باستقراء معاجم اللغة ومراجع البحث الفلسفية عن القيم، جمع قيمة، يتبين أن معناها يشير عموما إلى المبادئ والمعايير والموجّهات التي تُقاس في ضوئها الأفكار والمعتقدات والسلوكيات السائدة في المجتمع. ويتعدّد المفهوم الخاصّ للقيم بتعدد خلفياتها الفكرية التي يمكن إدراجها إجمالا في اتجاهين، أحدهما مُطلق يقول بأن القيم حقائق ثابتة وقواعد كاملة لا يتطرق إليها الشكّ، صالحة لكلّ زمان ومكان بحسب آراء أفلاطون وبرتراند راسل وديكارت، وغيرهم من معتنقي الفلسفة المثالية. فعندهم الحقّ مثلا والخير والجمال قيم موجودة في ذاتها، خالدة غير قابلة للتغيير أو الزوال؛ أما متبنّي الفلسفة الواقعية فالقيم عندهم بدورهم مطلقة وحقيقية إلا أنها لا تتجاوز الخبرة الإنسانية الحياتية وليست فوق إدراكها، بل يمكن في نظرهم اكتشافها بإعمال العقل وتقديرها بالمشاهدة، كما أن حصر القيم المطلقة متأتّ بتحليل مجموعة من القيم العينية التي تستجيب لخصائص العيّنة الإحصائية. وبالرغم من أن هذا البعد المطلق يصعب إخضاعه للدراسة والتفسير العلميين فجون ديوي يلحّ على تطبيق منهج البحث العلمي على مختلف مواضيع التفكير ولا سيما موضوع القيم لتتكيّف مع ظروف الحياة وتتواءم مع مقتضياتها. ظهر الاتجاه النسبيّ منذ أن عزا السفسطائيون القيم إلى الإنسان واعتبروه مقياس كلّ شيء، وأقاموا الأخلاق على وجود اللذة والألم، المنفعة والضرر، الخير والشرّ، ومِن ثَمّ لم يجدوا معنًى لقيم مطلقة، ولا لأحكام في شأنها غير قابلة للتغيير. وبالتالي، فالقيم بالنسبة إليهم مبادئ ذاتية، ليست موضوعية ولا كامنة في الأشياء بل تُسقط عليها، ومعايير مرنة، وموجّهات نسبية تُقاس بنتائجها في المقام الذي تطبق فيه، فإذا كانت الطاعة العمياء قيمة مرغوبة في الجيش (تنفيذ الأوامر والتعليمات) فهي مرفوضة في التعليم لأنها تعوق التربية على الاختيار واتخاذ القرار، وذلكم أحد المداخل التي يرتكز عليها المنهاج الدراسي الثلاث عِلاوة على التربية على القيم ومدخل المقاربة البيداغوجية بالكفايات. أنواع القيم: انطلاقا من أهداف القيم الإنسانية النموذجية الستة التي حددها سبرانجر يمكن استخلاص الأنواع التالية من القيم: النظرية، الجمالية، الاقتصادية، الدينية، الاجتماعية والسياسية. ليس هذا هو التقسيم الوحيد الممكن مادام لا ينفتح، عكس تقسيمات أخرى، على أنواع أخرى من القيم، من قبيل القيم الروحية والوطنية والفردية والأدبية والمادية والمهنية، الخ. وقد يكون التقسيم المذكور منفتحا على الأنواع الأخرى من القيم إما بالتجميع أو الفرز أو بشكل آخر من الأشكال، وحيث إنه يُلجأ عادة إلى التقسيم المنهجي من أجل تسهيل الدراسة وتوسيع الرؤية بتعداد زوايا النظر، وحيث إن المنظومة عموما تتأسس على عدم تعارض جزئياتها فيما بينها من جهة وعلى عدم تعارض الجزئيات مع الكليات من جهة ثانية، فمنظومة القيم قد تشكّل الاستثناء إذ تتسم بتدافع طيفيّ طبيعي بل وصحي في اتجاه مرجع متحرك لا يعترف إلا بحدود وهمية، إذ لا مجال ليربح مجالٌ أراضٍ على حساب مجال آخر، ولا مجال أيضا للحديث عن توازن مستقرّ. وإن كان استقرار المنظومة مطلب البعض فهو ضرب من الأماني في ظلّ وجود قوى حقوقية وسياسية ودينية... تتمسك وتدفع في اتجاه توسيع مستمرّ لمكتسباتها على حساب محدودية الأفق الذهني والكسل الفكري. إن جعل المنظومة أو الاعتقاد بأنها ستكون يوما أحادية القطب تعزف على نغمة واحدة ليس بعيد المنال فحسب، بل قد يكون غاية يخفي بُعدها سلبيتها. وهذا الحَراك الدائم والأصيل الذي يتجاوز إعطاء معنى للحياة إلى كونه من خصائصها يُعلي في نهاية "المعركة" القيمية المطالب المشروعة والعادلة والصالح العامّ فوق المصالح الشخصية والمناسباتية والحسابات الضيقة. بالمناسبة، ونحن الآن في شهر رمضان 1442 ه/ أبريل-ماي 2021، نقرأ مجددا دعوات نشطاء حقوقيين إلى