يعيش الوطن العربي حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي، فمن عراق منقسم إلى يمن ممزق، ومن لبنان ملتهبة وطائفية إلى سوريا أقرب ما تكون إلى صومال جديدة، ومن مصر طائفية ومنقلبة على الشرعية إلى ليبيا قبلية... لقد خرجت الشعوب العربية إلى الميادين والشوارع مطالبة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية فيما سمي بالربيع العربي، لتجد نفسها أمام الخراب والدمار وعدم الاستقرار، ما جعل بعضنا يتبنى نظرية المؤامرة ليرد الآخر أنها ثورات شعبية، لكن ما هو أكيد أن ما وقع إن لم يكن مؤامرة فهو في حده الأدنى ركوب على الحراك وتوجيهه فيما يخدم المصالح الصهيوأمريكية، رغم الصعوبة في وصف الحراك اللانمطي بالعفوي لما اعتلته من شعارات وما عرفه من تنظيم وتدرج في استعمال الضغط والتصعيد. إنه ليس من قبيل الصدفة أن يخرج علينا الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك (القائد العام السابق لحلف النيتو) ويدلي بتصريح ثلاث سنوات قبل الربيع العربي (ديموكراسي ناو، 2 مارس 2007) مفاده أن أحد زملائه أخبره في سنة 2002 بتوصله بمذكرة من البنتاغون لشن حرب على سبع دول في الشرق الأوسط هي العراق، سوريا، لبنان، ليبيا، الصومال، السودان و إيران، و أنه لولا البترول في الشرق الأوسط لما اكترث أحد للتدخل في هذه المنطقة. ليأتي دور هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي سابقا و مهندس اتفاقية كامب ديفيد، والذي صرح لمجلة "ديلي سكيب" الأمريكية في 2012 : " لقد أبلغنا الجيش الأمريكي أننا مضطرون لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط، نظرا لأهميتها الإستراتيجية، لأنها تحتوي على البترول وموارد اقتصادية أخرى .. لم يبق سوى خطوة واحدة، وهي ضرب إيران، وعندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون الانفجار الكبير والحرب الكبرى التي لن تنتصر فيها سوى قوة واحدة هي إسرائيل و أمربكا... كما أنه سيكون على إسرائيل القتال بكل ما أوتيت من قوة وسلاح، لقتل أكبر عدد ممكن من العرب واحتلال نصف الشرق الأوسط.... إن طبول الحرب تدق الآن في الشرق الأوسط و بقوة، ومن لا يسمعها فهو بكل تأكيد أصم". ما ذكرناه سابقا ليس تأييدا أو ترجيحا منا لنظرية المؤامرة بقدر ما هو تمهيد للبحث والتدقيق في الاستراتيجية الاسرائيلية المنتهجة حاليا لتعزيز مكانها كقوة إقليمية في ظل انهيار الوطن العربي. إن إسرائيل تفرك أصابعها وترقص فرحا لما وقع ويقع في الوطن العربي، فكيف لا وهي ترى عربا يقاتلون بعضهم البعض ويدمرون بنياتهم التحتية وينهكون قوات ردعهم، فيما هي تعزز من قدراتها العسكرية واستراتيجياتها تجاههم. لقد أكد معظم الخبراء أن اسرائيل تفوقت على العرب بتبنيها لدبلوماسية السلاح أي توظيف تجارة السلاح الذي تنتجه وتصدره والتي مكنتها من ربط علاقات مع دول كانت تعتبر داعمة للقضية الفلسطينية (الصين، الهند..) وذلك بإبرام صفقات بيع أسلحة متطورة (طائرات استطلاع منظومة فولكان وتقنيات الصواريخ وتقنيات الأقمار الصناعية التجسسية تكسار... ) واضعة بصفقات أسلحتها قدمها إجمالا في 55 دولة (تركيا، المغرب، الامارات، الأردن، قطر، التشاد، النيجر، إيثيوبيا، كينيا، السنغال...)