عابد الجابري وطه عبد الرحمن نموذجا اختلفت رؤى المشتغلين بالتراث تبعا لمناهجهم في النظر، فمنهم من سلك مسلك الاشتغال بمضامين التراث لا وسائله، ومنهم من توسل بآليات وأدوات بحث اصطنعها المحدثون، فتراه يستعمل التقنية دون أن يملك ناصيتها ولا يقدر على التفنن في استعمالها، ولهذا كانت أحكامهم ونتائجهم التي توصلوا إليها مجانبة للصواب، فقالوا بتفاضل التراث وتجزئه. وفي المقابل من ذلك،نجد فئة اشتغلت على مضامين التراث، واعتمدت مناهج وأدوات مؤصلة لا منقولة، مع الاستفادة مما أنتجه العلم الحديث من مناهج ونظريات، دون أن يعني ذلك الاستلاب أو الأخذ بها دون نقد وتمحيص، وهذا ما جعل هذه الفئة قادرة على التحكم في استخلاص النتائج التي تخدم التراث وتعلي من شأنه. والتراث عموما هو ما تقدم وما سلف، هو الماضي بإنجازاته المختلفة والمتنوعة، وبذلك يكون التراث يحمل في طياته الغث والسمين، السقيم والسليم شريطة انتمائه لهذا الزمن الماضي. وبناء عليه اختلف الناظرون لهذا التراث، فبالنسبة لمحمد عابد الجابري لا يمكن تحقيق النهضة في نظره إلا بالانتظام في التراث، لكن لا ك"تراث" نندمج فيه وندوب في دروبه ومنعرجاته، بل كمكتسبات إنسانية، علمية ومنهجية متجددة ومتطورة، لابد لنا منها في عملية الانتظام الواعي العقلاني النقدي في تراثنا. إذن، فالجابري يرفض الانصراف بالكلية إلى التراث، كما يرفض الانسلال عنه بالكلية، فمن جهة أولى يرى أنه: "من الناحية المبدئية لا يمكن تبني التراث ككل لأنه ينتمي إلى الماضي، ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر". التراث والحداثة، محمد عابد الجابري، ص 37. ومن هنا فإن الجابري ينتقد فريقين من الناس في تعامله مع التراث: الفريق الأول: يعيش مع التراث كأنه حاضره ومستقبله، وفريق آخر: يدعو إلى الانسلال بالكلية عن التراث والبدء من الصفر، و بالنسبة له كلا الفريقين يحيا على "وعي مقلوب" أو "وعي متغرب": وعي التراثيين المؤسس على "الاغتراب" الذي يقرأ في التراث العربي كل إيجابيات الحضارة الغربية الحديثة من علوم وتقنيات ومؤسسات سياسية واجتماعية، ووعي الحداثيين المؤسس على "الاغتراب" الرافض للتراث نتيجة الاستلاب الثقافي الحضاري الذي رسخه فينا الغرب المتقدم والمستعمر. وعند النظر نجد أن الجابري يطرح منهجا جديدا بالنسبة إليه للتعامل مع التراث، وهو: القراءة النقدية العقلانية الاستملاكية للتراث التي هي وحدها من شأنها أن تجيب عن السؤال: "كيف نتعامل مع تراثنا بموضوعية ومعقولية؟ "بمعقولية" أي بطريقة تجعله معاصرا لنا كل المعاصرة، وذلك عن طريق "وصله" بنا. و"بموضوعية" أي بجعله معاصرا لنفسه وبما يقتضي فصله عنا. وإن هذا الأمر لن يتحق إلا بإجراء "حوار نقدي" و"حوار عقلاني" مع التراث. وهو حوار يقودنا لا محالة إلى ملاحظة أنه: "لاشك أن هذا المجموع التراثي عناصر قابلة للحياة والتطوير والرؤى والتصورات تأخذ منه الأمة ما يفيدها في حاضرها أو ما هو قابل لأن يعين على الحركة والتقدم. لابد إذن من الاختيار، ومعيار الاختيار هو دائما اهتمامات الحاضر والتطلعات المستقبلية". التراث والحداثة، عابد الجابري، ص 47. دعوى الرؤية التجزيئية للتراث إن الدعوى التي أقامها الجابري في اشتغاله بالتراث هي دعوى التجزيئية وقد صاغها طه عبد الرحمن على الشكل الآتي: "إن التقويم الذي يغلب عليه الاشتغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر ألبتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين يقع في نظرة تجزيئية إلى التراث". تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، ص 23. وهذه النزعة التجزيئية، تقوم على تقسيم المضامين التراثية إلى قطاعات متمايزة فيما بينها، وفي تفضيل بعضا إلى بعض، فيكون من هذه القطاعات ما يُعد، بحسب هذه النزعة، مقبولا يستحق الدرس، بحجة أنه حي يحتمل أن نربط أسباب الحياة فيه بالحاضر وأن نتوجه بها إلى المستقبل، ومنها ما يعد على العكس من ذلك، مردودا لا يستحق الدرس، بحجة أنه ميت ينبغي قطع صلاته بالحاضر، حتى لا يضر بآفاقه المستقبلية ومن ها هنا كانت الحصيلة التي انتهى إليها الجابري عند اشتغاله بالتراث إلى تقسيمه إلى دوائر ثلاث سماها بالأنظمة المعرفية، وهي: "البرهان" و"البيان" و"العرفان". وهذه عنده دوائر متباينة في آلياتها، لا رابط بينها إلا المصارعة أو المصالحة، ومتفاضلة في نتائجها، لا يرقى فيها العرفات إلى مستوى البيان ولا يسمو فيها البيان إلى مقام البرهان. وللتأكيد على الدعوى التي أقامها طه عبد الرحمن أكد ما ذهب إليه الجابري في رؤيته التجزيئية للتراث توسله بآليات عقلانية تجريدية، وبآليات فكرانية تسيسية أضرت بالمبادئ الثلاثة، وهي: مبدأ تداخل القيمة الخلقية والواقع، ومبدأ تداخل القيمة الروحية والعلم، ومبدأ تداخل القيمة الحوارية والصواب، فقد استند إلى مبدأ الموضوعية للفصل بين الأخلاق والواقع، وإلى مبدأ العلمانية للفصل بين الروح والعلم، وإلى مبدأ النظر المتوحد أو ما يمكن أنسميه بمبدأ "النظرانية" للفصل بين الجواب والصواب". انظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 39 وتبلغ الرؤية التجزيئية مداها حين يجزئ الجابري التراث حسب المواطن أو قل "المناطق" المعرفية، فمنطقة الغرب الإسلامي عنده يغلب عليها توجه عقلاني برهاني، بينما منطقة الشرق الإسلامي يغلب عليها توجه فكراني عرفاني، وهذا يؤدي به إلى القول بالتفاضل بين أقطار التراث، حيث يجعل القطر المغربي أعلى منزلة من الأقطار الأخرى. وفي جهة مقابلة للاشتغال على التراث نجد الدكتور طه عبد الرحمن الذي اشتغل على التراث من خلال مضامينه، لكن لم تكن له تلك النظرة التقليدية للتراثيين القائلين بالاستكانة والجمود على التراث القديم، بل وقف موقف الوسط، فما وجدنا في التراث القديم ما يتماشى مع عصرنا يرى طه استفدنا منه، وما لم يصلح لعصرنا تركناه، والماضي عنده ماضيين: "ماضي الوقائع" وهذا قد مضى وولى، ولا مساغ لإحيائه، "أما ماضي القيم" فإنه لا يتبدل كله، لذلك بالنسبة إليه هناك قيم خير لابد من استدعائها لعصرنا. ومن هنا رفض طه عبد الرحمن "الاشتغال التراثي بالتراث" بل أصل قاعدة ذهبية، وهي "التأصيل أولى من التقليد"، التأصيل دون أن يعني ذلك الجمود، مع الاستفادة من كل الأدوات والمناهج المعاصرة إذا كانت نافعة. وبالجملة، فإن موقف طه عبد الرحمن ما كان هو موقف "الانتصار للتراث انتصار من ينكر ضرورة العلم الحديث، ولا هو على العكس من ذلك، الانتصار للعلم الحديث انتصار من ينكر فائدة الموروث، وإنما هو الأخذ منهما بالقدر الذي يجعل الواحد منهما فاعلا في الآخر، بحيث ينفعه وينتفع به، ولا طريق إلى الاجتهاد، ولا تحصيل لهذه القدرة بغير التمكن في العلم الحديث إلى غاية مضاهاة صانعيه في الغرب". حوارات حول المستقبل، طه عبد الرحمن، ص 17. ثم إن طه لم يكن تراثيا يشتغل على التراث، بل استخدم