إلغاء أو على الأقلّ مراجعة الفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرّم الإفطار العلني في هذا الشهر، بدعوى أنه يعود إلى فترة الحماية الفرنسية التي رامت سلطاتها من خلاله حماية جالياتها المقيمة في المغرب بعد تكرّر حوادث اعتداء مغاربة على فرنسيين أفطروا في الأماكن العامة، وبدعوى مخالفته للقواعد الكونية لحقوق الإنسان ولا سيما مسألة حرية الضمير وحرية المعتقد التي ينبغي أن تكون مكفولة. الجدل الذي تطلقه هذه الدعوات تذكيه من جهة أخرى مسألة استفزاز المشاعر وحماية من يجاهرون بالإفطار الذين يواجَهون مع الأسف في بعض الأحيان بالضرب والتنكيل. المطالب بالتعديل أو الإلغاء تشمل أيضا الفصل 490 من القانون الجنائي الذي يجرّم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ومدونة الأسرة التي مازالت بدورها محطّ انتقاد بدعوى هيمنة الفكر المحافظ وتكريس القوانين التمييزية والتي صدرت سنة2004 بعد مخاض طويل وتعديل سنة 1993 لمدونة الأحوال الشخصية الصادرة سنة 1957. النقاش بشأن المدونة احتدم مرة أخرى على إثر قرار صدر حديثا عن محكمة النقض يعتبر أن الطفل "غير الشرعي" لا يرتبط بأي شكل من الأشكال بالأب البيولوجي لا بالنسب ولا بالبنوة، الأمر الذي رفضته بالخصوص هيئات نسائية معتبرة من جهتها إياه استمرارا للتمييز ضمن القوانين، وعدم القدرة على مواكبة المواثيق الدولية. عموما، وحتى لا ينطبع لدى أحد أن الصّدم القيمي، وليس التصادم لأنه يقع في اتجاه واحد، منشأه الدين، تغذيه الرغبة في فرض سيطرته على المجالات الأخرى والتضييق على الحقوق والحريات، أو يبدو وكأنه يخصّ بلدا معينا دون آخر أو كأنه أكثر من كونه حادثة طريق انحرف فيها مجرى الماء وحاد لأنه لم يجد له سبيلا ممهّدة، سهلة أو وعرة، فشقّها بنفسه، يمكن إجمال ظروف التعددية القيمية التي لا تفسد الحياة الطيبة بتواجد قيم متغايرة ومتباينة، فيما يلي: عقلنة العالم التي اقترنت بتعددية القيم قامت على مبدإ التعارض بين العقل والدين، وأفضى هذا التعارض إلى التسيّب العقلي؛ الليبرالية التي اقترنت بالتعدّدية القيمية قامت على مبدإ التعارض بين السياسة والأخلاق، وأدى هذا التعارض إلى التسلّط السياسي؛ صدام الحضارات الذي اقترن بالتعددية القيمية قام على مبدإ التطابق بين الثقافة والأخلاق، وأدى هذا التطابق إلى التطرف الثقافي. هذا، وإن اتفق ماكس فيبر والفيلسون أشْعِيا برلين على أن الصّدم القيمي صفة مرتبطة بالحياة الانسانية فقد اعتبرها الأول (الصفة) سلبية لأنها ستفضي بسبب التقديس إلى ما يشبه صراع الآلهة. أما الثاني، وانطلاقا من أنه بالتعدّدية القيمية يغتني العالم وينتفع بسلوكات مختلفة، وتتوسّع دائرة الحرية والتصرف في الحياة بها فقد وصفها (التعددية) بالإيجابية. مصادر القيم: ليس الظرف الحداثي، الإيديولوجي ولا الاستراتيجي فقط من يعدّد القيم، مصادرها المختلفة أيضا اقترنت بالتعدّدية القيمية. مدرسة التحليل النفسي جعلت من الجنس مصدرا للقيم الإنسانية، والفكر الماركسي يعتبر الطبقة الاجتماعية هي مصدر القيم، أما السفسطائيون، في معرض انتقادهم للفلسفة المثالية، فيقولون بأنه لا مصدر للقيم الأخلاقية إلا حرية الفرد باعتباره خالق القيم، وحريته هي التي تلزمه بقيم معينة أو بنظام معين من القيم، فانتهوا إلى أنه لا علاقة للأخلاق بالدين ولا ضرورة لبقاء الأديان. تؤيد الماركسية هذا الطّرح معتبرة الأخلاق ظاهرة تاريخية، والقيم وليدة التنظيم الاقتصادي الذي يتبناه المجتمع، وبتغيّر علاقات الإنسان تتغير القيم الأخلاقية. هذا الموقف الاقتصادي المتنامي جعل العالم يفلت الزّمام ليرزح تحت هيمنة الثورة التكنولوجية عوض تطويعها، معلنا انتصار العقل ووضع الأديان في طريق الانقراض. الدين في تصوّر دوركايم ليس مجرد ظاهرة نفسية وإنما أحد الثوابت الاجتماعية التي لم تضمحلّ مع