في ظل المحن والأزمات، يلوذ الإنسان بحصنه الثقافي للاحتماء والدفاع عن الكينونة، والبحث عن معنى الحياة، وإضفاء متعة وبهجة عليها، بما جادت به أنامل الفنانين، وقرائح المبدعين. فهو سلوى وعامل تنفيس وترميم لما يصيب النفس من كدر ووهن في مقاومة غارات الوباء. بعدما عكف العلماء في مختبراتهم للبحث عن ما من شأنه إعادة الاطمئنان للحياة، والاستمتاع بملذاتها، إيمانا بأن "الذي أنزل الداء أنزل الدواء" (حديث نبوي). إن من الشعر لبيان وصناعة للجمال: بهذا وغيره، لم يستسلم الإنسان لاكتساح الوباء، ويسمح له بالقضاء على جمالية الحياة التي شيدها لبنة لبنة على مدى قرون وأجيال، في العمارة والزي والقول و.... جمالية تسكن بين جنبي الفرد وتؤثث روحه ونفسيته بأجل المعاني وأنفسها، لا يقل عن حضورها في الفضاء العام والعلاقات الاجتماعية، وهو ما يجعل منها لصيقة الإنسان في حله وترحاله، وفي سكونه وحركته. فالروح تكابد وتعاني لتصنع عالمها الخاص، بعيدا عن المحسوسات المادية. وهذا شأن الأدب عامة والشعر خاصة، لأنه "يعتمد الكلمة الجميلة والموسيقى الجميلة والتصوير الجميل" (عبد الكريم غلاب). فحين يجتمع هذا الثالوث تنطلق الروح بعيدا في أجواء من النغم الشعري، ترتوي من ينبوعه وترتع في مروجه، الشيء الذي "يثير فينا بفضل خصائص صياغته إحساسات جمالية أو انفعالات عاطفية أو هما معا" (محمد مندور). ففيه يجتمع ما تفرق في غيره من الفنون، وهي على كل حال، تشكل منبع الجمال وفتنة البهاء. تعددت منصات إدراك الجمال منظورا ومسموعا وملموسا، والأجناس الأدبية تتكامل في صناعة أبعاده مجتمعة، لفظا وتركيبا ولحنا. فالمعرفة الأدبية وإن كانت تثرى بالمعرفة العلمية، تبقى معرفة جمالية تنهض على الخيال والإنشاء والإبداع. وهذا الأخير هو ما يضفي على الإنشاء الشعري جمالا وبهاء، "فالمعاني مطروحة على الطريق" (الجاحظ)، لكن الصياغة الأدبية والشعرية خصوصا، هي ما يجعلها تنفذ إلى عمق الإنسان، فتحدث التغيير المنشود. فيجد المتلقي للقول الشعري، نفسه في كل مرة أمام صور شعرية غير مسبوقة، تخلق دهشتها وبهجتها، حين تنفلت من المألوف والمعتاد من القول. فالشاعر دوما قادر على خلق مواضيع جديدة، دون التقيد في مضمونها بالوقائع والحقائق، "بل إن مجال الشعر هو الممكن والمثال" (أرسطو)، بالمباشر حينا، وبالرمز والهمس حينا آخر. في غير ما إخلال بالشرط الشعري، المتمثل في الإيجاز والإيحاء والاستعارة والمجاز و..... وغيرها من ضروب البيان، "إن من الشعر لبيان" (حديث نبوي)، التي تعتبر "محك الشاعرية". فالشعر لا يكون كذلك إلا إذا قام على "اللفظ الجزل والقول الفصل والكلام البين"، والتمثيل الجيد. وذلك كله، ليحفز فينا فضيلة التأمل، إذا أحكمت الصنعة الشعرية، التي تحصل بالتعلم والتدرب، لكنها تغتني وتعطي أوفر الغلال، إدا تزامنت مع الموهبة، أو ما يسمى "ربة الشعر»، أو ما عبر عنه شعراء الجاهلية بشيطان الشعر. يقول أبو النجم عن نفسه: "إني وكل شاعر من البشر / شيطانه أنثى وشيطاني ذكر". الجمالية الشعرية في خدمة الغايات التربوية: إن الشاعر وإن كان "يعي العالم وعيا جماليا، ويعبر عن هذا الوعي جماليا" (وهبة أحمد رومية)، فتبقى هذه الأبعاد الجمالية، جسرا أنيقا ناعما، للطرح الفكري والفعل التربوي. فالمضمون العاطفي للشعر، يمارس تطهيرا للنفس "من نزعات الشر عامة" (أرسطو). وهو هدف تربوي نبيل، ما أحوجنا إليه في عصر أصبحت القوة، سلاحا حاسما في فض النزاعات، وتلبية الأهواء، وإشباع الشهوات. ففقد الإنسان السيطرة على أفعاله ونتائجها. الشيء الذي شكل مأساته، التي يعمل الأدباء والشعراء على التقليل من وقعها وحدتها. "إن الشعراء يحضون على الأفعال الجميلة، وينهون عن الخلائق الذميمة. فسنوا المكارم لطلابهم، ودلوا بناة المحامد على أبوابها» (المظفر العلوي). وقد تم الالتفات إلى هذا البعد التهذيبي للشعر، منذ فجر الإسلام الذي ما بعث رسوله (ص)، "إلا ليتمم مكارم الأخلاق". فصحابته