كان يا مكان قي قديم الزمان، الناس يرفقون بالحيوانات و يعاملونها أحسن معاملة، لا يؤذونها و لا يسيؤون إليها، يطعمونها ببقايا الطعام أو يتركونها في الهواء الطلق لتقتات من حشائش الأرض. و كان في القرية رجل اشترى منزلا و استقر فيه، فقرر شراء كلب لحراسة منزله الجديد. خرج الرجل للسوق و طلب كلبا من أصول رومية لما عرف على هذا النوع من الكلاب من صلابة و قدرة على النباح و التصدي للغرباء. في شهوره الأولى كان الجرو لطيفا يهوى اللعب، و كان منظره مثيرا للضحك، بأدنييه المنتصبتين الكبيرتين، و بقدميه الأماميتين السمينتين الغليظتين اللتين كانتا لا تتلاءمان في حجمهما الكبير مع جسده الصغير. ترعرع الكلب و كبر، و صارت نظراته صارمة، و أضحى غير ميّال للعب. أما فلسفته فأصبحت واضحة مع مرور الأيام: كل الناس أعداء إلا الشخص الذي اقتناه لما كان رضيعا. صعب التعامل مع الكلب إلى درجة أنه أصبح يفرض حظر التجول في المنزل، و كان كلما نهره سيده كشر عن أنيابه في رسالة تعبر عن عدم رضاه على كل "هذه الفوضى" التي تعم البيت و تجعل أهله يتجولون فيه بحرية تامة... و ذات يوم، عضّ الكلب طفلا صغيرا من أهل الدار كان يريد اللعب معه. فلقد كبر الكلب، و انتفخت عضلاته حتى صار ضخما، و لم يعد يطيق اللعب. انتفض أهل المنزل ضد الكلب و طالبوا صاحبه بتسريحه و الإلقاء به خارج البيت، ولكن صاحب الكلب رفض بدعوى أن الكلب لم يقصد عض الطفل الصغير، و أن الأمر كان مجرد حادثة مؤسفة في جولة لعب بريئة. و الحقيقة، حسب بعض الخبراء في شؤون الكلاب، أن "الكلب كان يريد إرضاء صاحبه، و ذلك بالتفاني في الشراسة و كره العالم بأسره، ما عدا صاحبه الذي كان يغدق عليه بالطعام"، بل كان يعتني به إلى درجة تنظيفه بصابون خاص بالكلاب يناهز ثمنه 200 دينار، و ما كان صاحب الكلب غنيا بتاتا بل كان بالكاد يدير و يدبّر الأيام و الشهور. المفروض أن يجر صاحب الكلب كلبه و ليس العكس، و لكن في هذه الحالة كان الكلب هو من يجر صاحبه في فترات التجوال اليومية نظرا لقوة الدفع الهائلة التي كان يمتاز بها الكلب، و كان صاحب الكلب يحاول، في كل مرة و بعناء كبير، الحد من اندفاع الكلب حتى لا يسقطه أرضا. و في الأخير، قرر صاحب الكلب إلغاء برنامج التجوال اليومي صحبة كلبه تفاديا للتعب و المتاعب. و ضل الكلب يمضي كل أيامه في المنزل يحرسه من الغرباء، و يمنع آهل الدار من التجوال في منزلهم بحرية مما حتم ربطه بسلسلة قصيرة معظم الوقت نهارا، أما في فترة الليل فكان الكلب يصول و يجول في حديقة المنزل و الويل لمن اقتحم هذا الفضاء الذي ابتعد عنه الغرباء، و هجرته الطيور أيضا حفاظا على سلامتها... و في يوم من الأيام، حكا صاحب الكلب محنته مع كلبه، لصديق له كلب يسمع الكلام. و النصيحة كانت أن يخضع الكلب للتدريب تحت إشراف مهنيين أخصائيين في تصرفات الكلاب. تلقى صاحب الكلب العنيد الشرس النصيحة من صديقه، و لكنه لم يعمل