التقدم العلمي، وحاجة الإنسان إليه (الدين)، في نظر كانط، مؤسّس الفلسفة المثالية المتعالية، بالرغم من أنها "فكرة تنبع من الأخلاق وليست أساسا لها" لأنه لا يصبح متدينا إلا لأنه متخلّق وليس العكس، أي قادر على إعطاء قيمة أو غاية نهائية لحريته، فهو (كانط) يرى أن البشرية لطالما عانت من فقدانها لنموذج أعلى تعتمد عليه في خلاصها وهذا النموذج ليس سوى فكرة "الإنسانية التي يرضى عنها الله نفسها". ولعلّ وجود مواطنين يدينون بمِلل مختلفة إلى جانب اللامتدينين في البلد الواحد يدعو إلى مراجعة متواصلة وتبنّ منفصل أحيانا ومتسامح للقيم الأخلاقية. والتسامح ذاته الذي تكاد تُجمع قواميس اللغة ومعاجم الفلسفة على تعريفه في معناه الأخلاقي باحترام الموقف المخالف، نادرا ما يُعثر عليه في سجلّ القيم الأخلاقية التي تناولها الفلاسفة بالتحليل (الحقّ؛ الخير؛ الواجب؛ الفضيلة؛ العدالة؛ الرحمة؛ الشفقة؛ الإحسان؛ الإيثار... الخ)، والسبب في نظر الجابري راجع إلى أن "التسامح ليس مفهوما أصيلا في الفلسفة، بل هو يقع بين الفلسفة والإيديولوجيا". ولذلك، دافع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك عن قانون التسامح الذي أصدرته حكومته سنة 1689 في كتابه 'رسائل حول التسامح'، دافع عن ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة. في نفس السياق، وبالضبط في إطار وجوب تناول قيمة العدل الإلهي في السياسة بصفة مستقلة عن الدين، عارض المعتزلة الأوائل إيديولوجيا الجبر التي برّر بها الخلفاء الأمويون العنف المفرط ومنطق السيف الذي قام عليه حكمهم معتبرين أفعالهم قضاء وقدر من الله الذي ساق إليهم الحكم فلم يتصرفوا إلا بموجب ما أراده. هرم القيم: الدراسة الماكرو قيمية، إن جاز التعبير، لا تفي وحدها بغرض تعليل وبيان ما بين القيم من اتصال وانفصال. فلكلّ منا سلّم يرتّب على درجاته القيم الأخلاقية باعتبارها من أهم مجالات القيم، وإذا كان الصّدق قيمة أخلاقية مهمة فمنّا من يصبر باسم الصداقة على صديق كذاب، ومنّا من يضع حدا لآصرتها لعيب الكذب، وقد لا يضحي السياسيّ بالصداقة بمعزل عن ممارساته السياسية ولا يبرّر كلّ غاياته ويغضّ طرفه عن أخلاقيات الوسائل خارجها. ومنّا من يكذب ليُنجي نفسه من الأعداء، وعلى الرغم من أنّ الصدق واجب إسلامي فقد أباح الشارع الكذب في حالة الإصلاح بين الناس. أطلقت مؤخرا إحدى الجمعيات حملة وطنية تحت شعار (الخير لي دير فيه هو ما تعطيهش) مستعملة وسائل تواصل جماهيرية الشيء الذي استفزّ بداية الرأي العام ولقي معارضة بدعوى الدعوة إلى تعطيل الصّدقة، إلا أن الجمعية أعلنت في موقعها الرسمي على الأنترنت أنها تروم من الحملة تسليط الضوء على استغلال الأطفال في ظاهرة التسول إذ ب'مساعدتهم' بالمال نساهم بلا قصد في تفشيها وفي ضياع حقهم في ارتياد المدرسة كأقرانهم... باختصار، لا الصّدق ولا الصّداقة ولا الصّدقة ولا غيرها من القيم تحتلّ مقاما واحدا. تختلف منزلتها بين القيم من شخص لآخر ومن موقف لموقف وفق سلّم متحرك للقيم، وبحسب المكان والزمان والمصدر والمجال وتبعا لمتغيرات أخرى. كلّ هذا، لا يمنع في الواقع من تكثير ما يوحّد، ومن البحث بواسطة القيم، على اعتبار أنها هذه المرة خارطة طريق، عما يجمع أكثر مما يفرق، بل هذا سبب آخر للبحث. نحو أنسنة القيم الأخلاقية: تتنافس الدّول الرائدة على فرض قيمها عبر سياسات إعلامية وتحشد لتحقيق هذا الغرض تكنولوجيا متطورة للإعلام والاتصال. ولقد نجحت وسائل الإعلام الدولية في التأثير في أفكار المتلقي المفترض واختياراته القيمية، وفي توجيه سلوكه وإطلاق الأحكام بالتقادم على بعض الأخلاقيات وضرورة استبدالها أو غرس قيم جديدة في بيئات وجماعات إعلامية ضعيفة أو أقلّ ريادة. ولمقاومة كلّ انحراف في عولمة القيم، ونظرا لأن لهذه الأخيرة مكانة معتبرة في الحياة الإنسانية، إذ بوجودها تصلح (الحياة) وتسعد وبانعدامها تفسد وتضطرب، وبوجوب التركيز، كما سبق الذّكر، على مجالات التقاطع والاشتراك بدل التفتيش على نقط الاختلاف والتعارض القليلة على أية حال، خصصت، في هذا الصدد، الجمعية العامة للأمم المتحدة أياما فاقت حاليا المائة، بمثابة فرص للتذكير ومناسبات للاهتمام أكثر بجملة من القضايا الإنسانية المهمة والمشتركة، وأيام للاحتفاء سنويا باليوم العالمي للصداقة، والديموقراطية، والسلام، والحرية، والتطوّع، الخ. ودعت الجمعية العامة على وجه الخصوص الجهات الرسمية إلى مواكبة التشريعات القانونية في شأنها، والتوعية بها من خلال مختلف وسائل التواصل وتنزيلها عبر السياسات القطاعية والبرامج التعليمية والمشاريع والأوراش المفتوحة ذات الصلة. تعبّر هذه القضايا كلّها عن حاجات إنسانية وانشغالات كونية مرتبطة إما بحقوق الأفراد واستقرار المجتمعات، أو سلامة البيئة، أو تمجيد الثقافة والمعرفة ومكارم الأخلاق، أو تشجّع على التقارب والتواصل بين المجتمعات الإنسانية، أو تدعو إلى التفاعل والتعاون في خدمة المصالح والاهتمامات المشتركة. أخلاقيات مهنة التربية والتعليم: في هذه الأيام، وفي انتظار رفع دعوى الإلغاء إلى المحكمة الإدارية، قضية تحظى بتفاعل واهتمام شديدين، ويتعلّق الأمر بصدور قرار العزل من الوظيفة العمومية في 02 أبريل 2021 في حقّ الأستاذ سعيد ناشيد بسبب، حسب القرار وحسب بلاغ توضيحي أصدرته وزارة التربية الوطنية لاحقا، تقصيره في أداء الواجب المهني، والغياب غير المبرر عن العمل، بالإضافة إلى استغلال الإجازات المرضية لغير العلاج ومغادرة البلاد بدون ترخيص من الإدارة، معتبرة (الوزارة) في بلاغها أن القرار إداري صرف، تؤطره القوانين الجاري بها العمل، والتي تسري على جميع موظفي القطاع العمومي. إلاّ أن التدوينة التي نشرها المؤلِّف والباحث في قضايا التجديد الديني والإسلام السياسي على حسابه بموقع فيسبوك، مشيرا فيها إلى أنه أصبح بلا مصدر رزق، شارحا حيثيات تعرضه للفصل من دون تلقي أيّ إنذار أو تنبيه، مُرجعا المضايقات التي يواجهها منذ سنوات إلى مواصلته الكتابة والنشر، مؤكّدا على عدم قدرته على تأدية وظيفته بسبب ظروفه صحية، التدوينة جعلت الأستاذ الكاتب يحظى بتعاطف كبير وبحملة دعم واسعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما من قبَل أصدقاء وكتاب ومثقفين وأساتذة ونقابات وجمعيات حقوقية، وجعلت هاشتاغ التضامن معه ينتشر كالنار في الهشيم. بالمقابل، طالبت جهة أخرى بعدم هدر الزمن المدرسي للمتعلم (ة)، مفترضةً أن ينعكس توجه الأستاذ ناشيد وفكره التنويري على واجبه ومسؤوليته المهنية وعلى تأمين حقّ المتعلم (ة) في الاستفادة الكاملة من زمن التعليم والتعلم. ولعلّ ربط صاحب كتاب 'التداوي بالفلسفة' قرار الحكومة بشخص رئيسها المنتمي لحزب العدالة والتنمية المحافظ هو الذي أطلق جدل الثنائيات المتضادّة وقسّم المتابعين بين مؤيد ومعارض، بين مدافع عن هذا وذاك: التلميذ والأستاذ؛ الحقّ والواجب المهني؛ "التنوير" و"الظلامية"؛ القانون والأخلاق... معلوم أن المسؤولية نوعان: أدبية تترتب عن مخالفة قاعدة من قواعد الأخلاق، فيُسأل صاحبها أمام الله وأمام ضميره؛ وقانونية: يترتب عليها جزاء قانوني جرّاء ارتكاب فعل أخلّ بقاعدة من قواعد القانون وسبّب ضررا للغير. المسؤولية الأخلاقية (الأدبية)، وإن كان لا يترتب عليها أيّ جزاء قانوني، فهي أوسع نطاقا من المسؤولية القانونية، إذ، من جهة، لا يُشترط لقيامها حدوث ضرر للغير فيكفي النية وتمني إيقاع الشرّ بالغير لتحققها، وتشمل سلوك الإنسان نحو خالقه ونحوه نفس ونحو غيره من جهة ثانية، في حين تقتصر دائرة القانون على سلوك الإنسان نحو غيره. سبقت الإشارة إلى أنه يمكن الطعن في القرار الإداري بالإلغاء بسبب الشطط في استعمال السلطة، والجهة الوحيدة المخوّل لها