يخوض رئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بن كيران ، منذ أن عينه الملك محمد السادس رئيسا للحكومة وكلفه بتشكيلها ، يخوض جولات من المباحثات الأولية مع رؤساء الأحزاب بهدف إيجاد تفاهمات تسمح بالحسم في الأحزاب التي تقبل التحالف مع حزب العدالة والتنمية . ويظل التحالف مع أحزاب الكتلة الديمقراطية ( حزب الاستقلال الذي يقود الحكومة = يميني ، حزب الاتحاد الاشتراكي الذي قاد أول حكومة تناوب توافقي سنة 1998 على عهد الملك الراحل الحسن الثاني برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي = يساري ، حزب التقدم والاشتراكية = يساري) يظل التحالف مع هذه الأحزاب مفضلا لدى رئيس الحكومة الجديد لما يجمع بين الهيئات الحزبية من قيم وطنية وأخلاقية مشتركة . فهي خرجت من رحم الشعب ولم تتدخل الإدارة في صنعها كما فعلت مع أحزاب أخرى صُنفت تحت مسمى "أحزاب إدارية" . وسيكون لهذا التحالف أثر إيجابي على الوضعية التنظيمية لأحزاب الكتلة ،كما على الوضعية السياسية عموما . بخصوص الوضعية التنظيمية لأحزاب الكتلة ، فقد عرفت تراجعا حادا على مستوى التأطير والإشعاع ، خاصة بالنسبة لأحزاب اليسار الحكومي بعد توليها إدارة الشأن العام . والنتائج التالية تعكس الانحدار/الانحدار الذي عرفه مثلا حزب الاتحاد الاشتراكي منذ توليه السلطة : 2002 : احتل الحزب المرتبة الأولى ب 50 عضوا برلمانيا من أصل 325 مجموع أعضاء البرلمان. 2007 : احتل المرتبة الخامسة ب 38 عضوا برلمانيا. 2011 :احتل المرتبة الخامسة ب 39 عضوا برلمانيا من أصل 395 مجموع أعضاء البرلمان الجديد. وقد انتقد أحد القيادات الشابة للحزب ناصر حجي وضعية التراجع هذه التي اعتبرها أعمق من حيث التوزيع الجغرافي للمقاعد البرلمانية كالتالي : ( في 2002 كنا ممثلين بشكل متوازن في مجموع التراب الوطني، في 2011 نكاد نكون غائبين في أغلب الجهات وأقاليم المملكة (وخاصة في بعض مواطن قوتنا التقليدية . أهدرت القيادة الحالية للحزب في أقل من عشر سنوات مكتسبات سياسية واجتماعية ونضالية ورمزية لمدة نصف قرن من الكفاح منذ إنشاء حزب الإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في سنة 1959. لقد حولت القيادة اتجاه الحزب من حزب رائد بمواقفه في الحقل السياسي المغربي إلى قوة إضافية في حكومات ائتلافية غير منسجمة من الناحية الإيديولوجية والبرنامجية (فكريا وعلميا). فما السبيل لاسترجاع ثقة المواطنين في أحزاب اليسار الحكومي ؟ هل بالمشاركة في حكومة يرأسها حزب العدالة والتنمية أم بمعارضتها ؟ أ في حالة المشاركة : قد يشعر أعضاء الحزب بنوع من الحرج إذا ما انضموا إلى التحالف بقيادة حزب إسلامي سبق لكاتبهم الأول أن طالب بحله عقب الأحداث الإرهابية التي هزت الدارالبيضاء ليلة 16 مايو 2003 . لكن مصلحة الحزب الذي بات يحتل المرتبة الخامسة على الساحة السياسية بعد أن فقد جزءا هاما من إشعاعه وقواعده التنظيمية ، تقتضي أن ينخرط في الائتلاف الحكومي للأسباب التالية : إن تجربة الحزب الحكومية استغرقت كل اهتمامه حيث بات المنصب أولى من الحزب الذي تعرض لتصدعات وانشقاقات دون أن يتدارك الوضع بتقوية اللحمة الداخلية واحتواء الآراء المنتقدة لهذه التجربة بتصحيحها والارتقاء