بعض المدن والتجمعات السكنية عرفت في الآونة الأخيرة، وخاصة مع بداية الألفية الثالثة، غرسا مستمرا لأشجار الزيتون، وعمت العملية أحياء بكاملها. أصبح لكل منزل له منفذ على الشارع العام شجيراته، حيث تنمو مع الأيام، وتتشابك أغصانها لتكون شكل بساتين داخل المجال الحضري. وبذلك تكاد تحجب دخول ضوء الشمس إلى المنازل، سواء بالطابق السفلى، وحتى الذي يعلوه. لكن السؤال المطروح ما فائدة أشجار الزيتون بأرصفة الأحياء السكنية بالحواضر؟ هل من دور تجميلي لتزيينها؟ هل من روائح عطرة يمكن أن تفوح منها؟ وما أهميتها في تلطيف الجو؟ وأسئلة أخرى تطرح في هذا المجال، لكن ما يلاحظ هو ترييفها للمجال الحضري، وبالتالي إحداث نوع من التعدي على حقوق المارة والتضييق عليهم في استعمال الأرصفة المخصصة لهم، مما يحدث لهم ضررا بالدفع بهم إلى السير وسط الشارع، وبالتالي احتمال التعرض لأخطار حوادث السير. والمتعدي يلزم زجره قانونيا. لقد أصبحت أشجار الزيتون المزروعة بكثافة في مختلف الأحياء تشكل عائقا للراجلين، بحيث انضافت إلى احتلال الملك العمومي، ودون سند قانوني، من طرف الحرفيين، سواء في المجال التجاري أو الصناعي. ويكمن خطر شجر الزيتون في الأحياء السكنية بما يحدثه من أضرار صحية لمجموعة من الأشخاص يعانون من ضعف المناعة تجاه اللقاح الذي ينفث طيلة فترة إزهاره في فصل الربيع. إن شجرة الزيتون، شجرة مباركة ذكرت في القرآن الكريم في العديد من الآيات، من ذلك "والتين والزيتون" سورة التين، الآية (1). ثم في قوله تعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " سورة النور، الآية (35). ومن الآيات أيضا: "وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ". سورة الأنعام، الآية (141). تنبت أشجار الزيتون في المناطق شبه الجافة لكونها تتكيف مع مناخها، وعرفت زراعتها بدرجة مهمة بحوض البحر الأبيض المتوسط منذ العصور القديمة، وتشكل أكثر من 90 في المائة من مجموع أشجار الزيتون بالعالم. فقد استغل السكان ثمارها للتغذية والإنارة قبل أن يكتشفوا منافع أخرى تستخرج من زيوتها، منها ما هو مخصص للزينة ومواد الصيدلة. ولا أحد بإمكانه نكران كرم شجرة الزيتون لفوائد منتوجها ودوره في الاقتصاد، وقيمته الغذائية. وتم الإعلان عن اليوم العالمي لشجرة الزيتون من طرف اليونسكو عام 2019، ليقام تخليده كل سنة في 26 نونبر. كما كان لغصن الزيتون مكانة مهمة في أذهان سكان منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط منذ العصور القديمة، حيث اعتبروه رمزا للسلام والحكمة والوئام. ومع ذلك لا يمكن بأي حال أن تدخل في تزيين الشوارع والأحياء السكنية وحدائق النزهة، وفي حدائق الفيلات وأماكن الترويح عن النفس، أو في ساحات المدارس. فهي لا تضفي على المكان جمالا، وخاصة مع ازدياد نموها، وإنتاج ثمارها. فقد ثبت علميا، ومن خلال الكشف الطبي أن أشجار الزيتون التي تزهر طيلة فصل الربيع، تنتج البروتين المسبب للحساسية من حبوب لقاح الزيتون والمسمى "Olé e 1" وتحدث ضررا بالأشخاص الذين يعانون من بعض أنواع الحساسية المتعلقة بالجهاز التنفسي، حيث تعتبر ثالث أكثر حساسية من حبوب اللقاح شيوعا بعد لقاح الأعشاب وحبوب الزرع. وتسبب الإصابة بحساسية حبوب اللقاح أعراضا مختلفة تتمثل في: حكة العيون عيون دامعة تورم وازرقاق تحت العينين العطس والسعال سيلان الأنف انسداد الأنف ضغط على الجيوب الأنفية صفير على مستوى القصبة الرئوية حكة