البثّ قانونيا في الواقعة هي المحكمة الإدارية. بعيدا عن النازلة، تحدث انحرافات أخلاقية أثناء أو بمناسبة العملية التعليمية التربوية خارجة على القانون واختصاصاته كإدلاء الموظف بالشواهد الطبية للتنصّل من العمل وعدم التفاني فيه وعدم الاعتزاز بالمهنة وقيمها وكفتور الروح المعنوية والحماس والضمير المهني باعتباره وازعا ومصدرا للأحكام الأخلاقية وللاغتباط الداخلي لفعل الخير وللتأنيب عند فعل الشرّ... هذا، بالرغم من وجود ميثاق حسن سلوك الموظف العمومي مما يستدعي مراجعة نصّه وتطويره ومواكبته بالمستجدات الراهنة وبشروط تنزيله المادية والمعنوية لتمكين الوثيقة من القدرة على التأطير الفعلي الأخلاقي للمهنة. من الناحية القانونية، يحقّ مثلا حاليا للأستاذ (ة) الاستقالة من جمعيات المؤسسة ومن مهام التنسيق والإشراف على النوادي المدرسية بالرغم من أنها آليات عملية وإطارات منهجية لتدبير الحياة المدرسية وتفعيل أنشطتها، ولربط حلقة النشاط الصفّي المعتاد بالنشاط المندمج وكذا الداعم، في أفق بناء شخصية المتعلم (ة) المتوازنة في جوانبها الوجدانية والمعرفية والسلوكية، وبلورة مشروعه الشخصي وتنشئته اجتماعيا وتأهيله للاندماج في النسيج الاقتصادي والثقافي والسياسي... إلا أن الضغط باستقالات جماعية أو باستقالة أستاذ (ة) من مهمة تنسيق أعمال نادي التسامح احتجاجا على إيفاد متعلمات ومتعلمين من مؤسسته إلى بيت الذاكرة بالصويرة أو إلى معبد يهودي تفعيلا لأنشطة نوادي التعايش والتسامح في التنوع، في إطار اتفاقية شراكة بين وزارة التربية الوطنية وجمعية الصويرة موكادور ومركز الدراسات والأبحاث في القانون العبري، بدعوى توظيف قيم التسامح والتعايش في غير محلها فيه نقاش أخلاقي على وجه الخصوص. كما أن انضمام بعض الأسر إلى الاحتجاجات يذكّر بدور المؤسسة التربوية الأولى في حراسة القيم والتربية عليها وبكون الأسرة طرفا وشريكا فاعلا، فضلا عن الإعلام، في ميثاقٍ وطنيّ للقيم أو في 'إطارٍ مرجعيّ عام لمنظومة القيم المستهدفة ومجالات التربية عليها بحسب تعبير التوصية الختامية الثالثة للمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. وبالعودة إلى النازلة، بالطبع ما كان لها أن تأخذ هذا الحجم لولا أن الأمر يتعلق بمثقف وبمشروعه الفكري، الذي قد يُزعج البعض، في علاقة ذلك بمهنة التربية والتعليم وبحرية التفكير والمعتقد... المثقفون ومنظومة القيم: اشتهر أن المثقفين لا ينضبطون للإطارات إلى درجة أن هوس الإبداع الذي هو إنشاء على غير مثال يُحتذى أذاع بينهم صيت العبارة 'وُضعت القواعد لنخرقها!' تتبع المفهوم التاريخي للمثقف يبيّن أنه انتقل من الشخص الذي يكسب عيشه بالعمل بفكره وليس بيده، ليتسع لاحقا معنى الكلمة مع السوسيولوجيا إلى عموم المبدعين من علماء وفنانين وفلاسفة وكتّاب وبعض الصحفيين... وناشري إنتاجات المبدعين من ممارسي الفنون والأساتذة والصحفيين... ومطبقي الثقافة من خلال مهنهم من أطباء ومحامين... أما الايديولوجيا فحددت 'المثقف' انطلاقا من الدور السياسي الذي يُشترط أن يضطلع به والمتمثل في النطق باسم قوى التغيير والنقد الاجتماعي وحمل مشروع، أو على الأقل، رؤية وقضية، وتقمّص ضمير المجتمع، أو بالأحرى، المجموعة الاجتماعية مادام المثقفون العضويون، بحسب تعبير الفيلسوف الإيطالي غرامشي، لا يشكلون في الحقيقة طبقة مستقلة، وإنما لكلّ مجموعة اجتماعية جماعة من المثقفين خاصة بها، أو يعمل المثقفون الحداثيون على خلقها. وانطلاقا من الدّور الذي يجب أن يلعبه المثقف ومن هذه المجموعات الاجتماعية يَلقى هذا الأخير في كلّ الأزمنة والأماكن وسيلقى معارضة من لدن جيوب المقاومة، وسينخرط لا محالة في نزاعات فكرية، وقد يواجه المحن والتاريخ شاهد على العديد منها، من غاليليو ومن قبله إلى غارسيا لوركا والذين جاؤوا من بعده مرورا بابن حنبل