منطلقات إبداع العقل الإسلامي 1. نقد العقل الغربي يقوم الإبداع على خاصية التمايز، فهو خلق وابتكار على غير نموذج سابق، و أما النسج على منوال آخر فليس من الإبداع في الشيء، بل هو من المحاكاة والتقليد، من هنا فإبداع نظرية في العقل الإسلامي لابد أن تنطلق من نقطة تتجاوز النسق السائد، و تقطع مع النموذج الذي يروجه الآخر، لكن البعض يقدم كبديل للخروج من حالة التأخر التاريخي والركود المعرفي والجمود الثقافي الذي يتردى فيه العقل الإسلامي الاحتذاء بخصائص العقل الغربي، وقذ اتخذ هذا المنهج الاتباعي التقليدي شكلين : الشكل الأول؛ واضح وجلي وصريح، إذ يدعو إلى قطيعة معرفية تامة وشاملة مع تراثنا وتخصيب العقل الإسلامي بمكتسبات العقل الغربي باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، والصورة الأخرى اتخذت شكلا "مخففا" يحذو حذو التوفيق والوصل بين التراثين العربي والغربي، ويحلو للبعض أن يصف هذا المنهج بالتلفيقي، و هوعلى العموم يقوم على آلية التأصيل والتبيئة، أي البحث عن أصول للفكرانية الحداثية في تراثنا، من هنا نعي ما ينطوي عليه زخم الاشتغال بالتراث من قبل بعض النخب الحداثية و الانخراط فيه، و إذا أخذنا نموذج أحد المفكرين العرب الذين اشتهروا بتأصيل الحداثة وتبيئتها فإننا سنجد أنه أقام نموذجه على آليتين : 1. ضرورة طي قرون الجمود والانحطاط الفكري المسماة في أدبيات الفكر العربي المعاصر ب "السكولاستيكية"، ومد جسور التواصل واللقاء مع أنضج فكر أنتج في سياق الثقافة العربية، وهو فكر فيلسوف قرطبة أبو الوليد ابن رشد، ثم الانطلاق منه واستئناف المسار الذي شقه، بالضبط كما كان هذا التراث الرشدي بمثابة الدفعة الأولى للنهضة الأوروبية التي حركت مياه الثقافة الغربية الراكدة. 2. تأصيل القيم الحداثية، و ذلك بالتنقيب في التراث عن مماثلات لها وتقديمها بالتالي في قالب خصوصي باعتبارها من الذات لا بضاعة مستوردة، ويبدو أن هذه الخطة أملاها واقع التعددية والثراء الفكري في التراث الإسلامي العربي. غير أن طه عبد الرحمن يرفض رفضا مبدئيا هذه القراءة التجزيئية التقزيعية للتراث، ويدعو لما سماه قراءة تكاملية شمولية بالنظر إلى أن التراث إفراز لقواعد مجال تداولي واحد. وهكذا فالجابري الذي عرف بقراءته التجزيئية للتراث وقع في عدة أخطاء بحسب الرؤية الطهائية؛ الخطأ الأول مزدوج، و يكمن في الهوة الموجودة بين دعوته حين بسط الكلام عن منهجه في "نحن و التراث" إلى ضرورة تجاوز القراءات التجزيئية التي تفصل بين أجزاء التراث و استبدالها بالقراءة الكلية الشاملة، والوقوع في القراءة التجزيئية ذاتها، الوجه الآخر يتمثل في مفارقة تتجلى في دعوته إلى قراءة الآليات التي أنتجت لنا هذا العقل، والتصدي في المشروع لتقييم المضامين والمحتويات التراثية، يقول طه عبد الرحمن في هذا الصدد " وباختصار، فإن الجابري، وإن دعى في مواضع من كتبه، التمسك بما يشبه المبدأين وهما لاتقويم صحيح إلا بالنظرة الشمولية ولا تقويم أصيل إلا بالبحث في الآليات، فإنه ما لبث أن وقع في التناقض عند العمل بهما، فانتقل من النظرة الشمولية إلى النظرة التجزيئية، ومن البحث في الآليات التراثية، إلى البحث في الخطاب التراثي بصدد هذه الآليات"(1). والخطأ الثاني مزدوج كذلك، فالجابري يصرح في كتابه "تكوين العقل العربي" أنه يستند في فحصه للعقل العربي على أرقى النظريات العلمية التي تقارب موضوع العقل، بينما ما اعتمد عليه كان متجاوزا و متقادما في الساحة العلمية، والوجه الآخر لهذا الخطأ، أن الجابري أساء فهم عبارة لفقيه العلم "غونزيت" عليها سيبني قوله باختلاف العقول باختلاف الميادين المعرفية التي يتفاعل معه العقل ويحتك بها، يقول طه عبد الرحمن : "إن التصور العلمي الأرقى للعقل الذي يدعي الجابري تحصيله والتوسل به في بناء نظرية للعقل العربي مدخول من جانين اثنين : أ. تقادم دراسات فقه العلم أو الابستمولوجيا التي استند إليها. ب. فساد فهمه لعبارة "غونزيت" إذ حملها على نقيض ما تدل عليه." (2). إن هذا الاستطراد لابد منه لفهم حقيقة موقف طه عبد الرحمن من العقل الغربي، فطه عبد الرحمن إذ ينتقد إساءة توظيف المناهج الغربية لا يدعو بلسان حاله إلى تجويد هذا الاستعمال والرقي به، بل إن طه لا يفتأ يدعو إلى الخروج من إسار التبعية و نفقالتقليد، لكن لا من منطلق الممانعة الثقافية السلبية، و إنما استنادا على قاعدة فلسفية متينة، وقد ذهب في نقده هذا حدا لم يقتصر فيه على نفض التقليد على المستوى المنهجي بل قام بتقويض نموذج العقلانية الغربية ككل، باعتبارها عقلانية مجردة غير مجدية و لا يؤمن شرها. إن طه عبد الرحمن قبل أن يؤلف "روح الحدثة" الذي بسط فيه الكلام عن الأسس والقواعد الفلسفية للحداثة الإسلامية، أبرز الخلل الذي يعتري الحداثة الغربية في "سؤال الأخلاق"، فانتقد تمثلات الحضارة الغربية لروح الحداثة من خلال