بها بدعوى أن لا وقت لديه لتخصيصه لحصص تدريب يومية أو أسبوعية لكلبه العنيد، و يا للخطأ الفادح. مرت أيام معدودات، و ازدادت شراسة الكلب و كرهه للعالم بأسره، و واصل أهل الدار انتفاضتهم ضده مطالبين صاحبه بتسريحه و إبعاده كليا عن المنزل. و لكن كان كلما انفرد صاحب الكلب بكلبه إلا و بدا له ذكيا ظريفا لطيفا هادئا، و وفيا. فكيف لصاحب الكلب أن يغدر بكلبه و الكلب لا يقوم سوى بواجبه: حراسة المنزل، و الوفاء لصاحبه و الدفاع عنه أمام الغرباء ؟ حسب بعض الخبراء العارفين بشؤون الكلاب: " الكلب مجرد حيوان لا يمكن أن نطلب منه أن يتصرف كإنسان يتحرى المعرفة و التحليل قبل اتخاذ القرار. الكلب تفكيره بسيط، فهو يستثني صاحبه و يعضّ أو يفترس الباقي، و لن يفهم و لن يتقبل أي عقاب يطاله أو إبعاد يبعده، لأن في ظنه أنه لا يقوم سوى بواجبه أو بالواجب". صعب على صاحب الكلب التخلص من كلبه الخطير مخافة أن يظلمه. و لكن في يوم من الأيام، كاد الكلب أن يرتكب مجزرة في حق أطفال أهل الدار، فلم يتمالك صاحب الكلب نفسه و أخذ كلبه إلى حديقة الرفق بالحيوان و أمضى محضر التخلي عنه. و لما همّ صاحب الكلب بمغادرة الحديقة، نظر الكلب إلى صاحبه نظرة غريبة حتى خيّل له أنه يقول "لماذا غدرت بي"؟ و لكن صاحب الكلب تسلح بالصرامة و غادر حديقة الرفق بالحيوان دون تردد متخليا عن كلبه و هو يردد "هذا هو الحل"..، "هذا هو الحل"..، ربما تفاديا لوأد الضمير... و مرت الأيام، و ذهب صاحب الكلب في عطلة صيفية في ناحية شمالية ليستريح من تداعيات قضية الكلب الذي اضطر للتخلي عنه، و الذي كان قد تسبب في بعض الخصام أو الخصومة المؤقتة مع بعض أهل الدار...قضى صاحب الكلب أياما ممتعة جعلته ينسى كلبه الذي اضطر للتخلي عنه، إلى أن جاء يوم مشهود جعله يعيد فتح ملف قضية كلبه "الوفي المجرم البريء". وقفت السيارة العادية المتواضعة التي كان يقودها سائح غريب على البلد، و معه كلب ضخم. نزل الغريب من سيارته و تبعه كلبه الضخم المخيف في هدوء و طمأنينة. و شاءت الصدفة أن تكون مجموعة من الكلاب الضالة، التي لا تجتمع إلا على سوء، مرابطة بنفس المكان حول قمامة أزبال نتنة بحثا عن طعام عفن، فظن الذي اضطر للتخلي عن كلبه أنها المعركة، و أن الكلب الضخم سيفترس بعضا من الكلاب الضالة أو جميعها، أو أنه سيجعلها تفر بجلدها كما كان حتما سيفعل الكلب المتخلى عنه من طرف صاحبه في مثل هذا الموقف، و لكن شيئا من هذا لم يحصل. لم يلتفت الكلب الضخم للكلاب الضالة و لو بنظرة احتقار، و تابع السير وراء صاحبه، و دونما شغب أو جرّ أو إزعاج لصاحبه. مرّ الكلب الضخم و كأنه قافلة، و الكلاب الضالة تنبح وراءه، دون أن تجرأ على الاقتراب منه تماما، حتى بح صوتها وعادت أدراجها لتستمر في الخوض في القمامة النتنة العفنة. انتهى المشهد، و قرر الذي اضطر للتخلي عن كلبه الشرس الانزواء في مقهى شيّد غير بعيد على شاطئ البحر للتأمل و البحث في قضية الكلاب الوفية. فهل كان الكلب المتخلى عنه غير وفيّ...؟ لا، لا...المنطق يقول لا، لأن الكلاب كلها وفية لأصحابها. و لكن، لماذا كلب الغريب لا يثير الفوضى أينما حل و ارتحل، و لا يجر صاحبه في هيجان و اندفاع متوحش، و لو لم يكن قد تلقى أي تدريب تحت إشراف أخصائيين في ترويض الكلاب...؟ لماذا تحتاج كلابنا إلى الترويض و التدريب و لا تحتاج كلابهم لا لترويض و لا لتدريب...؟ حسب بعض الخبراء العارفين بشؤون الكلاب: "كل الكلاب وفية لأصحابها و لا يوجد كلب أكثر وفاء من الآخر، و كل كلب لا يسعى سوى لإرضاء صاحبه. فإذا كان صاحب الكلب يشعر على الدوام و بشكل عام، مثلا، بعدم الطمأنينة، أو بالخوف، أو بالغضب، أو بعدم الرضا، أو بالانزعاج الدائم...إلى آخره، ينعكس ذلك الشعور على الكلب الذي له حواس خاصة به ككلب. و بما أنه كلب لا يميز و لا يعرف من معنى لكظم الغيظ مثلا، و لا يعرف من معنى لا للمكر البناء و لا الهدام، و لا يستطيع إخفاء ما بداخله من شعور، فهو يفعّل أو يترجم مباشرة شعور صاحبه إلى سلوك واقعي، فيهيج و يكون عدوانيا فوضويا يعضّ كل من يصادفه، ظنا منه أن ذلك هو المطلوب للدفاع عن صاحبه، أو لإرضائه، أو للثأر له من العالم الذي جعله لا يشعر بالاطمئنان بشكل عام". يا لها من خبرة عجيبة...، أو يا لغرابة شؤون الكلاب... المهم، فهل ظلم صاحب الكلب كلبه لما تخلى عنه في حديقة الرفق بالحيوان؟ الكلب المتخلى عنه كان عدوانيا ولكنه كان يحسب عدوانيته خيرا ينتفع بها صاحبه، فالكلب هذا إذا بريء إلا من حيوانيته. و لكن العالم ليس في ملك صاحب الكلب، و الناس الغرباء و الأقارب لهم الحق في العيش في طمأنينة دون خوف من عضة كلب وفيّ لصاحبه الذي لا يستطيع ضبطه. لم يظلم إذا صاحب الكلب كلبه، فلقد أودعه في حديقة الرفق بالحيوان حتى يتعلم العيش في عالم الإنسان الذي يرفق به، و حتى يتعلم الانضباط و عدم إطلاق العنان لحيوانيته الجياشة المطلقة. لا حاجة لأحد لكلب وفيّ يظن أن سرّ إرضاء صاحبه يكمن في العدوانية الحيوانية المطلقة تجاه الناس و الأهل و الأحباب. حسنا إذا فعل صاحب الكلب: إبعاد الكلب دون إيذائه، و ذلك بالتخلي عنه في حديقة الرفق بالحيوان حتى يتم تدريبه و ترويضه على العيش مع الناس. لا يجب لصغير أو كبير التعلق بكلب أكثر من اللازم مهما كان وفاؤه لصاحبه جليا، لا يجب أبدا أن ينسى كل من يمتلك كلبا أن الكلب كلب، و الكلب حيوان لا يرقى أبدا إلى منزلة الإنسان، و تلك مشيئة الله عز و جل في علاه. خلاصة: على كل صاحب كلب تجتمع فيه كل شروط العدوانية و الكراهية و الشراسة، أن يختار بين شيئين: إما أن يخضع كلبه للترويض و التدريب تحت إشراف أخصائيين في شؤون الكلاب، مهما اقتضى ذلك من صبر و مهما تطلب ذلك من وقت و مال، أو التخلي عنه في حديقة الرفق بالحيوان، حتى لا يتسبب الكلب الوفي زيادة في مجزرة في حق الناس أو الأهل أو الأحباب، لأن حينها لن ينفع الندم.