في الحلق انخفاض حاستي الشم والتذوق وفي الحالات الحساسة جدا يصاب الشخص بضيق في التنفس ويظهر عليه الإعياء والخمول. كما أن أعراض الربو قد تزداد سوءًا عند المصابين بهذا المرض بعد تعرضهم لحبوب اللقاح. يحدث هذا طيلة فصل الربيع، وليس بالضرورة عند المرور بالقرب من أشجار الزيتون المزهرة، بل ينتشر غبار الأزهار في الجو على مسافة بعيدة، وأظهرت الدراسات أن الرياح يمكن أن تحملها لمسافة تصل إلى 10 كيلومترات. أما وضعية الذين يقطنون بجوارها، أو ممن يمرون بالشارع الذي غرست به هذه الأشجار فيكون حالهم جد سيئ. ومع تكاثر غرس شجر الزيتون بالأحياء السكنية، أصبح عدد المصابين بحساسية لقاح أزهارها في تزايد مستمر. ويضطر هؤلاء المصابون باللجوء إلى علاج طويل الأمد، يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، نظرا لكون المرض يدخل في خانة الأمراض المزمنة، بحيث يعود كلما كان هناك مؤشر لوجود غبار اللقاح في الأجواء المحيطة بمكان وجوده، وقد يؤدي به أحيانا إلى نوبات حادة تتطلب نقلة إلى المستعجلات. وبما أن وضعية المؤسسات الصحية تشكو من ضعف المستلزمات الضرورية، يبقى أمام المصابين التوجه إلى القطاع الخاص الذي يتطلب تكاليف باهظة، كما أن غالبية الأدوية التي يصفها الطب المختص في هذا المجال، لا يتم تعويضها من مؤسسات الاحتياط الاجتماعي إلا بنسبة ضئيلة، لمن ساعدهم الحظ بالانخراط فيها. وتختلف علاجات الحساسية الموسمية باختلاف شدتها، حيث تتطلب قطرات الأنف مثل (ناز إير Naz Air) والعينين (زاليغ Zaleg) وقد يحتاج المريض إلى حبوب مضادات الهيستامين، وفي الحالات الصعبة يتطلب الأمر العلاج بإبر الكورتيزون، رغم تحفظ بعض الأطباء عليه لوجود أعراض جانبية له على المريض مثل الإعياء والخمول. يؤكد الدكتور بنيوب زحاف، طبيب أمراض الرئة بوجدة، عمل سابقا بمستشفى بمرسيليا، أنه عندما كان بفرنسا لم ير شخصا واحدا يقوم بزرع أشجار الزيتون في المدينة، لأن غرسها ممنوع داخل المدار الحضري للمدن. ويضيف بأن الحساسية التي يسببها لقاح شجر الزيتون عدوانية بشكل خاص. وينصح الاختصاصيون في أمراض الحساسية والجهاز التنفسي للتخفيف من حدة حبوب اللقاح الموسمية، بالقيام ببعض الأمور التي قد تساعد على التخفيف من الأعراض، ومنها: تجنب الخروج من المنزل خلال الأيام الجافة أو خلال هبوب الرياح. الابتعاد عن المرور من الأماكن التي تنبت فيها أشجار الزيتون. ارتداء الكمامة التي تحمي من حبوب اللقاح. التأكد من إغلاق الأبواب والنوافذ بالمنزل في أوقات ذروة انتشار حبوب اللقاح. استبدال الملابس عند الدخول مباشرة إلى المنزل. أخذ حمام قبل النوم من أجل التخلص من حبوب اللقاح التي قد تكون عالقة بالجسم، وخاصة بالشعر. لذا فإن الوقاية تكون خير علاج. إنما ليست الوقاية بمجرد أخذ الحيطة والحذر. وحتى الابتعاد وحده عن مكمن الداء لا يكفي للحد من الخطر، وإنما ينبغي، بل يلزم قطع الداء من جذوره، وهو لا يكلف شيئا بالمقارنة مع الأضرار الناجمة عنه، ولكن يتطلب دراسة ميدانية لتطبيق مخطط التعمير، وتنظيم الحدائق، وموافقة سلطات الجماعة الحضرية على نوعية الأغراس التي يقوم السكان بتنبيتها جوار منازلهم، مع التتبع والمراقبة المستمرة حفاظا على صحة الساكنة، وإعطاء مظهر التجمعات السكنية رونقا وجمالية تدخل البهجة والسرور على الجميع، زيادة على تفادي الإضرار بالغير. ولعلاج ظاهرة أشجار الزيتون داخل التجمعات السكانية، يتطلب الأمر إصدار