الوقوف على الثغرات والهنات التي أحدثتها في المنظومة القيمية الأخلاقية، و هكذا فعادة طه عبد الرحمن أن يبدأ بهدم النسق الشائع ثم يشرع في البناء، وسيرا على هذا المنهج نرى أنه قبل أن نبسط القول في العقل الإسلامي المثالي كما تصوره طه عبد الرحمن لابد من البدء بنقده للمقاربة الغربية لمفهوم العقل. إن محاولة طه عبد الرحمن في نقد العقل الغربي محاولة جريئة وفريدة من نوعها، سلك فيها مسلكا جديدا لم يسبقه إليها أحد فيما نعلم. لقد بنى نقده للعقل الغربي على منهج ابتكره، مفاده أن أية عقلانية لا بد أن تستوفي ثلاثة معايير؛ "معيار الفاعلية" و "معيار التقويم" و "معيار التكامل"، وهكذا قرأ التعاريف التي قدمها كبار الفلاسفة الأوروبيين للعقل على ضوء هذه المعايير، واستخلص أن العقل الغربي يخل إخلالا عظيما بهذه المعايير. لنوضح كيف توصل طه عبد الرحمن لهذه النتيجة. قبل أن نبسط الكلام في النقد الطهائي للتعريفين الأرسطي والديكارتي للعقل، لنشرح المعايير الثلاثة التي يجب أن تتوفر في العقلانية المثالية الناجعة؛ إن المقصود بمعيار الفاعلية جملة الوسائل التي يتخذها الإنسان لتحقيق مقاصده، وهي على العموم تتسم بالتنوع والتعدد والمرونة والتغير بتغير المواقف والظروف المكانية والزمانية، يقول طه عبد الرحمن عن مقتضى هذا المعيار "أن الإنسان يحقق ذاته بواسطة أفعال مجالها متسع ومتنوع؛ ويتجلى تحقق الإنسان بواسطة الأفعال فيما يتخذه من مختلف المواقف التي تتحدد بمجموعها هوية سلوكه"(3)، أما معيار التقويم فيقصد به تلك المقاصد ذات الطابع القيمي التي يهفو الإنسان لتحقيقها، وهي على عكس الوسائل تتسم بالثبات والشمول، وبعارة طه عبد الرحمن مقتضى هذا المعيار أن الإنسان "لا يركن إلى ما هو كائن و ما هو واقع، بل يسعى دوما أن يكون موجها بقيم معينة تملي عليه ما يجب أن يكون وما يجب أن يقع، ومشدودا إلى معان تعلو بهمته إلى الخروج عن حالة الحاضر وابتغاء أحوال أخرى غيرها" (4)، أما معيار التكامل فمقتضاه أن الإنسان وحدة متكاملة وأي نموذج عقلاني لا بد أن يرعى هذه السمة، فالإنسان لا يقبل التجزيء والتقسيم إلى أشلاء و شذرات "إنه ليس مجموعة من الأجزاء التي تقبل إيقاع الانفصال بينها وإيقاف تأثير بعضها في بعض، وإنما هو عبارة عن ذات واحدة تجتمع فيها مظاهر القوة مع مظاهر الضعف وصفات العرفان مع صفات الوجدان ومستويات النظر مع مستويات العمل وقيم الجسم مع قيم الروح" (5). فهل التعاريف الغربية للعقل محتوية لهذه المعايير موفية لها؟ يقول أرسطو في تعريف العقل إنه "عبارة عن جوهر قائم بالإنسان يفارق به الحيوان ويستعد به لقبول المعرفة". إن هذا التعريف إذ يعتبر العقل جوهرا أي ذاتا قائمة بذاتها فإنه يخل بمعيار الفاعلية، ذلك أن من ملازِمات التجوهر الثبات، وهذا ما يسقط عنه سمات التعدد والتنوع والانسجام مع المتغيرات الزمكانية، وهكذا فالتعريف الأرسطي للعقل يخل بشرط معيار الفاعلية الذي يقتضي كما قلنا التوسل بوسائل مختلفة متعددة ومتنوعة، يقول طه عبد الرحمن "من حيث معيار الفاعلية، فهذا التعريف يجعل من العقل جوهرا، أي شيئا ينزل منزلة الذات، بينما الصواب أن يكون العقل فعلا من الأفعال وسلوكا من السلوكات، بل أن يكون أدل الأفعال على الفاعلية وعلى أوصافها" (6). أما من حيث معيار التكامل، فإن هذا التعريف يغفل ربط العقل بمكونات أخرى لا تقل أهمية عن العقل في إطار وحدة تكاملية، إن التعريف الأرسطي للعقل إذ يجوهر العقل فإنه يجزئ الإنسان ويلغي الوحدة والانسجام بين المكونات التي يزخر بها الكيان الإنساني، أو كما يقول طه عبد الرحمن "إن تخصيص العقل بصفة الذات يجعله منفصلا عن صفات أخرى للعاقل تشارك في تحديد ماهية الإنسان كالعمل والتجربة؛ فلو جاز التسليم بجوهرية العقل على طريقة اليونان، لجاز التسليم بجوهرية العمل وجوهرية التجربة" (7). أما عن معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي يقترب منه وإن لم يستوفه كاملا، فالتعريف يجعل من العقل مقوما ومقصدا على أساسه يتميز عن الحيوان، غير أن العقل كما تم تصويره في الفكر الغربي قد خرج بحكم الغلو فيه عن حدوده الناجعة وانقلب بالضرر على الإنسان، يتبين لنا هذا عندما نتأمل تلك الآراء الفلسفية التي ألهت العقل على سبيل المثال لا الحصر. و هكذا فالعقل الأرسطي ليس نموذجا مثاليا للعقل يحتذى به ويُجتهد في بلوغ مراتبه، لأنه يخل بمعيار الفاعلية بحكم تنزيل العقل منزلة الجوهر بدل أن يعتبر فعلا من أدل الأفعال على الفاعلية، ولا يستوفي معيار التكامل لأنه لا ينظر إلى القدرات الإنسانية نظرة تستبطن الوحدة والتكامل، بل إن التعريف الأرسطي للعقل يقع في الفصل والتقسيم، وأما معيار التقويم، فإن التعريف الأرسطي إذ ينظر إلى العقل كماهية تميزه عن الحيوان، أي كقيمة على ضوئها يقيم ما يواجهه من قضايا، فإنه يوفه جزئيا، إلا أنه لم يضبط حدوده حتى انقلب إلى شر وضرر. أما التعريف الديكارتي للعقلانية فمختزل في الإطار المنهجي، يقول "ديكارت" في تعريفها أنها "استخدام المنهج العقلي على الوجه الذي يتحدد به في سياق ممارسة العلوم الحديثة، ولا سيما الرياضية منها". ويمكن أن نقول أن هذا التعريف ظل حاضرا في ممارسات العقل الغربي، بل إنه يتنزل منزلة الروح بالنسبة له، من هنا فتقييم هذا التعريف لن يكون مجديا إلا إذا أمعنا النظر في الممارسة الإجرائية للعقل الغربي. إن المنهج العقلي حسب طه عبد الرحمن لا يستوفي معيار التقويم، فإذا كان هذا الأخير يستلزم تحقيق النفع في المقاصد، فإن هذا المنهج يوقعنا في عدة آفات، هي "النسبية" و "الاسترقاقية" و "الفوضوية" (8)، والمقصود بالنسبية اختلاف القوانين التي يحتكم إليها العقل اختلافا جوهريا كما هو مشاهد في علم المنطق، والمقصود بالاسترقاقية، استرقاق التقنية للإنسان، فإذا كانت الثورة العلمية التي تحققت بفعل تطبيق المنهج العقلي تروم تحرير الإنسان وتحقيق سيطرته على الطبيعة فإنه على العكس من أحلام الإنسان الغربي الزاهية اكتسحت التقنية حياته واستحالت عالما قائما بذاته يملي على الإنسان ويستعبده، ويرى طه عبد الرحمن أن الاسترقاق نتيجة حتمية لمبدأين شائعين في الفكر الغربي؛ أحدهما لا عقلاني و الآخر لا أخلاقي، فالمبدأ اللاعقلاني مفاده "أن كل شيء ممكن"، وهو ما سيؤدي في آخر المطاف إلى استباحة الآلة للإنسان، و المبدأ اللاأخلاقي "أن كل ما كان ممكنا وجب صنعه"، وهذا المبدأ يغتال الجانب الأخلاقي في الإنسان لأنه لا يقيم له وزنا مادام كل ما كان ممكنا واجب. وأما الفوضوية، فإن النظريات التي يتوصل إليها العقل المجرد لا يكمل بعضها بعضا ولا يركب بعضها فوق بعض مثل الطبقات، بل إن كل نظرية علمية مستحدثة تلغي سابقتها وتهدمها، وهذا ما سماه "غاستون باشلار" ب "القطيعة الإبستمولوجية" عند حديثه عن تاريخ العلوم و المسار الذي تتخذه المعارف في تطورها، من هنا فالعقل المجرد لا يركن إلى نموذج علمي متكامل بل لا يفتأ يهدم ما بناه، وهذا من الفوضوية والعبث. إذا فمعيار التقويم غير متحقق في التعريف الديكارتي للعقلانية، أما معيار الفاعلية، والذي مقتضاه أن يتوسل الإنسان بوسائل نافعة وناجعة، فإن طه عبد الرحمن يرى أن الممارسة العلمية و العقلية في الغرب أخلت به كذلك، بتكلفها للموضوعية وجمودها على الظاهر واتخاذها للوسائط. فهذه المارسة العقلانية العلمية تزعم أنها لا تسمح بنفاذ القيم الأخلاقية والمعاني الروحية فيها، وهذا الزعم غير صحيح ذلك أن "تحصيل تمام الموضوعية غير ممكن، وكل ما تفعله هذه الممارسة العقلانية هو أنها تستبدل بالمعاني الأخلاقية الدينية معاني و قيما أخرى غير دينية وغير أخلاقية بما فيها الموضوعية نفسها" (9)، والمقصود بالجمود على الظواهر تلك الآفة التي أحدثتها المدرسة الوضعية ل "أوكست كونت"، حيث دعت إلى غض الطرف عن الماهيات وحصر الاجتهاد العقلي في الظواهر، وهذه حسب طه عبد الرحمن تؤدي إلى التسوية بين الشيء وظاهره، كما تغفل البحث في الأشياء الخفية مثل الروحانيات مثلا، وهي بهذا تضيق واسعا وتحجر على العقل طموحه للترقي إلى مراتب أعلى من خلال إدراك لطائف الأمور التي تسهم بالطبع في توسيع مدارك العقل. وأما اتخاذ الوسائط، فيمكن أن نقول بأن طه عبد الرحمن يقرأ هذه الآفة بالذات بمقارنتها مع المعرفة الصوفية، ذلك أن أعلى درجات المعرفة هي العرفان، أي تلك المعرفة التي تنقدح في القلب ككشف صوفي وهبة ربانية، إن المنهج العقلي يقول طه عبد الرحمن "لا ينفك عن التوسل بالوسائط المادية في كل شيء، [لذا]، فقد امتنع عليه إدراك ما لا يتأتى بطريق هذه الوسائط كالمعاني الروحية، وبالتالي خلا من وصف النجوع المطلوب" (10). وإذا كانت الممارسة العقلية والعلمية للعقل المجرد تخل بمعياري الفاعلية -الذي يقتضي الارتكاز على وسائل نافعة-، و التقويم -الذي قوامه تحقيق غايات ومقاصد ناجعة-، فقد اختل بالضرورة معيار التكامل. إن العقل الغربي سواء تعلق الأمر بالجانب النظري، أي الدلالات التي ينطوي عليها تعريف العقل وصفته، أو الجانب التطبيقي العملي في ممارساته وخلفيات هذه الممارسة، لا يمكن أن يتخذ كنموذج يحتذى به، من هنا ضرورة التسلح بمقومات الاجتهاد الفلسفي من أجل بناء نظريات في العقل الإسلامي تؤسس لما يمكن أن يعتبر محورا للمجال التداولي الإسلامي، وهو "العمل". 2. الانطلاق من المجال التداولي أس الإبداع كان لانتشار القراءات التجزيئية للتراث أبلغ الأثر في إبداع طه عبد الرحمن لنظريته في المجال التداولي، فهذا الأخير يسمح بتكريس الرؤية التكاملية للتراث باعتباره صادر عن أصول واحدة وقواعد توحد كل أطياف الفكر الإسلامي مع اختلافها الشديد. لكن ماذا يقصد طه عبد الرحمن بالمجال التداولي؟ لقد نحت طه عبد الرحمن هذا المفهوم استنادا على دلالاته اللغوية، فكلمة التداول من "داول" و تفيد معنى "تناقله الناس و أداروه فيما بينهم"، و النقل والدوران يستعملان في اللغة كما يستعملان في المجال التجربي المحسوس، فالنقل والدوران في اللغة يحيلان على معنى التواصل، بينما يؤديان معنى التفاعل في استخدامهما التجربي. و أما المجال فمن "جال" و تفيد معنى الدوران كذلك، و بهذا يكون المجال هو "موضع الدوران"، و إذا انتقلنا من الدلالة اللغوية إلى الدلالة الاصطلاحية، نجد طه يعرف المجال التداولي بأنه : "محل التواصل و التفاعل بين صانعي التراث"(11)، وقد يكون من المهم التنبيه هنا أن طه عبد الرحمن في نحته لمفهوم المجال التداولي ارتكز على إحدى القواعد المشكلة لهذا المجال، وهي القاعدة اللغوية، إذ استعاد دلالاتها اللغوية ثم ربطها بتلك الدلالات الاصطلاحية. إن المجال التداولي يشمل "اللغة المستعملة و الثوابت العقدية وجانبا من الممارسة المعرفية" (12)، غير أن المجال التداولي أخص من المجال الثقافي، فهذا الأخير قد تسود فيه رؤى وتصورات لا تمت بصلة لمجال تداول الثقافة، بل قد تكون تغلغلت وترسخت من خلال تأثرها بمجالات معرفية أخرى. إن المجال التداولي يضم أخص خصائص أمة معينة، و قد حصر طه هذه الخصائص في ثلاث، الخاصية اللغوية، و الخاصية العقدية، و الخاصية المعرفية. فالقاعدة اللغوية هي أساليب البيان التي توظفها أمة معينة، و بقدر ما تكون "هذه الأسباب مألوفة للمخاطب موصولة بزاده من الممارسة اللغوية، فهما وعملا، يكون التبليغ أفيد والتأثير أشد" (13)، وارتكاز المفكرين العرب القدامي على الدلالات اللغوية الشائعة في منظومة بيانية معينة من الأمور المعهودة، فهذا الإمام الغزالي يقول "فأنا اخترعت [الاصطلاحات] من تلقاء نفسي، لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة، اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أوثر أن أتبع أحدا منهم، فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالتداول بين جميعهم، واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها، حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها" (14). و أما الأسباب العقدية، فهي الأخرى كان لها تأثير في الخطاب العربي الإسلامي، وتشكل إحدى قواعد المجال التداولي، فلابد من اعتبارها والأخذ من معانيها واستلهام المضامين التي تحتويها، فهي من غير شك من الأسباب التي إن اعتبرت نفضنا عنا غبار التقليد، و قمنا بتحقيق المبادرة الفلسفية التي تحفظ لنا خصوصيتنا. وقد انتقد طه عبد الرحمن في هذا الصدد الأخذ بمناهج تطمس الدوافع العقدية التي كانت وراء بلورة التراث الإسلامي واستبطان اللاعقدي من العقدي، يقول طه عبد الرحمن "غير أننا بدل أن نطلب فيها [أي الممارسة االتراثية] هذا الأصل العقدي ونطلب طرق بعثه بيننا، أخذنا نقلب وجوهها، ونبحث فيها عما نظن أنه يقطع صلته بهذا الأصل كما لو كان من الممكن أن نولد ما هو غير عقدي مما هو عقدي" (15)، وبالفعل فقد بالغ بعض المفكرين العرب في توظيف هذا المنهج، وقد اتخذ صورا عدة، مثل رد الميتافيزيقي إلى الواقعي بحيث يتم فصل السماء عن الأرض، و العقدي إلى السياسي أو الاقتصادي أو القبلي، بقراءة القضايا و الإشكالات الدينية قراءة تردها جملة لعوامل اجتماعية، وهي مقاربات مشهورة ومتداولة في الفكر العربي المعاصر، حتى يكاد دور المفكرين محصورا في هذه المهمة بالذات، أي استجلاء اللاديني من الديني، من أجل إضفاء نوعا من العلمنة على الممارسة التراثية. أما الأسباب المعرفية فهي ثمرة تفاعل الخاصيتين السابقتين، أي اللغوية والعقدية، فاللغة والعقيدة يسهمان بشكل فعال في بناء النسق الاستدلالي لأمة معينة، ونذكر هنا بقولة السيرافي الذي ربط بين المنطق الأرسطي والنحو اليوناني، فرأى أن الأول هو تجل واضح للثاني، أو بالأحرى استقراء له، يقول طه عبد الرحمن "لا يخفى أن ما يتناقله المتخاطبون بواسطة لغتهم وما يتعاملون به بموجب عقيدتهم هو جملة مضامين دلالية وطرق استدلالية تتوسع بها المدراك العقلية في أنفسهم كما تنفتح بها آفاق العالم من حولهم" (16). إن الانطلاق من المجال التداولي الإسلامي العربي في بناء الفكر من شأنه أن يحقق الاستقلال الفلسفي، و ينقلنا من الإبداع المفصول إلى الإبداع المأصول، وطه عبد الرحمن يسمي المنقول إبداعا من باب التجوز فقط، وإلا فكل فلسفة لا تتضمن خصوصية المجال التداولي لا يمكن تسميتها فلسفة مبدعة، فالإبداع صفة ذاتية لابد أن تنطلق من الذات، والذات هي جملة الأسباب اللغوية والعقدية والمعرفية التي أشرنا إليه، وباستوحائها والمزج بين عناصرها يمكن أن نؤسس لاستقلال فلسفي، أما استئناف النظر في فلسفة منقولة والاجتهاد في توسيع آفاقها استشكالا واستدلالا فمهما كانت جديتها فإنها ما لم تنظر إلى هذا المنقول استنادلا إلى المجال التداولي فستظل فلسفة غريبة عنا لا تمت بصلة إلينا. لكن هنا قد يثار سؤال، هل يدعو طه عبد الرحمن إلى فلسفة منعزلة لا تتفاعل مع الفلسفة الأخرى وتنطوي على ذاتها، أو فلسفة منغلقة تعتقد أنها آخذة بناصية كل حقيقة؟ إن طه عبد الرحمن لا يدعو لهذه ولا تلك، وإنما يدعو لاستحضار المجال التداولي في التفلسف من أجل حفظ المبادرة الفلسفية، و هذا على مستوى الأصول التي تقوم عليها كل فكرة، إذ لابد أن ترتكز على حقيقة من الحقائق اللغوية أو العقدية أو المعرفية، وهذا ما يسميه " الانطلاق من الحقائق المأصولة المأخوذة من المجال التداولي" (17)، إذ من شأن هذه المبادرة الفلسفية الطامحة للاستقلال أن تخلصنا من عقدة النقص أو الشعور بالدونية إزاء عطاءات فلسفية أخرى، بل من شأنها أن تدفع الإبداع الفلسفي إلى أقصاه فيطال النظر المبدع في الفلسفات الأخرى، بحيث يدخل تعديلات وتحويرات على الفلسفات المنقولة بما يوفي بمقتضيات المجال التداولي، وهذا ما يسميه طه عبد الرحمن "الاقتدار على إدخال تحويلات على المنقول بما يوفي بمقتضيات المجال" (18)، ثم إن النظر المبدع في الفلسفات الأخرى قد يعين على اقتناص الحقائق التي هي ثمرة التفاعل بين المأصول والمنقول، فنكون بذلك سباقين لجني ثمار هذا التلاقح الفكري. نحو عقل مؤيد 1. تعريف العقل لا يقف طه عبد الرحمن كثيرا عند التعريفات النظرية للعقل، وفي الحالات النادرة التي يلتفت إليها لا نجده يقاربها مقاربة نظرية، بقدر ما يفككها على ضوء الفعالية العملية التي تصدر منه، إنه لا يجدي بناء أنساق فكرية نظرية للعقل، وإنما الأهم هو التحقق من قدرتها على الإسهام في بلورة كينونة إنسانية عاملة مبدعة وخلاقة. وبهذا نكون أمام التعريف الطهائي للعقل إزاء تطبيق عملي لمقتضيات المجال التداولي، الذي يحتل فيه "العمل" أو الوصل بين القول والفعل بؤرة مركزية، يقول طه عبد الرحمن ناعيا الانسلاخ عن الخصوصية والانجراف مع مجالات تداولية مغايرة في تعريف العقل " لقد تعددت هذه المعاني [معاني العقل] في التراث المعرفي العربي تعددا فاحشا و تباينت تباينا شنيعا كان الأصل فيها النقل الآلي لمعاني مقابلاته من اللغات الأجنبية، قديمها (اليونانية و اللاتينية و السريانية و الفارسية و العبرية ) و حديثها (الفرنسية و الإنجليزية و الألمانية") (19). إن طه عبد الرحمن عندما يعرف مفهوم العقل يستحضر محددين؛ الأول ضرورة مراعاة ما به قوام هذا المجال التداولي، الثاني، الانطلاق من قاعدة لغوية أصيلة، بحيث تُربط الدلالة الاصطلاحية للعقل بالحمولة اللغوية للمفهوم. إن المجال التداولي الإسلامي يتحدد من خلال ثلاثة مبادئ أساسية، الأول تقديم العمل على العلم، بحيث يكون العلم الذي لا عمل فيه مجرد لغو لا طائل منه، والثاني عدم اتخاذ العلم كترف، بحيث يجوز الاستزادة منه دون أن يقترن بالعمل، إنه لابد من استعمال العلم، أي المساوقة بين العلم والعمل كتوأمين متلازمين. والثالث ضرورة انتقاء العلم المثمر، فلا يطلب ولا تشرئب الأعناق إلا إلى العلوم النافعة التي يرجى منها خير، يقول طه عبد الرحمن في جُماع هذه المبادئ : "يأخذ هذا المجال بمبادئ أساسية تحدد العلاقة بين العلم والعمل، أحدهما : مبدأ تقديم اعتبار العمل، و يقضي بأن كل مسألة لا يترتب عليها عمل لا فائدة منها ولا حاجة للبحث فيها، بل يقضي بأن كل كلام ليس تحته عمل، يجب تركه، والثاني مبدأ العلم المستعمل، ويقضي بأن لا يتعلم المرء من العلم إلا ما يعمل به، ولا يندفع في الاستزادة منه، حتى يعمل بما حصل منه، بل عليه أن يقتصر منه على القدر الذي يعرف به العمل، والثالث مبدأ العلم النافع ويقضي بأن لا يتعاطى المرء إلا العلم الذي إذا عمل به، لا تقتصر ثماره على عاجله، بل تتعداه إلى آجله، ولا تقتصر على ذاته، وإنما تتعداه إلى غيره" (20). ويبدو أن هذه الشروط لا تتوفر إلى في العلم الشرعي، فهو العلم النافع المستعمل والذي يمتاز عليه العمل، بحيث يكون العلم مجرد بوابة مؤدية إليه، فهذا العلم ليس غاية في ذاته وإنما يراد من أجل العمل. من هنا فإن العقل ومراتبه ستقيم وتعرف على ضوء المواقف التي يتخذها من العمل الشرعي كما سنرى. إن طه عبد الرحمن ينطلق في تعريفه للعقل من الدلالات الأصيلة التي يؤديها المفهوم في اللغة العربية، وهكذا فنحن أمام تطبيق عملي لفكرة طالما أكد عليها فيلسوفنا، وهي اشتراط الأخذ بالمبادرة الفلسفية التي تعي ضرورة استحضار قواعد المجال التداولي، والتي تشكل فيها القاعدة اللغوية إحدى الروافد المهمة. إن العرب يستعملون العقل في سياق حديثهم عن الدابة فيقولون "عقل الدابة" أي قيدها، فالعقل يؤدي معنى التقييد، وهذا الأخير كذلك يستعمل للدلالة على ثلاثة معاني متقاربة، سيجمع طه عبد الرحمن بينها من أجل الخروج بتعريف هو بمثابة عصارة امتزاج الدلالات اللغوية مع الدلالة الاصطلاحية الغربية، إن هذه العملية الفكرية هذه التي يسميها طه عبد الرحمن "التقريب"، أي جعل فكر الآخر كأنه أصيل وغير مستورد وذلك بأن يبصم بمعالم