في أحد الأمسية المُتعَبة من ركض أفئدتنا وراء تصاريف الدهر وركضنا نحن خلف رغيف العيش، أطلقت العنان لِقدَماي على "كورنيش" المدينةالبيضاء. لم تكن الشمس قد غادرت بعد! فما زالت ترسل أشعتها الذهبية ِلتجذّف بين أمواج البحر في رقصة غجرية ساحرة. بينما شرع ذلك العميق بزُرقته الخاطفة يتمايل في روحة وَجِيئة مداعبا هدوء الشاطئ. ما إن تَبْرَح هذا الأخير موجة آناء "الجزر" حتى تُعانِقه أخرى أطراف "المدّ". تسلل عمق المحيط إلى داخلي وأنساني الحركة من حولي، تقدمت تاركة خطواتي تصافح أرضية الرصيف فاستوقفني للحظات منظر غير مألوف؛ فتاة في مقتبل العمر تجلس فوق سور السلالم المؤدية إلى الشاطئ الرملي، وقد كانت منسجمة بطريقة مُريبة مع تحركات البحر، وكأنها استأثرت به دوننا جميعا. غلف جسم الفتاة معطف طويل قارب في السواد حزنها، وعلى رأسها وضعت حجابا أحكم إخفاء خصلات شعرها، أما إحدى يديها فكانت مشغولة بسيجارة تلفظ آخر أنفاسها بين أناملها. بَدَتْ لي حزينة وهي ترنو إلى تراتيل الأمواج في محفل الغروب مساءها؛ في حركة غير مبالية كانت تنفث دخان السيجارة باتجاه البحر وكأنها ترسل إليه كل مراكب حزنها لتنأى بها بعيدا وتغرقها في قعر المحيط، محاولة بذلك التخفيف عن روحها عبء حملها. هكذا قرَأتُ صمتها! لكن مما لا شك فيه أن ما قد يبدو لعدد لا بأس به من المارّين في تلك اللحظة هو غير ذلك تماما. إذ من العسير جدا أن يدع بعضهم منظرا كهذا يمر من أمامه مرور الكرام، وقد يتدخل ويصرخ في داخله بنوع من الاستنكار: "كيف تجرؤ فتاة على حمل السيجارة أمام الملأ غير مبالية بنا جميعا؟" وقد يقول آخر بأن سلوكها غير سوي وأن سمعتها ملطخة ما دامت قد وصلت إلى مستوى التدخين. بل والتدخين علنا؛ "إنها لشجاعة وقحة". أما ثالث فربما حاول دمج الجانب الديني لينتقد ارتداءها للحجاب وتعاطيها للسجائر في آن واحد: "ما هذا النفاق؟" فلا يخفاني ولا يخفاكم المثل الذي نستحضره كلما أردنا وصف فداحة فعل ما؛ فنقول: "صافي من هادي لكارّو!" إننا هنا بصدد تَوارث صورة نمطية عبر أجيال متتالية، دون حتى أن نكلف أنفسنا عناء التأمل في صحتها وكأنها ممنوعة من الصرف.. أَليس ذلك ما ألفينا عليه آباءنا وأن مَن شبه أباه فما ظلم؟ فتجد البعض يخوضون في عرض الفتاة ما إن يُبْصروا بِيدها سيجارة. يخدشون سمعتها ويَتغالَوْنَ في الانتقاص من قيمتها ومن خُلُقِها ويتفنّنون في تقزيم حيائها. كيف لا وقد سمحت للنيكوتين بعبور رئتيها ودماغها علنًا. "إنه جُرم لا يُغتَفر وهو إن دل على شيء فإنما يدل على انحلال أخلاقي". أما من أرادت التملص من نظرات الإدانة تلك، فما عليها سوى أن تجد مخبأ تستهلك فيه سيجارتها على عجل، وتواري بقايا فعلتها قبل أن يراها أحد فتصير في نظره موضع شُبهة. أو بإمكانها أن ترتاد أحد المقاهي الذي من شأنه أن يضمن لها تجنب لقاء أحد معارفها فتستعجل في أخذ الجرعات اللازمة وتخفي، بعد فراغها من ذلك، معالم الجريمة: تمضغ لبانا برائحة النعناع وتغمر ملابسها بعطر متمرد. مجتمعنا اليوم، ورغم كل أشكال الوعي التي يتبناها ما زال يحتضن، وبصدر رحب، رجُلا بسيجارته بينما يلفظ أنثى لوثت أصابعها بنفس السيجارة اللعينة. قد يقول البعض بأن الأمر أصبح جد عاد ولم يعد الناس يبالون به أو حتى يعتبرونه غريبا. لكنه ليس كذلك، بل مازال الموضوع يشكل أحد "الطابوهات" المحرم المساس بها. السيجارة كابوس أسود بالنسبة لي، وذلك لما تسببه من أذى لمتعاطيها. وقد كنت وما زلت أختنق خوفا وأنا أشاهد شابا أو شابة يحمل بيده تلك اللعينة ويدخل سمها إلى رئتيه في نوع من التباهي ظنًّا منه أن ذلك ضربا من ضروب قوة الشخصية. ما زلت أتذكر جيدا جملة ألقاها على مسامعنا أستاذ لنا بالمرحلة الابتدائية (رحمه الله) أدمن التدخين وكان يقول لنا: "لا تصنعوا كَصَنيعي، فقد كنت صغيرا لا أفقه شيئا أعماني الطيش ولم أجد من ينهاني فأدمنت هذه اللعينة". تعتصر عيناي لتذرفا دموع الحسرة وأنا أتخيل كيف تلوث تلك الخبيثة رئتي مستهلكيها. لكنني لا أملك سوى أن أخط كلمات الندم والحسرة هاته. المفاد مما سلف من كلماتي هو توضيح الأمر الآتي: "السيجارة مضرة بالصحة وانتهى". وليس للأمر علاقة بفساد الأخلاق واعوجاج السلوك أو حتى ضعف الدين عندما يتعلق الأمر بالمرأة. وإنه لضرب من ضروب الغباء والجنون أن يمارس الإنسان ميزا عنصريا بين الجنسين حتى في ما يتعلق بالتدخين. فلا علاقة للأمر بالشرف صدقوني!