قرار حكومي يلزم الجماعات الحضرية بحظر غرس أشجار الزيتون بالمدار الحضري بصفة قطعية مع اتخاذ التدابير القانونية لتطبيقه، ومن جهة أخرى العمل على اقتلاع تلك الموجودة حاليا، رحمة بالمتضررين من مفعولها، واستبدالها بأشجار وأغراس تضفي رونقا وجمالية على الأحياء السكنية، ولا تشكل أية خطورة على صحة المواطنين. وتجدر الإشارة على سبيل المثل إلى أن مركز ابن أحمد بامزاب الشاوية، كان في فترة الحماية، وإلى حدود سبعينيات القرن الماضي، يطلق عليه "مدينة التوت"، لكون أشجار التوت تكسو معظم أرصفة الشوارع والأزقة، التي عملت الإدارة المحلية على غرسها بكثافة، مع الاعتناء بها، وحراستها من عبث الأطفال حينما تثمر في فصل الربيع. وفي فصل الخريف تسقط أوراقها، وتبقى أغصانها رافعة رأسها إلى السماء، ومع نزول المطر تنظف وتعطي منظرا جميلا كأنها لوحة تشكيلية أنتجتها الطبيعة. لكن الملفت للنظر، أنه منذ العقدين الأخيرين، حلت مكانها أشجار الزيتون وفي غفلة من سلطات المدينة التي لم تعر الأمر ما يستحق من اهتمام. ولم تسلم حتى ساحات المدارس من غرس أشجار الزيتون دون مراعاة لما يمكن أن تحدثه من أضرار صحية للتلاميذ ورجال التعليم الذين يعانون من أعراض الحساسية لأزهار هذه الشجرة. كما أن مسؤولي وزارة التربية الوطنية على المستوى الإقليمي لا يقومون بمراقبة ما يتم غرسه فوق ممتلكاتها، ودون فرض شرط الترخيص لإنجاز مثل هذه الأعمال، واستشارة مصلحة الصحة المدرسية المتعاقد معها محليا. وبمناسبة إعادة انتخاب مجالس الجماعات الترابية، نوجه نداءً من هذا المنبر إلى كافة المترشحين أن يضعوا ضمن برامجهم خطة للاهتمام بالجانب البيئي بصفة عامة، وإعادة النظر في مسألة احتلال الملك العمومي، وعلى رأسها تنقية أزقة وشوارع الأحياء من الأغراس المضرة بالصحة والمشوهة للمنظر العام. وقد يكون لتجنب إثارة حساسية الناخبين، من أجل كسب أصواتهم، بغض الطرف عن التجاوزات المخلة بالانضباط للمخطط الحضري، أثر بالغ في تكريس بعض السلوكيات السلبية، وبالتالي الانحراف عن ضوابط المواطنة، ومحاربة تمدن الحواضر، مما يؤدي إلى ترييفها، بدل البحث عن طرق للابتكار في تحسين جودة الحياة بالمدينة، وتفادي الإضرار بمن يعانون من أمراض الحساسية. وقد يحتج البعض بحجة الطبيعة الدينية لهذه الشجرة، لكن مكانها ليس وسط السكان للإضرار ببعضهم، ومهما يكن فإن صحة المواطنين تبقى فوق كل اعتبار. فهي ليست شجرة الأرصفة والتزيين، وهي غير مؤهلة لتأثيث الشوارع والحدائق وساحات المؤسسات التعليمية، بسبب جانبها الفوضوي وحتى الخطير، وأن تساقط الزيتون على الطريق عندما ينضج يشكل منظرا قبيحا للعين، ويمكن أن يتسبب في انزلاق المارة. هذا مع العلم أن أشجار الزيتون بالمجال الحضري تمتص الكثير من أنواع التلوث الخطير التي تتسرب إلى ثماره. كما أن جذوره تهدد سلامة البنيات التجهيزية من خيوط الكهرباء والهاتف وقنوات الماء والصرف الصحي، وجدران البنايات. ومن يعارض حظر زراعة أشجار الزيتون داخل المدن، أو يمانع اقتلاع تلك المغروسة، إنما لا يعرفون أضرارها الصحية، وينبغي تحسيسهم بذلك، وهي مسؤولية الجماعة الحضرية، وممثلي وزارة الصحة، وجمعيات الأحياء عن طريق القيام بحملات للتوعية. أو أنهم لا يعانون من الحساسية تجاه لقاحها، لا هم ولا من حولهم، وعليهم الرفق بالمصابين، واحترام حقهم في العيش المشترك داخل فضاء المدينة بأمن واطمئنان دون مضايقة ومحاولة رفع الضرر عنهم.