الذات. وهذه الدلالات الثلاث للتقييد هي "الكف" و"الضبط" و"الجمع". أما التقييد بمعنى الكف فيقصد به "الفعل الذي يجعل الإنسان يكف عن الخطأ في القول والشر في الفعل" (21)، والتقييد بمعنى الضبط فيعني أن العقل يمنع ما يُحَصله الإنسان من الانفلات والنسيان، فالفاعلية العقلية من مهامها التي تقوم بها ضبط المدركات والحيلولة دون نسيانها، وأما التقييد بمعنى الجمع، فمعناه وعي الإنسان بما وصله كما يعي الإناء ما يوضع فيه. ثم يلاحظ طه عبد الرحمن أنه على الرغم من وجود بعض الفوارق الدلالية بين الألفاظ الثلاثة إلا أنها تشترك في معنى "الربط"، فالكف ربط مانع، أي يمنع المرء من الوقوع في الزلل النظري والعملي، والضبط ربط ماسك، أي أن العقل يمسك مدركاته ويمنعها من الانفلات، والجمع ربط واصل، أي أن العقل يصل ما يعقله ويعيه، وهكذا فالعقل ينسج شبكة من الارتباطات، و مادام الربط بين الأشياء يعني إدراك تلك العلاقات الكامنة بينها، فيكون العقل حسب طه عبد الرحمن هو "إدراك الإنسان للعلاقات القائمة بين الأشياء" (22)، وتبعا للرؤية الكينونية (الأنطلوجية) للعقل في الفكر الطهائي، التي ترى بأن القلب هو المسؤول عن التعقل فإنه سيضيف هذا المحدد في موضع آخر من التعريف، فيقول في الصيغة النهائية لتعريف لعقل بأنه "إدراك القلب للعلاقات القائمة بين الأشياء" (23). 2. هرم العقل ليس العقل في فلسفة طه عبد الرحمن مرتبة واحدة، وإنما هو مراتب متباينة متعددة، تختلف باختلاف المواقف الذي تتخذه اتجاه العمل الشرعي، وهكذا فنحن إزاء الفلسفة الطهائية أمام سلم عقلي يضم ثلاث درجات، درجة العقل المجرد، العقل المسدد، والعقل المؤيد. وقبل أن نفصل في هذه المراتب العقلية ونكشف عن آفات كل منهم وكمالاته، لابد أن نعرج على مسألة متعلقة بتناول طه عبد الرحمن لموضوع مراتب العقل هذه؛ إنه في اعتقادنا لا يمكن أن نخلص إلى فهم واضح وكامل لهرمية العقل في هذه الفلسفة إذا لم نربط بين كل ما ذكره طه عبد الرحمن ونجمع بينه في سياق البحث عن الرؤية التكاملية؛ فالناظر مثلا في كتاب "العمل الديني وتجديد العقل" سيجد بسطا وافيا لمراتب هذه العقول، لكنه لا يجد ذكرا للمعايير التي أقام عليها قراءته هذه، وإنما نجدها في كتابه "سؤال الأخلاق"، من هنا فنحن سنحاول أن نقدم قراءتنا في مراتب العقول من خلال التنسيق بين ما ذكره طه عبد الرحمن في الكتابين. لقد أشرنا عند بسطنا الكلام حول نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي إلى المعايير التي اتكأ إليها، وهي معيار الفاعلية أو النجوع في الوسائل، ومعيار التقويم أو النفع في المقاصد، ومعيار التكامل أي انسجام المعيارين السابقين. وطه عبد الرحمن في مقاربته لمراتب العقل سينظر إلى الإشكالية على ضوء هذه المعايير، مع استحضار محدد آخر؛ ألا وهو موقفه من الشرع والعمل. فأحط مراتب العقل، هو ذلك الذي لا يوفي شيئا من شروط هذه المعايير، ولا يقيم وزنا للعمل في الغالب، ويسميه طه عبد الرحمن "العقل المجرد". فهذا العقل يأبى الرجوع إلى أصله الذي خلق عليه، إنه عقل مجرد بمعنى "منقطع عن العمل الشرعي" (24). وإذا كنا قد أشرنا إلى نقد طه عبد الرحمن للعقل الغربي وهو يندرج تحت النقد العام للعقل المجرد، أي حدوده العامة، فإننا الآن سننظر في حدوده الخاصة، والمقصود بهذه الآخرة الآفات التي تسبب فيها الأخذ بالتعقل المجرد داخل الفكر الإسلامي. إن طه عبد الرحمن يرى أن حدود العقل المجرد وآفاته لا تنكشف في مجال معرفي انكشافه في مبحث الإلهيات، فإغفاله للعمل الشرعي و توسله بالعقل النظري قد جعله يقع في عدة آفات حالت بينه وبين مقصده المتمثل في التقرب إلى الله تعالى. وذلك أن توسلهم باللغة أوقعهم فيما يسميه طه عبد الرحمن "الوصف الرمزي" (25)؛ إن اللغة نسق من الرموز فهي لا تؤدي وظيفة التبليغ على أحسن وجه في العالم المادي الملموس والمحسوس، فما ظنك بالقضايا الميتافيزيقية، وعلى رأسها الوجود الإلهي، إن "كل ما يمكن أن ينقله النظر من خلال الرموز اللغوية لا يتعدى أن يكون تصورات لأعيان خارجية ليس بينها وبين هذه الرموز أي تقابل يختص فيه كل رمز لغوي بالدلالة على عين خارجة واحدة" (26)، وهكذا فعالم الوجود مستقل عن النسق اللغوي استقلالا تاما، ولما كانت المقاربة المجردة للإلهيات تتوسل باللغة فقد كانت بعيدة عن الوفاء بمطلب المعرفة الإلهية من خلال التحقق العياني لا الذهني الذي يبقى حبيس الرموز والأنساق العبارية. والآفة الثانية، الوقوع في الوصف الظني، فاستدلالات العقل المجرد على الوجود الإلهي لا تبرح مرتبة الظن ولا ترقى إلى اليقين، إن "أدلتهم تقع فيما يخرج صورتها عن صورة البرهان، فالتصورات التي تقوم عليها معالمها غير محددة، وطريقة تحصيلها غير مضبوطة، وصفتها الإجرائية غير معلومة" (27)، و يعضد طه عبد الرحمن ما ذهب إليه من خلال النظر إلى تنوع هذه الأدلة، فهذا التنوع