يَستطيعُ القارئ لعمل الفيلسوف "طه عبد الرحمن" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» (1994) أن يُدركَ أنّ الأمر يَتعلّق بعمل فكريّ يقوم على مُسلَّمةٍ أساسيّةٍ مُفادُها أنّ التُّراث الإسلاميّ-العربيّ له خُصوصيّتُه المنهجيّة والمعرفيّة التي تقتضي أنّ تقويمَه بشكل صحيح لا سبيل إليه من دون الوُقوف على أهمّ مُحدِّدات هذه الخصوصيّة وتجليّاتها. ولهذا، فإنّ عمل "طه عبد الرحمن" في كتابه ذاك يقوم على نوع من «البناء النُّمْذُوجيّ» سواء في نقده لنَمُوذج التّقويم "التّفاضُليّ" للتُّراث الإسلاميّ-العربيّ أو في تأسيسه لنَمُوذج بديل يَنْهض بالتّقويم "التّكامُليّ" له. ويبدو، بهذا الصدد، أنّ فهم طبيعة التّجديد المنهجيّ في عمل "طه عبد الرحمن" يُوجب تحديد مُقتضى خُصوصيّة التُّراث الإسلاميّ-العربيّ عنده باعتباره مُقتضًى مُرتبطًا بمفهوم "النُّمْذُوج". و"النُّمْذُوج"، هُنا، مأخوذٌ في مُقابل المُصطلَح الأجنبيّ «پارادَيْم/پارادِيغم» (Paradigm/paradigme) بالمعنى الذي استُعمل بعد "طُوماس كُون" في سياق وَصْف طبيعة التّحوُّل في تاريخ الفكر العلميّ (و، من ثَمّ، تاريخ الفكر عموما)، أيْ تخصيصا بمعنى «مجموع المُعتقَدات والقيم المُتعارَفة والتِّقنيّات المُشترَكة بين أعضاء جماعةٍ مُعيَّنة»[1]. ويأتي اعتمادُ مفهوم "النُّمْذُوج" هذا لتأكيد أنّ العمل النّقديّ ل"طه عبد الرحمن" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» بُني في إطار استثمار أهمّ مُكتسبات الفلسفة المُعاصرة المُتعلِّقة ب"فقه العلم" و"فلسفة اللُّغة". ومن هُنا، فإنّ مفهوم «مجال التّداوُل» (أو «المجال التّداوُليّ»)، كما صاغه "طه عبد الرحمن"[2]، إنّما يُعبِّر عن ذلك المُقتضى من حيث إنّه يُعيِّن خُصوصيّةَ الإنتاج الفكريّ والثّقافيّ في عَلاقته بنسق المبادئ والقيم المُحدِّدة نظريّا وعمليّا لسُلوك المُفكِّر وعمله، وهي المبادئ والقيم المُرتبطة أساسا ب"اللُّغة" و"العقيدة" و"المعرفة" المُتداوَلة والفاعلة على مُستوى الحياة العَمَليّة في كل مجال على حِدَةٍ. ولعلّ هذا المنظور يُساعد على بيان خُطورة المُفارَقات الزمنيّة والثقافيّة التي كان، ولا يزال، يَقع فيها كثيرٌ من الباحثين في التُّراث الإسلاميّ-العربيّ الذين أساءوا تقدير حقيقة "التّغايُر" (incommensurability/l'incommensurabilité) الذي يقوم بين نُمْذُوج وآخر رغم انتمائهما إلى نفس المجال الثقافيّ و، من ثَمّ، بين "نُمْذُوج" التُّراث و"نُمْوذوج" الفكر المُعاصر الذي يُنْطلَق منه، عادةً، لنقده وتقويمه. إنه من اللّافت أنّ عمل "طه عبد الرحمن" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» قُرِئ، في الغالب، على ضوء ما وَرد في بابه الأوّل من نقد (ونَقْض) لنموذج "محمد عابد الجابري" في تقويم التُّراث الإسلاميّ-العربيّ. فلقد نُظر إلى هذا النّقد كأنّه فَلْتةٌ في عمل "طه" الفلسفيّ، من حيث إنّه نقدٌ مُوجَّهٌ إلى فكر شخصٍ بعينه ؛ بل هناك من لم يَنظُر إلى الكتاب كلِّه إلّا باعتباره مَقالةً سجاليّةً لتصفيةِ حسابات شخصيّة. لكنّ التّقويم النّقديّ عند "طه عبد الرحمن" المُوجَّه إلى فكر أشخاص مُعيَّنِين لم يَبتدئ مع كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث»، وإنّما يرجع إلى بداياتِ عمله الفلسفيّ كما يُلاحَظ من خلال تقويمه، في رسالة «اللُّغة والفلسفة» (1972/1979)، لتعامُل فلاسفة الإسلام مع لُغة الفلسفة المُترجَمة، وأيضا في نقده لأعمال بعض المُتفلسفة العرب المُعاصرين ("عبد الرحمن بدوي" و"محمد عزيز الحبابي" و"عثمان أمين" و"يوسف كرم")[3] ؛ وذلك قبل أن يَعمل على تحديد مشروع عمله النّقديّ في كتاب «أُصول الحوار وتجديد علم الكلام» (1987/2000) حيث عَيّنَ الخطوط الكُبرى