وغيره. ولذلك، كانت الحرية ومازالت المطلب الأول للمثقفين. إلا أن طلب الحرية بقطع النظر عن مراحل تشكّلها لا يحلّ المشكل بل يشكّل جزءا منها. فالسيرورة الفكرية التي ينطوي عنوانها على لفظة الحرية هي الليبرالية التي مرّت بمراحل التكوين، الاكتمال، الاستقلال فالتقوقع حيث أحدقت بها المخاطر وأصبح تحقيقها صعبا إن لم يكن مستحيلا. وحيث إن الطبيعة لا تقبل الفراغ، وحيث إن 'التحلّي' يقابل 'التخلّي'، وحيث إن المنظومة قد اختارت القيم أحد المداخل الثلاثة للمنهاج الدراسي، وحيث إن المدرسة حاضنة القيم وحارستها وركيزة استدماجها والتربية عليها وتعزيزها فكرا وممارسة وِفق التوجهات الكبرى وغايات النظام التربوي والتطوّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحيث إن الأستاذ عموما متعّودٌ عملية النقل الديداكتيكي الداخلي متحلّ بيقظته التي تحتّم الالتزام بالموضوعية التامة والفصل البيّن بين موضوع المعرفة المدرسية والمواقف والميول الشخصية فقد نبّه الأستاذ ناشيد في تدوينته إلى أنه حبّب مادة الفلسفة إلى تلامذته بعد نفور طويل منها بشهادة مفتش المادة ومدير الثانوية التي كان يعمل بها، وأضاف وكأنه يستبق أن يؤاخذ عليه خصومه وجود مسافة بين واجباته المهنية وحريته الفكرية: "لم أغير من المنهاج التعليمي، لم أتطاول على أحد، لم يسجل علي أي سلوك غير تربوي، بل تلقيت التكريم في مؤسستي نفسها، كما في كثير من المؤسسات التعليمية، وساهمت في إنجاز برامج للتفلسف مع الأطفال لفائدة مؤسستي ومؤسسات أخرى". تسديد العلم بالعمل مع ترك مسافة بين الأخير وقناعاته الذاتية مطلب مزدوج إشكاليّ يفسّره مبدأ حياد المرفق العمومي الذي "يُعتبر من الأسس الهامة الموضوعة للتوفيق الضروري بين وضعية التبعية التي يوجد عليها موظفو وأعوان الإدارة من جهة، وبين معتقداتهم التي لهم من جهة أخرى، الحقّ، كسائر المواطنين، حرية التمسّك بها، علما أن المرافق العامة لا تجد شرعية إحداثها إلا لإشباع حاجات المنتفعين وكافة المواطنين وتأمين مصالحهم في إطار من التجرّد والحياد التامين"، وهو المبدأ مقرّر كذلك لحماية الموظفين أنفسهم تجاه الإدارة التي لا يجوز لها أن تُدرج في الملفّ الخاصّ بالموظف أية إشارة لنزعات صاحبه السياسية والفلسفية والدينية. إن التقدير والحماية اللذين خصّ الغربُ بهما المؤلِّف بناء على التمييز الذي أقامه مارسيل بروست (1871-1922) بين الشخص الاجتماعي والكاتب لم يُفقدا ولم يُرفَعا تماما وإنما أصبحا اليوم موضع سجال فصل/ ربط في رحلة البحث عن موقف قيمي، وأجوبة عن أسئلة متصلة بتجاوزات أخلاقية وسياسية عديدة ومعاصرة. فهل المبدعون في حلّ من كلّ مسؤولية قانونية والتزام أخلاقي؟ وهل يصحّ الربط بين أخلاقية العمل وأخلاقية المؤلّف؟ هل يمكن الفصل بين العمل والمؤلِّف؟ السؤال الأخير عنوان كتاب صدر نهاية العام الماضي لعالمة الاجتماع جيزيل سابيرو، تقول فيه: "في الأدب، كما في الغناء وفي السينما والمسرح أو الأوبرا، تشكِّل وجهة نظر السارد والشخوص فضاءً علائقيّا معقَّدا، تصير فيه العلاقات مع شخصيّة المُؤلِّف، حياته وقيمه، محجوبةً عنّا أحيانا بفعل عمل التخييل... ومصرَّحا بها أحيانا أخرى". السجال إذن أثاره الانتقال من البحث، السؤال والتساؤل عن منح جائزة نوبل للآداب سنة 2019 للكاتب النمساوي بيتر هاندكه وقد شكّك في مذبحة سربرنيتشا عام 1995 وأيّد الزعيم الصربي سلوبودان، وعن منح جائزة سيزار لرومان بولانسكي في وقت يتابع بتهمة الاغتصاب، وعن استمرار عرض لوحات غوغان في المتاحف بالرغم من أنه أساء إلى عارضاته الصغيرات...! إلى مساءلة الموقف الحقيقي الشخصي للكاتب أو الموقف الجمالي الخالص للمبدع من خلال أعماله. البحث النقدي خصوصا مازال يُحيط المبدع بحصانة شخصية، ويُحظي، في إطار عدم التحريض على الكراهية أو العنف ضدّ أفراد أو مجموعات بسبب