ينطوي على ابتغاء درء آفة الظن وبلوغ مرتبة اليقين بتعديد الأدلة التي لا تشفي ولا تكفي بمفردها. و الآفة الثالثة هي الوقوع في التشبيه؛ إن أي مقاربة عقلية-لغوية لشيء ما غائب عن الأنظار ومنتم لعالم الغيب لابد أن يقع في آفة التشبيه، وذلك لأن هذه المقاربة لابد أن تتوسل بآلية القياس، ومعلوم أن هذه الأخيرة تسقط حقائق مشاهدة على الحقائق المغيبة، حتى يتسنى للعقل استيعاب هذا الغيب وإلا ظل مجهولا، وهنا ينكشف لنا القصور في المقاربة النظرية للمبحث الإلهي إذ أنهم "أحبوا أم كرهوا واقعون في التشبيه بصنفيه : التشبيه الاضطراري الذي لا تنفعهم معه حيلة، للميل الطبيعي للعقل النظري إلى القياس على المعلوم من الأشياء، والتشبيه الاختياري الذي يسوقهم إلى الخوض المتكلف و الشنيع في حقائق لطيفة تستلزم من الأدب والتعظيم ما لا يطيقه العقل المجرد" (28). نخلص إلى أن العقل المجرد، إذ ينقطع عن العمل الشرعي الذي يوسع من آفاق العقل ويقوي قدراته، وبرفضه للحالة الفطرية التي خلق عليها، لا يتوسل بوسائل نافعة ولا يبلغ مقاصد نافعة، كما أنه في الفكر الإسلامي يعجز هذا العقل عن مقاربة الوجود الإلهي مقاربة يقينية، بسبب توسله بالنظر المجرد واللغة، يقول طه عبد الرحمن في هذا العقل أنه "لا يحصل له اليقين لا في مقاصد أعماله من حيث نفعها، ولا في وسائله من حيث نجوعها" (29). و على طرف نقيض هذا العقل المجرد، نجد أن العقلانية غير المجردة تنقسم إلى قسمين "العقلانية الغير المجردة القادرة على إدراك المعاني الثابتة والشاملة" و"العقلانية غير المحردة القادرة على إدراك الوجوه المتغيرة والخاصة" (30)، فالأولى هي التي يسميها طه عبد الرحمن " العقل المسدد"، فهو عقل مشتغل لا ينفصل عن العمل الشرعي، ويبدو أن طه عبد الرحمن يطلق هذا العقل على الديانيين من سلفيين وفقهيين، يتبين لنا هذا باتضاح عندما ينتقد آفات هذا العقل من خلال الوقوف على آفتي التفقيه والتسلف. يقول طه عبد الرحمن في تعريف العقل المسدد بأنه "عبارة عن الفعل الذي يبتغي به صاحبه جلب منفعة أو دفع مضرة، متوسلا في ذلك بإقامة الأعمال التي فرضها الشرع" (31)، وعند تفكيك هذا التعريف نجد أن لهذا العقل ثلاثة مزايا، الأولى اشتراط موافقة الشرع وهي التي تقي من سوء التوجيه، فالعقل الذي يستوحي قيما أخرى غير موافقة للشرع لا يأمن أن يقع في نقيض مقصده من حيث أنه ينوي الصلاح والفلاح، وهذا الذي حصل في العالم الغربي، فالإنسان الغربي كان يمني نفسه بالمستقبل الزاهي، لكنه وجد نفسه يتمرغ في جملة من الآفات التي نجمت عن الأخذ بما يسمى في أدبيات مدرسة فرانكفورت "العقل الأداتي". أما المزايا الأخرى، فيقول عنها طه عبد الرحمن "وركن اجتلاب المنفعة الذي ينبني على القيم المعنوية، ويتطلب بعد النظر، ونزاهة النفس، وركن الاشتغال الذي يفيد في تجسيد العمل، وفي رفع قيمة العمل المقترن به، وفي توسيع المدارك، وفي تصحيح السلوك أصلا ومقصدا ووسيلة". لكن يبدو واضحا أن هذا العقل على الرغم من مزاياه هذه فإنه لا يرعى شرط نجوع الوسائل، من هنا فهو يقع في آفات تتوزع بين الممارستين الفقهية والسلفية. إن من شرط نجوع الوسائل تعددها وتنوعها، أما الممارسة الفقهية السلفية فترى أن هذا التنوع قد يكون من مداخل الوقوع في البدعة، من هنا الوقوع في آفة التقليد، ويقسمه طه عبد الرحمن إلى ثلاثة أقسام التقليدي النظري والاتفاقي والعادي، كما أن الممارسة الفقهية التي لم تعر اهتماما كبيرا للفقه القلبي والأخذ بالقيم والمعاني الروحية التي تؤطر السلوك الإنساني، وقعت في آفة التظاهر وهي وجود "تفاوت في الأعمال بين واقع الاشتغال وبين المقاصد المتوخاة من هذه الأعمال" (32)، وهذا التظاهر يتخذ شكل "تزلف" أو "تكلف" أو "تصرف" (33). و أما الآفات العملية للممارسة السلفية فقد كانت نتيجة للإخلال بمقومين ضروريين في التسديد العملي وهما "أن تكون الممارسة السياسية مبنية على الممارسة القربانية" و " أن تكون الممارسة النظرية غير منفكة عن الممارسة القربانية"، أما المقوم الأول فمقتضاه الأخذ بالقيم الأخلاقية التي توجه العمل السياسي ويحتكم إليها، وذلك لتجنب الأخذ بالأخلاق الميكيافيلية التي تتوسل كل السبل، شرعية كانت أو غير شرعية، والمقوم الثاني مقتضاه تغليب البعد العملي على البعد النظري المجرد، وهذا انسجاما مع المجال التجاولي الإسلامي. غير أن الممارسة السلفية أخلت بالتسديد العقلي، عندما عملت بنقيضهما، فوقعت في "التجريد" و "التسييس"، فأما التجريد فيقصد به طه عبد الرحمن "إفراد الفعل العقلي النظري بالقدرة على التأمل في النصوص" (34)، والفكر السلفي بنظره إلى النصوص الدينية من خلال العقل يكون قد تقهقر رتبة إلى الوراء واستحال عقلا مجردا، إذا أن العقل إنما يتسدد بالعمل الشرعي الذي يوفق الإنسان ويرشده للحق. و الآفة الثانية هي التسييس، فالحركات السلفية جعلت من السياسة