في الوقت الذي يشحذ أعضاء حزب العدالة والتنمية وشبيبته المجتمعة في مؤتمرها التاسع الشعارات المتطرفة لقطع كل الروابط السياسية والدبلوماسية مع مصر وحكومتها المؤقتة انتصارا للإخوان ولو على حساب المصالح العليا الشعب المغربي ، اختار سعد الدين العثماني تغليب صوت العقل والاتزان والواقعية، أي اختار لغة رجل الدولة عن لغة المناضل الديماغوجي الذي تهمه دغدغة أحاسيس ومشاعر قواعد الحزب وقيادته كما يفعل الحزب عادة في الحملات الانتخابية . وفرق بين الحملة الانتخابية وبين تسيير دولة . إذ المسئولية الحكومية تفرض على أي مناضل حزبي أن يخلع عنه اللون الحزبي وجبته ويرتقي إلى منزلة رجل الدولة الذي يمثل الشعب كله وليس مناضلي حزبه فقط . رجل الدولة هو الذي يجعل مصالح الوطن فوق مصلحة الحزب ، بل يضحي بمصلحة الحزب من أجل مصلحة الشعب . لكن بنكيران ومناضلي حزبه وأعضاء حركته ظلوا حزبيين متعصبين لبني مرجعيتهم الفكرية والعقدية والإيديولوجية وإن كان الثمن مكلفا يكاد يعصف بالمصالح العليا للوطن . فأن يطالب أعضاء الحزب والحركة والشبيبة بطرد السفير المصري وعقد جلسة استثنائية للبرلمان للتنديد بتدخل الجيش في عزل مرسي استجابة لثورة الشعب المصري ، أمر لا يقدر خطورته إلا رجال الدولة . والسيد العثماني شذ عن هيجان حزبه وشبيبته وانبرى إلى تبصرتهم بما تغافلوه أو لم يحيطوا به خُبرا وتقديرا . من ذلك أنه واجههم بالحقيقة التي لم يألفوها منه كمناضل حزبي وهي "لستُ هنا لأقول لكم ما يرضيكم" . عبارة دالة على واقع الحال الذي تعيشه الأحزاب التي لم تألف تسيير الدولة وظلت تعتقد أن الحزب أوسع من الدولة وأهم من الشعب ، وأن مصالح الحزب مقدمة على مصالح الشعب ، وأن قيادة الحزب مطالبة بتكييف مصالح الوطن مع مصالح الحزب . من هنا كان المؤتمرون ينتظرون من السيد العثماني أن يحمل شعار "رابعة" ويردده قولا وإشارة . فالسياسي الناجح بمقياس الإخوان هو الذي يجاري جموع المناضلين ويعبر عن شوفينيتهم وإن شكلت خطرا على مصلحة الوطن . لكن السيد العثماني نزع نظارة الحزب التي تحدد الأشياء بلون واحد وارتدى نظارة رجل الدولة التي تظهر الأشياء بألوانها ليراها كما يراها المواطنون على اختلاف انتماءاتهم ومصالحهم ومستويات مداركهم . فما كان يهم العثماني هو أن يدرك أعضاء الشبيبة والحزب والحركة أن ما ينادون به يهز استقرار البلاد ويهدد أمنها ، وأن الأمن والاستقرار هما أعظم نِعمة يجب الحرص عليها ؛ إذ لا حرية ولا حقوق مع غياب الأمن . فما كان عليه إلا أن خاطب جموع الحاضرين " للذين يصورون صورة سوداوية للمغرب ، يجب أن يعلموا أن الأمن والاستقرار وحرية المبادرة ، نِعمة وتاج هذا العصر ، خصوصا في العالم العربي والإفريقي ولا يحس بها إلا من فقدها ، ويجب أن نحمد الله على هذا الاستقرار" . هذا الاستقرار يغامر به دعاة الاحتجاج من أجل دعم إخوان مصر ونقل معاركهم إلى شوارع المغرب وساحاتها ، فيخسر الداعم والمدعوم . وقد تكون خسائر الداعم أعظم من خسائر المدعوم ؛ فإخوان مصر خسروا السلطة وبقيت الدولة ، أما لا قدر الله ، وحل الخسران بالمغرب فسيخسر الإخوان والشعب المغربي السلطة والدولة والاستقرار . لهذا كان السيد العثماني صريحا لما خاطب أعضاء الحزب والشبيبة والحركة "أنت باقي عندك الحق تغوت وتصدر المواقف وتصدر الاراء ، وكتمشي للدار تنعس دونما مشاكل .. ولهذا لا بد أن تكونوا منصفين" . بفضل الاستقرار السياسي ينعم المواطنون جميعا بمن فيهم أعضاء حزب العدالة والتنمية وقطاعاته الموازية بقدر من الحريات السياسية والفردية تضمن لهم المشاركة في الاحتجاجات السلمية وترديد الشعارات حتى تلك التي تهدد المصالح العليا للوطن ، من قبل شعار طرد السفير المصري ، والعودة إلى المنازل آمنين دون متابعات أو اعتقالات . لعل السيد العثماني أراد بهذه النصائح أن يرقى بأعضاء حزبه إلى ما تقتضيه مسئولية إدارة الدولة وتدبير الشأن الحكومي من رزانة واتزان واستحضار المصالح العليا للوطن عند كل شعار أو مطلب يرفعهما مناضلو الحزب . بل على هؤلاء جميعا أن يدركوا أن تغيير المواقع يستوجب تغيير الخطاب وتغيير المواقف . فلغة ومطالب الحزب في المعارضة ليست هي لغته ومطالبه في الحكومة . لغة المعارضة منفلتة من كل مسئولية أو رقابة ، بينما لغة المسئولية الحكومية تقتضي تحكيم العقل والمصلحة العامة بعيدا عن دغدغة العواطف وتأجيج مشاعر العامة . وكان على حزب العدالة والتنمية أن يرفع الحرج عن رئيس الحكومة بمطالبته تقديم الاستقالة من الأمانة العامة للحزب ليكون أكثر تجردا من ضغوط الحزب وأكثر حرية في اتخاذ المواقف كرجل دولة . والمزاوجة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الحزب تربك السيد بنكيران وتضعه في مواقف متناقضة . فالمسئولية الحكومية لا تسمح بأن يكون لكل مقام مقال .