، بينما لم تستطع ممالك وجمهوريات البترودولار تحقيق أي شيء يذكر بدبلوماسية النفط سوى أخذ الدولار مقابل النفط الخام وإيداعه في الحسابات البنكية الخاصة بالشيوخ والجنرالات، ومن ينتج ويصدر ويستغل النفط: الشركات الأجنبية بطبيعة الحال!! إن إسرائيل تجاوزت اليوم منطق انتزاع زمام القيادة من العالم العربي والذى انبنى على أساسه حلف نصف المحيط (1955) الذي شكله دافيد بن جوريون وشاه إيران وعدنان مندريس (تركيا) وإمبراطور إثيوبيا هيلاسيلاسي بهدف إحاطة العالم العربي في مشرقه (العراق، سوريا، مصر، السودان) بنصف محيط إقليمي لتهديده إستراتيجيا مع شد أوصاله وتقطيعها. وها هي إسرائيل اليوم تجني أرباح ديبلوماسية السلاح التي نهجتها، حيث أكدت العديد من التقارير المسربة عن مخطط وزير الاستخبارات والشؤون الاستراتيجية الاسرائيلية يوفال ستاينتز و وزير الدفاع الإسرائيلي الجنرال موشي يعلون على إعادة تشكيل نصف المحيط الاقليمي الذي تم تقويضه سنة 1979 بسقوط نظام الشاه بإيران، ولكن هذه المرة على شكل محيط كامل بالوطن العربي من أقصى الشرق إلى المغرب الأقصى. انكب كل من ستاينتز ويعلون مؤخرا على تكريس التحالفات التي ربحتها إسرائيل في المنطقة الأفرو أسيوية وذلك بدراسة الأهداف من وراء استراتيجية المحيط والذي سيضم كل من : إسرائيل، تركيا، الأكراد في شمال العراق، دول القرن الافريقي، أوغندا، جمهورية جنوب السودان، إفريقيا الوسطى، تشاد، غينيا، الطوغو، النيجر، السنغال ومالي... الهدف من هذا التمدد ليس فقط ترجمة لما يسمى بإستراتيجية إسرائيلية كبرى أي الانتشار الكوني العسكري والاقتصادي والسياسي وإنما لإقامة حزام من حول الدول العربية في شمال إفريقيا على غرار الحزام الذي تشكل بعد إقامة دولة جنوب السودان في عام 2011 والذي يحيط بالسودان ومصر ولو بشكل غير مباشر. إن الحلف الجديد الذي تسعى إسرائيل إلى إرساء مراسيه يختلف عن الحلف القديم في ثلاث نقط أساسية: الحلف القديم كان عبارة عن نصف محيط يستهدف تحييد كل من العراق، سوريا مصر والسودان، بينما الحالي المخطط له سيكون محيط حول الوطن العربي بكامله. الحلف القديم كان يضم فقط: إسرائيل، تركيا، إيران و إيثيوبيا، بينما الحلف الحالي يضم سلسلة من الدول تنطلق من آسيا وتعبر من شرق إفريقيا مرورا بوسطها وصولا إلى غربها، مع انعزال إيران عن الحلف وتبنيها التيار المعاكس. الحلف الحالي يهدف أساسا إلى شد أطراف الدول المغاربية (ليبيا، الجزائر، المغرب) و السودان (إقليم دارفور) وتمزيقها. لقد برهنت الديبلوماسية العربية عن فشلها الذريع في ظل تفوق إسرائيلي منبني على حسن التخطيط، دقة التنبؤ وتسخير الآليات وتسطير الأهداف. إننا اليوم أمام خطر كبير يهدد وطننا العربي ويمضي به إلى نفق مظلم أكثر مما هو عليه، في إطار مخطط إسرائيلي بمباركة أمريكية، قصد تحييدنا وعزلنا سياسيا، جغرافيا، إقتصاديا وعسكريا، في ظل الاستراتيجية القديمة الجديدة المتبعة والتي تنبنى على أساس تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، إننا بكل بساطة أمام منطق التدمير، فهل هيا بداية ميلاد إسرائيل الكبرى؟