أصولهم أو ديانتهم أو لونهم أو غير ذلك، الأعمال الجمالية بحرية فنية وأخلاقية وبتسامح كبير. وكما هو الشأن تقريبا بالنسبة لمفهوم التسامح فإن "البحث الفلسفي في الحرية تافه جدا لأنه لا يبرهن، ولا يمكن أن يبرهن بحال، على الحرية الواقعية، يحسّ القارئ العربي في الظروف القاسية الراهنة أن التحليلات الفلسفية لا تساوي شيئا. كلّ من ظن أنه رسخ قواعد الحرية في العالم الملموس بمجرد أنه تصورها وحدها يستحقّ بالفعل السخرية والاستهزاء. لكن الفيلسوف الذي يعتبر عمله مدخلا لدراسة طرق الإبداع والتغيير يستحق بالعكس التقدير والتشجيع". قيم مهنة التربية والتعليم: القيم المهنية هي مجموعة المعايير والقواعد الأخلاقية الخاصة بمهنة معينة والتي تروم الحفاظ على ديمومتها واستقرارها وتوحيد ممتهنيها من جهة، وزيادة الإتقان والإبداع في العمل وتجنّب الغشّ والتقصير وتقوية الإرادة والإصرار وبعث الطمأنينة والإيجابية في نفوسهم (الممتهنين) من جهة أخرى. وتعدّ أخلاقيات مهنة التربية والتعليم من أهمّ المؤثرات في سلوك المربي لأنها تشكل لديه رقيبا داخليا ومرجعية ذاتية يسترشد بها في عمله ويقوّم بها علاقاته مع الآخرين، ويساعده مراعاتها والالتزام بها في أداء واجباته وتلبية حقوقه. وعليه، فأخلاقيات مهنة التربية والتعليم هي مجموعة من المبادئ التي تتضمن الواجبات المهنية والأخلاقية تجاه المدرسين والتلاميذ والزملاء والمجتمع المحلي وتجاه الذات، ويتحدَّد الانتماء إليها بقدر الالتزام بأخلاقياتها أو ما يُعرف بمدونة السلوك. وقد صدر ميثاق حسن سلوك الموظف العمومي بموجب مذكرة وزارية رقم 46 بتاريخ 26 مايو 2004 لغرض حفز الموظفين العموميين إلى تخليق الحياة الإدارية عبر ترسيخ ثقافة المرفق العامّ (الالتزام بمواقيت العمل؛ احترام روح القانون والأحكام القضائية؛ استحضار الصالح العامّ؛ تطوير أساليب العمل...)، وعبر الانضباط لقواعد العمل الإداري (التفرغ الكامل لخدمة المرفق؛ الالتزام بحدود الصلاحيات؛ تنفيذ التعليمات القانونية الصادرة عن الرؤساء؛ العناية بأدوات ووسائل العمل؛ كتم السرّ المهني...) وضبط العلاقة بين الموظف العمومي والمرتفق (التواصل الإيجابي؛ حسن الاستقبال والاستماع؛ حسن تمثيل الإدارة؛ عدم الارتشاء...). خلاصة القول: التعاطف السيبراني الكبير مع الكاتب سعيد ناشيد سبقه، على سبيل المثال لا الحصر، تعاطف منقطع النظير مع الطفل عدنان ضحية جريمة القتل والاغتصاب في سبتمبر/ أيلول الماضي، فتجدّد لنحو أسابيع الجدل حول مطلب إخصاء المغتصبين لإنهاء حياتهم الجنسية وحول مدى نجاعة العقوبة للحدّ من الظاهرة. وجدّدت الجريمة النقاش حول تنفيذ عقوبة الإعدام المعلّقة في المغرب منذ سنة 1982، ما عدا حالة واحدة سنة 1993، بالرغم من وجود العشرات من المحكوم عليهم بها في السجون. وشارك الخاصة أيضا في جدل ساخن وصل إلى التراشق وتبادل الاتهامات بين مؤيد ومعارض للعقوبة. بعث الملك محمد السادس برسالة تعزية ومواساة إلى أسرة الضحية، وقلّصت الحكومة سنة 2019 عدد الجرائم التي يعاقب عليها القانون الجنائي بالإعدام من إحدى وثلاثين إلى ثمان جرائم وأضافت ثلاثة هي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، وامتنعت المملكة في 2016 عن التصويت على مشروع القرار المتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام أمام اللجنة الثالثة للجمعية العامة للأمم المتحدة المتخصصة في قضايا حقوق الإنسان، بالرغم من أن الحقوقيين المغاربة يعتبرون هذه العقوبة متعارضة مع دستور 2011 الذي تنصّ المادة 21 منه على حماية الحقّ في الحياة. وبعد أن أزالت لجنة المخدرات التابعة للأمم المتحدة في 3 دجنبر/كانون الأول 2020 القنب الهندي من قائمة المواد الأكثر خطورة صادقت الحكومة في مارس/ آذار المنصرم على مشروع قانون متعلّق بالاستعمالات المشروعة للقنب الهندي