نظرات مقاصدية في أسئلة الفقه الساسي من معضلات الفقه السياسي وإشكالاته المستعصية على امتداد الوجود التاريخي للبشرية إلى اليوم؛ سؤال التداول على السلطة، وإشكالية الفصل بين السلطات. فما عانت البشرية من شيء مثل ما عانت من احتكار السلطة وتمركزها في شخص هذا المستبد أو ذاك من الحكام؛ كما قال مونتسكيو:"إن الأمراء الذين أرادوا أن يكونوا مستبدين بدأوا بجمع جميع السلطات في شخصهم دائما."1 وللأسف الشديد؛ فهذه هي السمة الغالبة على تاريخنا السياسي منذ الانقلاب الأموي2 على الخلافة الراشدة إلى اليوم. وهي ذات السمة التي ميزت تاريخ الغرب بشكل أكثر فضاعة أيضا. وعليه؛ فما لم تعالج تلك المعضلة وذلك الإشكال بشكل جذري؛ فلا أمل في حرية ولا عدالة ولا كرامة ولا إصلاح ولا تنمية ولا تقدم علمي ولا نهضة حضارية ولا تمتع بشيء من الحقوق الآدمية التي لا منة فيها لأحد على أحد من البشر. وما التجربة الغربية عنا ببعيدة ولا مجهولة؛ فبمجرد أن تم الحسم مع الدكتاتورية واقتناع النخبة والرأي العام بما سطره جون لوك (ت:1704م) في كتابه الشهير: "رسالتان في الحكم"، ومونتسكيو(ت:1755م) في "روح الشرائع"،3 وروسو (ت:1778م) في "العقد الاجتماعي" وغيرهم من المفكرين والفلاسفة عن تكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة، وفصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية بعضها عن بعض بالدرجة الأولى؛ إذا بمجرى التاريخ الغربي يتحول برمته في اتجاه النهضة وإحراز أرقى مستويات التقدم في مجال التدبير السياسي، وخاصة على مستوى التناوب السلمي على السلطة، وفصل السلطات في غضون أقل من قرن من الزمن. وهذا ما ينبغي أن نجتهد نحن أيضا في تحقيقه؛ خاصة وأن تباشيره قد لاحت في الأفق مع رياح التغيير التي هبت نسماتها على أمتنا مع ثورات الربيع الديمقراطي. ورجاؤنا أن تستمر بكل إيجابية وعنفوان حتى تتفيأ أمتنا بمختلف أطيافها السياسية والاجتماعية في ظلال ما خرجت ثائرة لأجله؛ وهو تحقيق الحرية والعدالة والكرامة وغيرها من القيم التكريمية التي لا يمكن أن تستعيدها إلا إذا استعادت حقها في السيادة على نفسها؛ فتكون هي صاحبة القرار الأول والأخير في اختيار من يحكمها ومراقبته ومحاسبته وتغييره بأصلح منه؛ متى أخل بالتزاماته الدستورية معها؛ لا الفرد المتغلب، ولا العائلة الحاكمة، ولا الحزب الأوحد.4 وعليه؛ إذا وضح أن الاستفراد بجميع السلطات ومركزتها في شخص الحاكم هو منبع الاستبداد والفساد بجميع تجلياتهما، فإن التعاقب السلمي على السلطة السياسية وفصل السلطات بتوازن؛ هو المدخل الطبيعي لما تتطلع إليه شعوب المنطقة العربية الإسلامية من عدالة وكرامة وحرية وانعتاق من قبضة التحكم السياسي؛ ذلك أن أزمتنا وإن كانت أزمة حضارية شاملة؛ فإن جوهرها سياسي بالدرجة الأولى؛ إنه احتكار السلطة ومركزتها في شخص فرد أو عائلة أو حزب، ومن ثم احتكار كل شيء؛ وهو روح الإشكال5 الذي ما ينبغي تحرير محل النزاع في شيء قبله، وتوعية الرأي العام بضرورة إصلاحه جدريا بإرجاع السيادة إلى الأمة لتقرر في اختيار من يصلح لقيادتها وتدبير شؤونها بما يخدم مصالحها بالانتخاب لا بالانقلاب. وبناء عليه نتساءل؛ هل التداول على السلطة والفصل بين السلطات غاية في حد ذاتهما، أو هما مجرد آليتين عمليتين لتنزيل مقاصد الشريعة في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ممثلة فيما أجمعت عليه الثورات العربية من مطالب: الحرية والعدالة والكرامة... ابتداء؟ وهل الأنظمة السياسية المنبثقة عن تلك الثورات على استعداد لتمثل مقاصد الشريعة في أبعادها السالفة الذكر، أو أنها ما زالت بعيدة عن المضي في هذا المسار أصلا ؟ وهل العقل السياسي السائد ببلداننا على استعداد للقطع مع نفسية الحرص على السلطة والاستفراد بها، وتجاوز ما عانته أمتنا من مأساة الاستبداد العسكري والتوريث السلالي للمناصب السياسية والعودة بها إلى دولة الأمة: دولة الشورى ونظام الحكم الديمقراطي الراشد؛ أو لا ؟ وهل بإمكان العقل الفقهي المعاصر أن ينتج قوانين ومؤسسات دستورية تمكننا من التداول السلمي الراشد على السلطة والفصل المتوازن والمتعاون بإيجابية بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، أو أنه ما زال رهين التقليد وإعادة إنتاج ما مضى دون جدوى ؟6 وهل من العدالة أن تسوي القوانين المعمول بها في الترشح للولايات العامة بين المؤهلين لها علما وخبرة وخلقا، ومن لا أهلية لهم في ذلك ؟ وهل من العدالة أيضا أن يتساوى العالم والخبير بالواقع، والمتمرس في السياسة مع الأمي ومن لا خبرة له بالأوضاع ولا دراية له بالشأن السياسي؛ في التصويت لهذا المرشح أو ذاك من المرشحين لرئاسة الدولة وغيرها من المؤسسات النيابية أو الاستشارية أو الجماعية؟ وهل هناك من مقترح بديل في هذا الإطار ؟ وكيف السبيل إلى التداول السلمي على السلطة مع اختلاف المرجعيات الفكرية، وتعدد الهيئات السياسية، وضعف الممارسة الديمقراطية، وكثرة التدخلات والضغوطات الخارجية ؟ وفي تقديري- لا يمكن الحسم- في معضلة التداول على السلطة والفصل بين السلطات على المستوى العملي إلا إذا تم الحسم فيها بجد على المستوى النظري، وهو ما لا سبيل إليه إلا بالمراجعة العلمية النقدية الصارمة لموروثنا الثقافي في المجال السياسي أولا. وتوعية الرأي العام وتنشئته على قيم العدل والحرية والمشاورة والمساواة والكرامة والمقاومة السلمية وإشاعتها عبر مختلف الوسائل التربوية والإعلامية المباشرة وغير المباشرة حتى تصبح لديه من لوازم حياته التي لا يستطيع الحياة بدونها، وإقناعه بضرورة القطع مع ما في ذلك التراث من قيم سلبية ونسيانها بالمرة، وبهذا يمكن أن نسهم في بناء العقل الجمعي لأمتنا في اتجاه ما نصبو إليه من إصلاح حضاري شامل، وتداول سلمي على الحكم، وفصل إيجابي ومتوازن بين السلطات التشريعية والتنفيدية والقضائية. ومن ضرورات هذه المراجعة؛ أن نعلم بأن أمتنا بقيادة أئمة آل البيت، وخيار الصحابة، وعلماء التابعين، ومن اقتفى أثرهم من المصلحين، وحركات التصحيح والنهوض إلى اليوم؛ لم تستقبل بدعة الانقلاب الأموي7 على الحكم الراشد، وما كرسه من تغلب عسكري وتوريث عائلي للسلطة السياسية، بصدر رحب؛ بل لقد قامت في وجه ذلك الانقلاب وقاومته قولا وفعلا وتكبدت في سبيل إصلاحه والعودة به إلى دولة الرشد والشورى والاختيار والحرية والعدالة من التضحيات ما لا يخفى على منصف.8 وبالجملة؛ ليس المهم اليوم أن نغترب عن واقعنا بالحديث عن تاريخ احتكار السلطة بالقوة وتوريثها لأفراد هذه العائلة أو ذلك الحزب بهذا القطر من عالمنا الإسلامي أو ذاك، وعن الأسباب الكامنة حول ما حل بأمتنا من جراء ذلك؛ فكل ذلك مدون ومعلوم وقد أصبح في ذمة التاريخ؛ بل المهم أن نعتبر بما عانيناه، وأن نستلهم الدروس المفيدة لنا منه، وأن نفكر كيف نحرر أمتنا اليوم من أغلال الاستبداد بأقل الخسائر؟ وكيف نمارس السلطة فيما بيننا ونتداولها بشكل حضاري سلمي في إطار من الحرية والكرامة والعدالة والأمن والاستقرار وما إلى ذلك من المصالح العامة، بعيدا عن كل النزوعات الاستبدادية ؟ وأن نركز بالأساس على المقاصد الشرعية المصلحية من التداول على السلطة والفصل بين السلطات في المجال السياسي. وأن لا نتردد في الانفتاح على التجارب الناجحة في هذا الباب، وأن نستفيد من جميع الاجتهادات الإنسانية الصائبة في هذا المجال بالخصوص؛ عملا بقاعدة:"الاقتباس من الغير لما فيه مصلحة وخير."9وتفعيلا لمبدأ "الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها." الهوامش: 1 مونتسكيو، روح الشرائع، القاهرة، د. ط، 1953م، 1/229، 230 2 للوقوف على هذا الانقلاب؛ يمكن مراجعة ما نص عليه ابن خلدون، فيما عنونه ب"فصل في انقلاب الخلافة إلى الملك." من كتابه: المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط، 2004م، 2/ 587، 588. 