منهجا مغايرا في تقويم التراث، حيث أنه اشتغل على مضامين التراث، واستخلص قاعدته المعروفة" التأصيل أولى من التقليد"، كما دعا إلى تقويم التراث تبعا لمنهج مؤصل ليس له طابع التقيلد والتبعية لما أنتجه الغرب، علما أنه يرى إمكانية الاستفادة من الأدوات والمناهج المحدثة. دعوى الرؤية التكاملية للتراث لم يقف طه عبد الرحمن عند رصد دعوى التجزيئية عند الجابري والتدليل عليها فحسب، بل قد أدى به الأمر إلى تبيان إمكانية إبطال ما ذهب إليه الجابري في دعواه، ومن ثمة، أقام دعوى مغايرة تنبني على التقويم التكاملي للتراث، يقول طه: "إن التقويم الذي يتولى استكشاف الآليات التي تأصلت وتفرعت بها مضامين التراث كما يتولى استمالها في نقد هذه المضامين يصير لا محالة إلى الأخذ بنظرة تكاملية". تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 81. وللتدليل على دعواه أقام طه ثلاث مقدمات: المقدمة الأولى: مقدمة التركيب المزدوج للنص، والتي ركز فيها على الآليات الاستهلاكية التي توسل بها الجابري لتقويم التراث، وهي آليتين وهما: الآليات العقلانية: وهي الآلية التي توسل بها الجابري في رؤيته للتراث لكي يشرحه إلى شرائح متعددة ومتباينة، تكريسا للرؤية التجزيئية والانتقائية للتراث، فكانت هذه الآلية حسب طه تفضي إلى قطع الصلات بين أقسام هذا التراث. الآليات الفكرانية المسيسة: لقد تم الاستناد إلى هذه الآلية لإظهار أن النص التراثي يتضمن وحدة تسيسية ومادية وصولا منهم إلى تفريق نصوص التراث بعضها عن بعض وتفضيل بعضها على بعض. وبعد نقد طه لهذين الآليتين توصل إلى خلاصة مفادها أن اقتصار المشتغلين بالتراث على النظر في النصوص التراثية دون الالتفات إلى الوسائل الذاتية قد أدى بهم إلى استخدام الآليات العقلانية التجريدية والآليات الفكرانية التسيسية مما تولد عنهما تقسيم التراث إلى أجزاء معرفية متباينة ومتفاضلة في ما بينهما، ومن هنا طرح طه بديلا لهذا منبها إلى الأخذ بالرؤية التكاملية للتراث. أما المقدمة الثانية، وهي مقدمة تنقل الآليات الإنتاجية، وقد ساقها على الشكل التالي: "سلم بأن الآليات الإنتاجية تختص بكونها تقبل أكثر من غيرها التنقل من حقل فكري إلى آخر والتجول بين مختلف حقول المعرفة وأصناف العلوم، حتى إن الآلية الواحدة قد تشترك في استخدامها علوم متباينة في مقاصدها ووسائلها، ولا يُخرجها عن وصف الشمولية ما قد يلحقها من تلونات حقلية". تجديد المنهج ، ص 82. ثم المقدمة الثالثة، وهي مقدمة تشبع التراث بالآليات الإنتاجية، ووهي كالآتي: "سلم بأن آليات إنتاجية دقيقة ومتنوعة استحكمت في مضمون النص التراثي استحكاما يدل على أن واضع هذا النص متمظهر فيهذه الآليات بحيث لا يمكن فهم هذا النص التراثي حق الفهم ولا تفهيمه حق الفهم بغير معرفة تامة بأصول وفصول هذه الآليات". تجديد المنهج، ص 82. والتسليم بهذه المقدمة حسب طه، يلزم عنه أن الاشتغال الآلي ليس مجرد وصف اعتباري خارجي نسنده إلى الوسائل التي بنيت بها مضامين التراث، بل هو أساسا مقصد حقيقي من المقاصد الأصلية لهذا التراث وقيمة جوهرية من قيمه الراسخة، بحيث لا ينفك وجوده عن مظاهر تكونه وعن مراحل تطوره. إذن، فقد تبين أن طه جاء برؤية مختلفة لتقويم التراث، وجاء ببديل للآليات يمكن من خلال التوسل إليها واستعمالها توصل الدارس إلى ترك الرؤية التفاضلية والتجزيئية واعتماد الرؤية التكاملية في تقويم التراث. * باحث وكاتب مغربي