بها بعيدا عن الذاتية والمصلحة الضيقة ، وجعل المنصب الحكومي في خدمة المواطنين وترجمة عملية للشعارات التي رفعها الحزب في حملاته الانتخابية . وقد كانت صادمة العبارة التي واجه بها الأستاذ اليوسفي الكاتب الأول للحزب حينها معارضي سياسته من أعضاء الحزب حين قال لهم "أرض الله واسعة" . إن الدستور الحالي يعطي للحكومة ورئيسها صلاحيات واسعة من شأنها أن تضمن قدرا واسعا من حرية الحركة والقرار بعيدا عن التدخلات أو الضغوط التي اعتادت حكومة الظل ممارستها على الحكومات السابقة . وما كان ينقص تلك الحكومات هو استقلالية القرار بعد أن تحول أعضاؤها إلى مجرد موظفين سامين ينفذون الأوامر لا البرامج . وهي فرصة الآن ، للبرهنة على أن الخلل كان في الدستور والقوانين المكبلة للحكومة وليس في أعضائها . وهذا يقتضي وضع برنامج حكومي طموح وترشيح كفاءات ذات جرأة سياسية عالية تعيد لليسار توهجه ومصداقيته . بحيث تقطع نهائيا مع تجارب الوزراء السابقين في ابتغاء البذخ والتبذير على حساب المال العام . إن اليسار ضحى على مدى عقود من أجل الديمقراطية والعيش الكريم . وما تحقق في هذا الإطار من مكاسب على مستوى الحريات العامة وحقوق الإنسان هو ثمرة هذه التضحيات . وتشكيل حكومة وفق برنامج يدعم هذه المكتسبات لن يحسب لصالح رئيس الحكومة وحده ، بل لكل الأعضاء . وتلك فرصة ليتصالح اليسار الحكومي مع المواطنين ،وليعيد الثقة إليهم في العمل الحزبي والسياسي ومؤسسات الدولة التي ينبغي أن تصبح في خدمة المواطن حيثما وجد على امتداد التراب الوطني . وهذا مدخل ليتصالح هذا اليسار مع الجغرافيا . إن السياق الإقليمي في ظل الربيع العربي يفرض على المغرب ، نظاما وحكومة ، إنجاح التغيير بما يحافظ على استقراره وتميزه ، بحيث لن يرضى المواطنون لوطنهم احتلال مناطق الظل مقارنة بالتجارب المغاربية التي تفرزها الثورات الشبابية . لهذا لا خيار أمام المغرب سوى أن تدعم القوى الحية جهود التغيير التي ستبذلها الحكومة . فلا عذر لأي طرف متردد .ومهما اختلفنا مع حزب العدالة والتنمية حول مشروعه المجتمعي ، فإن الوضع الحالي يقتضي التحالف من أجل إنقاذ الوطن . إن حزب العادلة والتنمية يخوض رهان إنجاح تجربة الإسلاميين ، ليس في المغرب فقط ، بل في العالم العربي . فإذا كان إسلاميو تركيا يقدمون تجربتهم نموذجا للعالم الإسلامي ، فإن حزب العادلة والتنمية المغربي يحرص على تقديم تجربة نوعية على المستوى العربي . لهذا سيبذل قصارى جهده لإنجاحها حتى لا يحسب عليه فشلها ؛ فيصير مضرب الأمثال في السلبية وغياب الفاعلية . إن حزب العدالة والتنمية يمتلك دعما شعبيا سيمنحه الجرأة السياسية لاتخاذ القرارات التي يراها مناسبة ثم تنفيذها دون الالتفات إلى مراكز الضغط وجيوب المقاومة ، بل إن الشرعية الديمقراطية المنبثقة عن صناديق الاقتراع ستعزز مواقفه في مواجهة هذه الجيوب وإضعافها في أفق القضاء عليها .