3 قال عادل زعيتر: "هناك شبه إجماع على كون مباحث فصل السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، أهم ما في الكتاب؛ لما كان لها من التأثير البعيد المدى." روح الشرائع، مقدمة المترجم، 1/17، 18 4 عبد الله المالكي، سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 2013م،ص9. 5 قال القرافي: "معرفة الإشكال علم في نفسه، وفتح من الله تعالى." الفروق، تحقيق، خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت: د. ط، 1418ه/1998م، 1/241. 6 قال محمد رشيد رضا:" فلم يوجد في أهل الحل والعقد من الرؤساء من اهتدى إلى وضع نظام شرعي للخلافة بالمعنى الذي يسمى في هذا العصر بالقانون الأساسي، يقيدون به سلطة الخليفة بنصوص الشرع، ومشاورتهم في الأمر، كما وضعوا الكتب الطوال للأحكام التي يجب العمل بها في السياسة والإدارة والجباية والقضاء والحرب، ولو وضعوا كتابا في ذلك معززا بأدلة الكتاب والسنة وسيرة الراشدين، ومنعوا فيه ولاية العهد للوارثين، وقيدوا اختيار الخليفة بالشورى، وبينوا أن السلطة للأمة يقوم بها أهل الحل والعقد منها، وجعلوا ذلك أصولا متبعة - لما وقعنا فيما وقعنا فيه." الخلافة، الزهراء للإعلام العربي، د.ط، 1408ه/1988م، ص148 7 قال محمد رشيد رضا: "وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر في تحري الحق والعدل والمصحلة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة، ورشوة الزعماء من جهة أخرى ؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة من احتكار أهل الجور والطمع في السلطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع ؟ ... وإنما سيئة الأمويين التي لا تغفر ما سنوه في قاعدة حكومة الإسلام، حين كانت انتخابية شورى في أولي الاختيار من أهل الحل والعقد وقد نسخوها بالقاعدة المادية: القوة تغلب الحق، فهم الذين هدموها وتبعهم من بعدهم فيها ... والعلة الأولى لهذا كله بدعة ولاية العهد التي استدلوا عليها باستخلاف أبي بكر لعمر -رضي الله عنهما- فجعلتها القوة حقا لكل خليفة وإن كان متغلباً لا يعد من أئمة الحق، ولم يراع ما رعاه أبو بكر من استشارة أهل الحل والعقد." الخلافة، ص41، 42، 53، 54، 107. 8 من المفيد هنا أن نذكر بثورة الحسين بكربلاء، وثورة أهل المدينة بقيادة عبد الله بن الزبير، وثورة القراء بدير الجماجم بمشاركة خمسمائة عالم بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث؛ فقد ذكر خليفة بن خياط، "عن مالك بن دينار قال: خرج مع ابن الأشعث خمس مائة من القراء كلهم يرون القتال." خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق، أكرم ضياء العمري، دار القلم، مؤسسة الرسالة، دمشق، بيروت، ط2، 1397ه، ص 76. وثورات كثيرة ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت: د. ط، 1416ه/1995م، 1/150-166. وتأييد أبي حنيفة لثورة زيد بن علي بن الحسين ماديا ومعنويا، ودعوة مالك لمناصرة محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وإفتاء أهل المدينة بأن بيعة أبي جعفر لا تلزمهم لأنها على الإكراه. كما قال القاضي عياض في، ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقيق عبد القادر الصحراوي، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط2، 1403ه/1993م، 2/134. وغير ذلك مما حفظه التاريخ من مواقف بطولية لأهل العلم من جور هذا الطاغية أو ذاك، وما تكبدوه من تضحيات لم تتوقف إلى اليوم إلا دليل على صحة هذه الحقيقة. 9 أحمد الريسوني، الشورى في معركة البناء، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار الرازي، عمان: الأردن، ط1، 1428ه/2007م، ص 165