مدخلا للإصلاح الاجتماعي، غير أن إفراد السياسة بمكانة مركزية في الإصلاح لا يأمن معها أن تتدنس القيم التسديدية التي تأخذ بها، ويرى طه عبد الرحمن أن التسييس يوقعنا في الآفات التالية "ترك الأخذ بالمعاني الروحية" و "ترك العمل بالقواعد الأخلاقية" و "ترك الاستقامة". أما العقل المؤيد، فهو العقل الذي استطاع من خلال تغلغله في العمل الشرعي وأخذه بأخلاق الفطرة التي خلق الله الناس عليها أن يتجاوز آفات وحدود العقلين المجرد والمسدد، فهو يراعي شرط النجوع في الوسائل التي يوظفها، والنفع في المقاصد التي يبتغيها، وهذا العقل هو نفسه العقل الصوفي، الذي لا يقف عند ظواهر الأشياء في الماديات المحسوسة، كما أنه يقصد تحقيق الشهود والمعاينة في الغيبيات، وسبيله إلى ذلك العمل الشرعي الذي يجلب التأييد الإلهي. خلاصة كانت فلسفة طه عبد الرحمن ارتدادية وردة فعل على الجو الثقافي الذي طبع الفكر العربي المشحون بالتقليد، إنها لم تكن من جنس رجع الصدى، بل كانت فلسفة اشرأب عنق صاحبها لشق مسار فلسفي آخر يقطع مع عهد التبعية الفكرية ويهفو بها لمعانقة أنوار الإبداع عن طريق انتشال هذا الفكر من نفق التقليد، في هذا السياق ندرك قيمة ملاحمه النقدية، نقد أهم قراءة للعقل العربي، نقد العقل الغربي، نسف دعوى كونية الفلسفة، ضرورة المبادرة الفلسفية، ضرورة الانطلاق من المجال التداولي، إبداع السؤال المسؤول.. إلخ. لقد كانت فلسفة طامحة فعلا، زرعت بذورا قد تزهر ثمارا يانعة إذا وجدت من يسقيها بماء تأملاته، ويستأنف النظر في مضامينها، مستحضرا أهم الانتقادات التي وجهت إليها. ولعل أكبر عقبة تواجه الفلسفة الطهائية تكمن بالضبط في التخفيف من حدة صوريتها وإضفاء مسحة واقعية عليها، لقد كتب العروي يقول وهو يومئ إلى فلسفة طه عبد الرحمن "إن صناعة المنطق تعرقل التوجه إلى الواقع" (35)، وبالفعل فإن فلسفة طه عبد الرحمن ذات طابع منهجي، ويمكن أن نقول أنها لا تنخرط بعنفوان في الواقع، يضيف العروي "هذا النوع من الفحص، ولنسمه مؤقتا منطق المناظرة، لا يفيد أبدا، لأنه يتوجه بالأساس إلى صاحب السؤال ويحاول إسكاته. وهذا ما نلاحظ حولنا. هدف كل نقاش هو إسكات من يكشف عن الواقع لا التحقق من واقعية الواقع" (36). إذا كان الجابري عمل في مشروعه الضخم على إثبات مشروعية المناهج الغربية، وذلك من خلال تنزيلها على تراثنا، والعروي عمل على تيئيسنا من ذواتنا، فإن طه على العكس كرس جهده لإعادة الاعتبار للذات بالاضافة إلى اجتهاده الذي يحسب له في ابتكار مناهج جديدة، لكن يبقى كل فكر ناقصا ما لم يضع النقاط على الحروف كما يقال، لابد أن نضع أيدينا على مكمن الجرح، ونسمي إشكالاتنا بأسمائها من غير مواربة، وبخطاب واقعي صريح.. إضفاء مسحة من الواقعية.. ذلك ما يعوز المشروع الطهائي ! هوامش: (1) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. المركز الثقافي العربي. الدارالبيضاء. 2007. ط3. ص 34. (2) نفسه، ص44. (3) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. المركز الثقافي العربي. الدارالبيضاء. 2006. ط3. ص 61. (4) نفسه، ص 62. (5) نفسه. (6) نفسه، ص63. (7) نفسه. (8) انظر : سؤال الأخلاق، ص 65. و العمل الديني وتجديد العقل، ص43 وما بعدها. (9) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص67. (10) نفسه، ص 68. (11) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 244. (12) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. المركز الثقافي العربي. الدارالبيضاء. 2012. ط1. ص39. (13) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 245. (14) الغزالي، محك النظر، ص 48-49، نقلا عن : طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 245. (15) طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث. ص 246. (16) نفسه، ص 246. (17) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 50. (18) نفسه، ص 50-51. (19) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة : 1. الفلسفة والترجمة. المركز الثقافي العربي. الدارالبيضاء. 1995. ط1. ص173. (20) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 14. (21) نفسه، ص 63. (22) نفسه. (23) طه عبد الرحمن، سؤال العمل. ص 73. (24) نفسه، ص 93. (25) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص26. (26) نفسه. (27) نفسه، ص38. (28) نفسه. (29) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق. ص 93. (30) نفسه، ص70. (31) طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل. ص 58. (32) نفسه، ص 79. (33) انظر التفصيل حول أشكال تجليات التظاهر في "العمل الديني وتجديد العقل" ص 80-81-82. (34) نفسه، ص 99. (35) عبد الله العروي، مفهوم العقل. المركز الثقافي العربي. الدارالبيضاء. 2007. ط4. ص 107. (36) نفسه، ص 106.