لتقويم نموذجيٍّ لعَمَلَيْ "محمد عابد الجابري" و"محمد أركون"[4]. وأكثر من ذلك، يبدو أنّ ما يَميل نُقّاد "طه" إلى إغفاله، في هذا السياق، هو أنّ الباب الأوّل من «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» لا يُمثِّل سوى ثُمُن الكتاب (نحو 54 صفحة من عدد 431 صفحة الذي هو عدد صفحات الكتاب بكامله!). ولو أخذنا بعين الاعتبار أنّ الفصل الأوّل منه عبارة عن فصل تمهيديّ (عَرَض فيه المُؤلِّف، من جهة أُولى، دعوى «التّقويم التجزيئيّ للتُّراث» بما هو نظرٌ يَشتغل بالمضامين التُّراثيّة وليس بآليّات بنائه وقَدَّم، من جهة أُخرى، مُسلَّمةً أساسيّة سَمّاها «مُقدِّمة التّركيب المُزدوج للنّص» وبيَّن حدود استعمال الآليّات "العقلانيّة" المُجرَّدة والآليّات "الفِكْرانيّة" المُسيَّسة في نقد التُّراث)، فإنّ الفصلَيْن الثاني (حول «التّعارُض الأصليّ لنموذج الجابري») والثالث (حول «القُصور في فقه الآليّات» و«تهافُت نموذج الجابري») لا يُمثِّلان سوى عُشُر الكتاب (43 صفحة من أصل 431 صفحة!). وهذا معناه أنّ تسعة أعشار كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» تَدُور حول بناء نموذج منهجيّ جديد في تقويم التُّراث الإسلاميّ-العربيّ. وقد يكفي تبيُّن هذا المُعطى الموضوعيّ لتجاوُز النّظرة التّبسيطيّة (والتّسطيحيّة) التي أراد أصحابُها تفادي مُواجَهة حقيقة «البناء النُّمْذُوجيّ» في عمل "طه عبد الرحمن" بما هو بناءٌ يكشف عن اجتهاد علميّ وفلسفيّ غرضُه الأساسيّ «تجديد المنهج» في مجال «تقويم التُّراث». وإذَا صحّ ذلك، فإنّ ما وُصف هُنا بأنّه «بناء نُمْذُوجيّ» يُوجب الوُقوف لا فقط على الفَرْق بين طريقة التّقويم "التّفاضليّ" للتُّراث وطريقة التّقويم "التّكامُليّ" في تناوُله، بل أيضا على معنى "التّجديد" المُراد على مُستوى منهج تقويم التُّراث الإسلاميّ-العربيّ. وبِما أنّ الأمر في كتاب «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» يَتعلّق ببناء نُمذُوجيّ، فإنّ معنى "التّجديد" في هذا الكتاب لا بُدّ أن يُربَط بمعنى "التّجديد" المُتضمَّن في كل من كتاب «أُصول الحوار وتجديد علم الكلام» (1987) و«العمل الدينيّ وتجديد العقل» (1989). وبهذا الرّبط فقط يَتبيّن أنّ عمل "طه عبد الرحمن" في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» يَندرج في إطار ذلك «البناء النُّمذُوجيّ» الذي يُتوَخّى منه الجمع بين قيم مأصولة وأُخرى منقولة لإنجاز عمل تجديديّ في مجال التّفلسُف. لقد عَمِل "طه عبد الرحمن" في «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» على تحديد أركان التّقويم "التفاضُليّ" للتُّراث الإسلاميّ-العربيّ. ويُمكننا أن نتبيّن أنّه جعل هذه الأركان في ثلاثة أساسيّة: استهلاك الآليّات "العقلانيّة" و"الفكرانيّة" التي أنتجها الفكر الغربيّ، وتبنّي النّظرة التّجْزيئيّة، والاشتغال بالمَضامين الفكريّة والمعرفيّة بدلا من الاشتغال بالآليّات المُنْتِجة. وبالتالي، فإنّ نقد "طه عبد الرحمن" تَوَجّه نحو فحص العَتاد المنهجيّ والمفهوميّ لأعمال نُقّاد التُّراث الإسلاميّ-العربيّ، وسعى إلى القيام ببناء نسقيّ ونموذجيّ يَتجاوز القُصور في التّحقُّق بقيم التُّراث المنهجيّة والعمليّة وأيضا بمُكتسبات "فقه العلم" المُعاصر. ويَتمثّل العمل النّقديّ عند "طه عبد الرحمن" في تحديد مبادئ التّقويم الصحيح والأصيل وربطها بمبادئ وقيم التُّراث الإسلاميّ-العربيّ. ونجده يقوم بذلك في لحظَتَيْن: في أُولاهما يُبيّن التّعارُض الأصليّ لنموذج «التّقويم التّفاضُليّ» كما جسّده عمل "الجابري"، ويكشف في ثانيهما عن القُصور في فقه الآليّات المعرفيّة والمنهجيّة التي اعتُمدت في ذلك التّقْويم. وينتهي، من ثَمّ، إلى تأكيد تهافُت