وانضمام أحزاب الكتلة إلى الحكومة سيوفر دعما أكبر لها ولرئيسها الذي قال بعظمة لسانه أنه سيشعر بأن " كْتَافُو سخان". لهذا لن تكون أحزاب الكتلة الديمقراطية مجرد أرقام تضمن الأغلبية العددية للحكومة ، بل قيمة مضافة ونوعية ستعزز صفوف الحكومة وترفع من وتيرة عملها ، وتضمن لها الاستقرار . فالحزب لا يطمئن لمواقف الأحزاب الإدارية التي تتلقى الأوامر من جهات خارج أطرها . وقد شبه سعد الدين العثماني رئيس المجلس الوطني للحزب التحالف مع الأحزاب الإدارية بلعب "الضاما بالبخوش" . إن التحالف مع حزب العدالة والتنمية في هذه المرحلة الدقيقة سيجنب المغرب ويلات الصراع المذهبي أو الإيديولوجي الحاد من النوع الذي باتت مفتوحة عليه تونس ومصر ، خاصة بين تيار الإسلاميين والسلفيين وتيار الحداثيين . ب في حالة المعارضة : إن البرنامج الانتخابي لحزب العدالة والتنمية حظي بموافقة غالبية الناخبين . ومعارضة البرنامج الحكومي الذي ، بالتأكيد سيحرص رئيس الحكومة على أن يتضمن الأهداف المركزية لبرنامجه الانتخابي ، ستكون معارضة لغالبية الناخبين . وتلك ورقة سيستغلها حزب العدالة لتصفية ما بقي من مصداقية لدى المعارضة اليسارية . فالحزب سطر برنامجا طموحا سيجعل معارضته داخل البرلمان محط سخرية أمام الرأي العام الوطني الذي يتطلع إلى إصلاحات جوهرية تمس معيشه اليومي . علما أن الحزب يتوفر على ماكينة إعلامية رهيبة تضمن له سحق خصومه بلا رحمة . فهل سيعارض اليسار الشعرات التي كان يرفعها حين مارس المعارضة الديمقراطية أيام زمان ؟ بمعنى هل اليسار اليوم سيعارض اليسار الذي كان من قبل حين اصطف إلى جانب مصلحة الفقراء والمهمشين ؟ بأي صورة سيقف اليسار الحكومي الذي تحمل المسئولية في الحكومات الثلاثة السابقة ليجهر بمعارضته للبرنامج الحكومي الذي سيتقدم به رئيس الحكومة أمام البرلمان للمصادقة عليه ، وقد كان هذا اليسار في موقع القرار ولم ينفذ ما ينتقد عليه خصومه في الحكومة ؟ من الناحية الأخلاقية لن يستسيغ المواطن مصداقية الانتقادات حين تصدر عن طرف هو نفسه لم يلتزم بها حين مارس السلطة. سيراها معارضة من أجل المعارضة ، أو معارضة من أجل إفشال الحكومة برئاسة حزب إسلامي . لهذا ، سيكون من مصلحة الوطن وأحزاب الكتلة المشاركة في الحكومة برئاسة حزب العدالة والتنمية . فالتحالف الحكومي لا يعني بالضرورة الموافقة على المشروع المجتمعي للعدالة والتنمية ، بقدر ما هو اتفاق على برنامج حكومي لا تتجاوز مدته خمس سنوات وله أهداف واضحة . والأصوات اليسارية التي تطالب اليوم الاتحاد الاشتراكي بالعودة إلى المعارضة ورفض التحالف مع حزب إسلامي "رجعي" ومحافظ ، هي نفسها تتحالف اليوم في حركة 20 فبراير مع أشد الإسلاميين تخلفا ورجعية وعداء للديمقراطية . فكيف تجيز لنفسها ما تمنعه عن غيرها ؟ ألم يرفع اليسار المتطرف شعار "الضرب معا والسير على حدة" لتسويغ التحالف مع كل التيارات الدينية المتشددة بهدف إسقاط النظام ؟ المطلوب من الهياكل المقررة داخل أحزاب الكتلة وعلى رأسها حزب الاتحاد الاشتراكي تغليب مصلحة الوطن على مصلحة الأشخاص أو حتى الحزب في هذا المنعطف التاريخي الدقيق الذي يجتازه المغرب . ولتستحضر هذه الأجهزة المقررة أن التحالف مع حزب العدالة والتنمية بات واقعا ملموسا على مستوى التسيير المشترك للمجالس المحلية ، ولم يكن الاختلاف الإيديولوجي حائلا دون هكذا تحالف الأمس فيكيف سيكونه اليوم؟ الأكيد أن التيارات المتشددة ، إسلامية ويسارية ، لن يرضيها أي تحالف يخدم مصلحة الوطن واستقراره . ليصغي الجميع إلى صوت الضمير والوطن .