حضوا على تعليم الأولاد الشعر، "فإنه يعلمهم مكارم الأخلاق" كما اعتبره معاوية: "أعلى مراتب الأدب". فما أحوج ناشئتنا لخدماته الرمزية، وقد أُنهكوا بالقصف الافتراضي والواقعي الاستهلاكي، والجري وراء الموضة في الملبس والمطعم. كما للشعراء دور في استنهاض الهمم للثورة على قيم الزيف والاستغلال، والتنبيه إلى مساوئهما ووجوب التصدي لها، "ببليغ أقوالهم وعميق رؤاهم وجميل إيحاءاتهم" (أحمد محمد المعتوق)، الشيء الذي جلب عليهم الكثير من المحن والمصائب. فهذا الحجاج بن يوسف الثقفي يحرم الشعر عندما قدم العراق، تفاديا للتنديد بظلمه، فكتب إليه عبد الملك بن مروان: "أجز الشعراء، فإنهم يجتبون مكارم الأخلاق، ويحرضون على البر والسخاء". ولعل أقدم ما وصلنا من نصوص إبداعية، كانت ملحمتا الإلياذة والأوديسة، اللتان تؤرخان لحياة الإنسان البدائي، التي تمثل مرايا ينظر الإنسان من خلالها إلى تاريخه. حتى لا يكرر أخطاءه، وينجح في الامتحان التنموي. وقد جعلت مثل هذه المضامين غناء، ليشاع ويترسخ مضمونه بين الناس، في ما سمي بالشعر الغنائي. بالإضافة إلى الشعر التعليمي، الغنية به مكتبتنا العربية في مجالات معرفية عديدة: نحوية، فقهية، عقائدية... كما طالت قرائح الفلاسفة الشعراء، قضية أصل الإنسان ومصيره، منذ أبي العلاء المعري في ديوانه الفلسفي: "سقط الزند"، فانضافت الحكمة لسحر بيان الشعر. فالتعبير عن التجربة الذاتية شعريا، لا يخلو من قيم ومعان إنسانية عامة. فلكل هذا وغيره، كان الشعر بحق ديوان العرب وموسوعة معرفية. المقاربة البيداغوجية للنص الشعري بالمدرسة المغربية: لهذه القيمة الإبداعية والأخلاقية للقصيدة، جُعلت أحد الأعمدة التي يقوم عليها الدرس القرائي والأدبي. لتقريب الشعر وأهله من الناشئة، واكتساب المعارف والمهارات في قوالب بيانية وصور شعرية تتجاوز الكائن والمحسوس، إلى الممكن والمتخيل. بالإضافة إلى ما يمنحه من متعة الاستحمام في حياضه الرقراقة، للاسترخاء من صرامة المنطق الرياضي والنحوي، والخروج من كيمياء المختبر ودقة تجاربه الفيزيائية، وما تسببه من توتر نفسي وإرهاق عقلي. بالإضافة إلى تربية الذوق الأدبي، وتنمية الشعور الإنساني في أبعاده المحلية والكونية، مع تمثل القيم التي يبشر بها سلوكا وممارسة، دون إغفال التمرين اللغوي استيعابا وتعبيرا. وبالاطلاع على ما هو مقرر بالمدرسة المغربية من متن شعري، ومقارنته بالمتن النثري: سردي، وصفي، حواري... يتبين الحيز الضيق الذي يشغله عدديا، أمام هيمنة باقي النصوص. وهو شح يبين المكانة المتدنية التي يحظى بها القول الشعري وقيمه، أمام تغول المواد ذات الصبغة العددية والكمية. هذا بالإضافة إلى التعامل البيداغوجي مع النصوص الشعرية رغم قلتها، وخصوصا وأنها ترد في الأسبوع الأخير من الوحدة الديداكتيكية، الشيء الذي يعطي الانطباع بثانوية أمرها، ويبعث على التهاون ويفقد الجدية في التعاطي معها. وهو غبن يطال سائر المواد ذات النفحة الفنية والجمالية، كالتربية الموسيقية والتربية التشكيلية. التي تتطلب من مؤطريها الإبداع أولا والمهنية ثانيا، بالإضافة إلى الحس الجمالي والذوق الأدبي. يغذي هذا التهاون، الغموض الذي تتدثر به بعض القصائد، وللأسلوب الشعري الطافح بالبديع والبيان، وما تقتضيه الضرورة الشعرية من حذف وتغيير وقلب... مما يصعب عملية الاستيعاب، وهذا ما يظهر بشكل جلي في مستوى الباكالوريا، التي لا يفكر المقبلون على امتحاناتها في التطرق للنصوص الشعرية أثناء التهييء لها، تحت طائلة وذريعة عدم اتخاذها مواضيع للامتحان كما جرت العادة، التي لم تخرق إلا لماما. من هنا يترك حبل أمرها على الغارب، تعبث به رياح النسيان وعوادي الإهمال. الشيء الذي انعكس أثره على فضاءاتنا العامة وعلاقاتنا الخاصة، مما جعلنا في حاجة إلى مادة "تهذيب اللسان والذوق العام"، وكأن ما يدرس بمدارسنا بعيد عن الأدب والذوق، أي من الزنقة والشارع العام الذي تنبت المدارس كالفطر على جنباته.