البناء الفكريّ في نموذج «التّقْويم التّفاضُليّ». ولم يَقفْ عملُ "طه عبد الرحمن" عند حدّ النّقد السَّلْبيّ لنموذج «التّقويم التّفاضُليّ»، بل تجاوَزه إلى بناء نموذج بديل يقوم على النّظرة "التّكامُليّة" والاشتغال بالآليّات المُنْتجة للتُّراث الإسلاميّ-العربيّ (آليّات التّداخُل المعرفيّ وآليّات التّقْريب التّداوُليّ). ولذا، فإنّ عمل "طه عبد الرحمن" لا يُعدّ فقط عملا مُجدِّدا من النّاحية المنهجيّة، بل يَرقى إلى مُستوى العمل المُؤسِّس لنموذج فكريّ وفلسفيّ يَتّسم بالتّميُّز والغنى على المُستويَيْن المنهجيّ والمعرفيّ، وذلك بالمُقارَنة مع أهمّ المُحاوَلات المعروفة في هذا المجال. ومن البيِّن أنّ «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» يُعَدّ مُواصَلةً لعمل التّجديد الذي كان موضوعَه "علمُ الكلام" في سياق البحث المُعاصر في نظريّات الخطاب والحِجاج وفي صلته ب«علم المُناظَرة»، وأيضا لتجديد "العقل" بالنّظر في مُكتسبات النّقد المُعاصر الذي انْصبّ على العقلانيّة المُجرَّدة وإمكانات التّغلُّب على حُدودها بالنّظر في مُكتسبَات المُمارَسة الإسلاميّة (بالخصوص في مجاليْ "الفقه" و"التّصوُّف") باعتبارها مُمارَسة عِلْميّة وعَمَليّة عالجت آفات المُمارَسة العقليّة. وعليه، فوحده من لم يَظْهرْ على طبيعةِ «البناء النُّمْذُوجيّ» في العمل الفلسفي عند "طه عبد الرحمن" يُمكنه أن يَهيم في وِدْيان الكلام المُرْسَل لتجنُّب واجب الاعتراض على الدَّعاوى المعروضة في «تجديد المنهج في تقويم التُّراث» وفحص مدى مُناسَبة مُختلِف وُجُوه التّدْليل عليها في سياق «النُّمْذُوج الجديد» حيث أتى عملُ "طه". ولا يخفى، من ثَمّ، أنّ خُطورة العمل الفلسفيّ ل"طه عبد الرحمن" لا تتمثّل فقط في كونه يَفضح غوائل "التّقْليد" لدى كثير من أدعياء "التّفلسُف" في مجال التّداوُل الإسلاميّ-العربيّ، بل أيضا في قيامه بارتياد سُبل "التّجديد" بناءً نُمْذُوجيّا ونقدًا تأْسيسيّا. وإنّه لمن المُؤسف جدّا أنّ العمل الفكريّ السائد في هذا المجال يُؤْتَى غالبا من موقع استدامة عوائد "التّقْليد" واستسهال عَقَبات "التّجْديد". هوامش _____________ [1] اُنظر: - Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific revolutions, The University of Chicago Press, Chicago & London, [1962], 2012, Poscript, p. 174 ; la structure des révolutions scientifiques, trad. Par Laure Meyer, éd. Flammarion, coll. « Champs/sciences » [1983], 2008, Postface, p. 238. وقارن به إحدى التّرجمات العربيّة الثلاث، رغم تبايُنها الظاهر في أكثر من ناحية: تُوماس كُون، بِنية الثورات العلمية، ترجمة د. شوقي جلال، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، رقم 168، 1992، ص. 221 ؛ بِنية الانقلابات العلمية، ترجمة سالم يفوت، دار الثقافة، الدارالبيضاء، 2005، ص. 216 ؛ بُنية الثورات العلمية، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص. 290. [2] اُنظر: طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدارالبيضاء، [ط1، 1994]، ط 2، [2000؟]، الباب الثالث، الفصل الأول، ص. 243-272. [3] اُنظر: - Abderrahmane Taha, Langage et philosophie : essai sur les structures linguistiques de l'ontologie, Publications de la faculté des lettres et des sciences humaines-Rabat, Thèses et Mémoires N° 3, Imprimerie de Fèdala, Janvier 1979, p. 171-173. [4] اُنظر: طه عبد الرحمن، في أُصول الحوار وتجديد علم الكلام، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، ط 1، 1987، ص. 154-163 ؛ ط 2، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدارالبيضاء، ص. 146-153.