم المغربية الأصيلة في أوساط المجتمع المغربي.من هنا أؤكد على أن الرهان على الجامعة و على البحث العلمي هو أساس كل تنمية حقيقية في المستقبل.فالدول التي راكمت التجربة في مجال التعليم و البحث العلمي والتي أصبحت تلعب دورا متقدما و متطورا في مجال الإنتاج التكنولوجي و الصناعي و الإنتاج السمعي البصري هي الدول التي اسثمرت في البحث العلمي كاليابان وألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية. واعتقد بأنه يتوجب على الدولة المغربية تخصيص ما يكفي من الاعتمادات المادية و الموارد البشرية من اطر تربوية وإدارية للنهوض بالجامعة المغربية وتأهيلها لتلعب دورها كاملا في مجال التنمية.بحيث لا تنمية بدون علم و بدون بحث علمي وبدون الاهتمام بالعنصر البشري الذي هو هدف التنمية و أداتها. فالنسبة المخصصة اليوم للبحث العلمي و المحددة في 0,7 بالمائة من الناتج الداخلي الخام،فهي نسبة جد ضعيفة لا يمكنها بان تسوق الجامعة إلى تقوية دعائم البحث العلمي و تدعيم دورها في إشاعة قيم الديمقراطية و الحداثة و حقوق الإنسان». من جهتهم أبا الطلبة إلا أن يدلوا بدلوهم في هذا الموضوع الذي ساقته جريدة «الاتحاد الاشتراكي» إلى دائرة النقاش لما له من أهمية ودور و لكونه يستجيب للمرحلة الآنية وما تطرحه من تحديات حيال دور الجامعة المغربية في بناء مغرب المستقبل.حيث ترى طالبة الماجستير في المنازعات القانونية العامة بكلية الحقوق بفاس، سعيدة صاحب بان المهمة التقليدية التي أنيطت بالجامعة في مجال إنتاج النخب المثقفة و المفعمة بقيم الحداثة و الفكر والمعرفة والبحث قد تراجعت بحكم تزايد اهتمامات الطالب بالتكوين المؤدي إلى سوق الشغل أضف إلى ذلك مساوئ منظومة إصلاح التعليم العالي الذي لا يساعد على تأهيل الطالب وتكوينه. أما طالب الإجازة بإحدى كليات ظهر المهراز بفاس والذي فضل عدم ذكر اسمه فيعتقد بأن:« تعامل الجهات المتعددة التي تتدخل في شؤون الجامعة المغربية ما زال يطغى عليها الهاجس الأمني بالدرجة الأولى. وهي المقاربة التي يرى فيها الطلبة الأداة التي غيبت حقيقة الجامعة المغربية و أفسدت صورتها البراقة في ذهن الطلبة.لتصبح الجامعة فضاء لقليل من العلم ومجال لكثير من الأشياء.بحيث أضحت جامعاتنا مقبرة للإبداع و المعرفة بسبب إصرار البعض المستمر والمستميت لجعلها مؤسسات بيروقراطية ينتهي عملها بشكل بيروقراطي محسوب من خلال ساعات معينة حتى لو كانت مسائية. كما أن الكثير من جامعاتنا وبقدر قدرتها على تخريج الطلاب أصبح لديها قدرة على تهجير الأساتذة والأكاديميين خارج إطارها بل إنها لم تعد بيئات جاذبة وأصبح الأستاذ الجامعي يفهم دوره في المشاركة الاجتماعية من خلال كم الاستشارات التي يؤديها خارج نطاق عمله. فالبيئة الجامعية هي وحدها القادرة على صناعة مفاتيح التحضر والتقدم وهي وحدها القادرة على محاربة التخلف والتقهقر والتشدد والتطرف كذلك لذلك يجب أن يقف المجتمع خلفها بطريقة داعمة وخصوصا الجهات المسئولة وان تُمنح جامعاتنا فرصة اكبر لتغيير جلودها التي مر عليها زمن طويل وان تعاد قراءة مهامها وسياساتها بطريقة تجعلها أكثر انفتاحا على المجتمع وخدمته. كما أننا بحاجة إلى أن نفتح أبوابنا لكل مؤسسات التعليم العالمية العريقة بتسهيل فتح فروع لها وتشجيع تواجدها فبوجودها تخلق المنافسة ويفتح مضمار السباق نحو الأفضل». وبين هذه الآراء وتلك الانطباعات تبقى جامعاتنا، بحسب ما ذهب إليه العديد من الملاحظين والمهتمين ممن حاورناهم وتحدثنا إليهم، بعيدة عن دورها في ملامسة طموحاتنا بالشكل الذي نتمنى وهي ليست وحدها من يغيب عن الدور الاجتماعي بشكل شبه كامل فلدينا مؤسسات وشركات تجارية يملكها مواطنون وتجني أموالا طائلة ومع ذلك لا تقدم تلك المؤسسات شيئا يمكن تذكره في الدنيا من اجل الإنسان وليس من اجل أهداف ميتافيزيقية تمر عبر الإنسان..لكن تبقى الجامعة أمل الأمة المغربية التي تريد أن تبني لها مجداً وعزاً وتصون استقلالها وتراعي تراثها وتحافظ على نمائه وكماله.