المعروف لدى المغاربة ب 'الكيف' في انتظار عرضه على مجلسي البرلمان لاستكمال مساره التشريعي الذي لا يضمن توقّف الجدل نهائيا حوله. كانت دوما هنالك مطالب شعبية وسيبقى ضغط الرأي العامّ، لكن، على غرار النظام التربوي الذي يضع أسسه ويُقوّم منطقه حكماء المجتمع ويرسم غاياته وفلسفته نخبته الفكرية، يحتاج نظام القيم إلى حكمة وتبصّر وتريّث، وإلى اجتهاد جماعيّ وتعاقد مجتمعي. غالبا ما ينساق الشارع عندما يودّ أن 'يحكم' و'يتحرّر' مع موجات العاطفة، ويتحوّل تحت تأثير الحشدِ وجدلية العبد والسيد، أي صراع الوعي والتّوق إلى الحرية بحسب الفيلسوف الألماني جورج فريدريك هيغل، من سيادة القرار إلى مجرّد الرضوخ له وتنفيذه، أو بتعبير أدقّ: غالبا ما تقود كرة الحشد 'القائد' إلى القرار. قد يبدو للقارئ (ة) أنني لا أحمل قضيةً ورؤية مسبقة، بائنة وبيّنة، قطعية ونهائية من جِدال القيم، ومن الهوّة القيمية العميقة والمتعمّقة بين الخطاب النظري المعبّر عنه في التوجيهات الرسمية وفي الوثائق المرجعية المعتَمدة وطنيا ودوليا وبين الممارسات الفعلية، والشاهد هو استفحال سلوكات مشينة كالعنف بمختلف أنواعه والتعصّب والتمييز بين الجنسين والتحرّش والإضرار بالبيئة وبالملك العامّ، وما إليه من ظواهر مخلّة بالقيم. ربما، أو ربما لم أصغه (الرأي الخاصّ) كما أراد (ت) من باب حرصي الشديد على عدم التهافت على الانتماء إلى جماعة المثقفين أو إلى جماعة محدّدة من جماعاتهم. مع ذلك، ولذلك فقد خلصتُ وسأخلص في الختام إلى بضعة محاذير أو تخوفات. من شأن التعاقد القيمي أن يقطع نهائيا مع 'قضاء الشارع' و'شرع اليد'، ويودّع بلا رجعة الاجتهاد الفردي ويحلّ مكانه اجتهاد العقلاء من مشارب ومجالات وحساسيات متنوعة، أو بالأحرى، الثلث الناجي الذي لا يعاد انتخابه، بل المنجي الذي يُسهم في محاولة الاستقرار الشامل وإعادة التوازن الأكبر للمنظومات، بصيغة الجمع، القيمية والتربوية... لم تعد إذن مفاجآت كبيرة في هذا الأمر. نهاية المسلسل باتت متوقعة جدا. مخطئ وواهم من يبحث هنا عن قفزات نوعية كبيرة. في ظلّ هذه الروح المتفائلة لا خوف من أن ينحرف عن مساره الطبيعي مسلسل إلغاء، تعديل وتتميم الفصول القانونية وكذا تدبير الحوادث القيمية، ولا خوف كبير من أن يهدّد صدْم الثنائيات 'المتضادّة' بتفجير المنظومة القيمية من الداخل، سواء تعلّق الأمر بالتعدّد/ الوفاء الزوجي أم المساواة/ الإرث أم بغيرها، فبقوة الضغط الداخلي يتفجّر الماء مندفعا من البئر الأورتوازية. لم ننس بعدُ في المغرب أن رواية 'الخبز الحافي' التي كتبها محمد شكري سنة 1972 صدرت أولا بالإنجليزية في إنجلترا سنة 1973 بترجمة للكاتب بول بولز ثم بالفرنسية في فرنسا لاحقا سنة 1980 بترجمة للكاتب الطاهر بن جلون قبل أن تصدر بالعربية في المغرب سنة 1982 وتُمنع سنة 1983 ولم ليرُفع عنها المنع إلاّ سنة 2000، فالحكم، كما يقول الفقهاء، يدور مع علته وجودا وعدما، فإذا وُجِدَت العلَّةُ وُجِد الحكمُ، وإذا انتفت العلَّةُ انتفى الحكمُ؛ تطلّب الأمر نحو جيل لترتفع علّة الصراع وتتغير الذهنية كلية! ليس ثمة أسباب ذاتية أو موضوعية لتندلع بيننا اصطدامات باسم القيم، أخشى أن العدوّ الحقيقيّ هو ذلك الذي يرجّ بنا، من الخارج، المركب الذي نستقلّه جميعا، متسلّحا بقواه الإعلامية والاقتصادية على الخصوص، ليهمس في الآذان بأننا نحمل معنا حصان طروادة الذي يأتينا الخطر من خلاله، ولا ينبّهنا إلى أن قنّاصنا أبعد ما يكون عن الهدف والمهارة، ويطعّم في غفلة منا منظومتنا القيمية لتلد المسخ بعد عملية قيصرية. وأخشى أيضا من عدم وجود الآخر العدوّ إلاّ في الرأس، ومن انصرافنا الكلي إلى صناعة إنسان القشّ لنفرح بقتله، ونتنبّأ باختفاء المدّ أو الجزْر في المستقبل! ومع ذلك، فالمستقبل، كما قال فيلسوف لا أتذكّر اسمه، في الإرادة وليس في التنبّؤ..