كيف نقرأ الشعر العربي الحديث والمعاصر. هل تكفي مسألة الذوق لقراءة الشعر؟ أم يجب على قارئ القصيدة أن يكون ملما بالعديد من الحقول المعرفية والمعارف المتعددة بدءا من العروض واللغة والمدارس الشعرية بمفاهيمها وتصوراتها لتعيين نظرية القراءة؟ يرى سعيد بنكراد ان النقد العربي لازال يخلط بين النظريات، كما يمتاز بالسطحية وتصنيف الاحكام البسيطة في حين ان الفكر الغربي فصل بين النقد وبين النظرية التي تختص بالقواعد العامة. إن النقد العربي لم يتخلص من العديد من المفاهيم والرؤى البعيدة عن المناهج العلمية في تحليل الخطاب مع ضرورة الوعي بأن الحديث عن المنهج في الممارسة العملية يعني، حسب محمد عابد الجابري، المفاهيم التي يوظفها الباحث في معالجة موضوعه، والطريقة التي يوظفها بها... وهذه المفاهيم قد يجدها الباحث قائمة في نفس المجال الذي يتحرك فيه، أو قد يضعها وضعا، او قد يستعيرها من مجال آخر، وفي هذه الحالة يعمل على تلوينها أي تضمينها أمورا لم تكن تشملها من قبل، أو لإفراغها من أمور كانت مشبعة بها، وهنا يكون من المفيد التنبيه على ذلك حتى لا يقع بينه و بين القارئ سوء تفاهم. إن العلم بالشعر لا يعني اخضاعه للقوانين الصارمة، فلا توجد قراءة للشعر دون محبة للشعر، الا أن المحبة وحدها غير كافية لقراءة القصيدة. فالقراءة الشعرية تقتضي معرفة شعرية تقوم على أسس نظرية لانجاز قراءة عالمة ترقى الى مستوى القصيدة. فقراءة الشعر ينبغي ان ترتكز على معارف نظرية مسبقة منها ما يمس نظرية الشعر ومنها ما تقتضيه مسألة التحديث الشعري. وبناء الخطاب الشعري الحديث يثير العديد من الاسئلة منها ما يتعلق باللغة والاتجاهات والجماليات، وكذلك منهجية القراءة. وقد أشار طه حسين هذه النقطة في كتاب الادب الجاهلي حينما اشار في مقدمة الكتاب الى تأخر الادب العربي في مناهج التدريس يقول: »لم يتقدم درس الادب في مدارس الحكومة، وانحط درس الادب في الازهر. وكانت نتيجة هذا كله أنك تستطيع ان تنظر الى ألوان العلم التي تدرس في مدارسنا على اختلافها، فاذا كلها قد ارتقى وتقدم تقدما يختلف قوة وضعفا و اذا المصريون قد أخذوا منها بحظوظ لا بأس بها، الا لونا واحدة من ألوان العلم لم يتقدم أسبوعا، بل لست أشك في انه تأخر تأخرا منكرا، وهو الادب العربي. فليس بين الاستاذ الذي يدرس الادب في هذه السنة والاستاذ الذي كان يدرسه من خمس عشرة سنة فرق ما. فالادب حسب الباحث لم يتقدم في مدارس الحكومة. وقد تجد في الكتب و المجلات ما لا تجده في برامج التدريس. وحسب طه حسين هناك طبقة احتكرت اللغة العربية وآدابها بحكم القانون فلن تر فيها الا قليلا عرفوا أو يمكن ان يعرفوا بالذوق الادبي والفقه اللغوي. وأين منهم الكاتب! وأين منهم الشاعر وأين منهم الناقد واين منهم القادر على ان يبتكر فنا من فنون القول أو لونا من ألوان العلم او أسلوبا من أساليب البيان! هم أولاء قد احتكروا تعليم اللغة وآدابها منذ نصف قرن، فهل تراهم استحدثوا في اللغة وآدابها بحثا طريفا، او نشروا فيها كتابا قيما« ويؤكد طه حسين على عنصر القراءة مشيرا الى أن الجاحظ كان أديبا لانه كان مثقفا قبل ان يكون كاتبا وعالم لغة وبيان. وكان أمثاله من العلماء في البصرة والكوفة يتقنون كل فنون الادب وبالاضافة الى علم الفقه والرواية والتاريخ، كما كانوا ملمين بفلسفة اليونان وسياسة الفرس وحكمة الهند. ويرى العديد من الادباء في العصر الحديث ان أزمة الشعر هي أزمة قراءة. وهذه المسألة تتعلق بسؤال الحداثة و التحديث الذي عرفته القصيدة العربية و ما عرفه الشعر العربي الحديث من معاني واشكال جديدة في القصيدة وأجناس شعرية متنوعة لدرجة ان الجهاز القرائي للمتلقي لم يعد قادرا على استيعاب هذا الوعي الجديد بالشعر. بالاضافة الى طرح سؤال الكتابة التي يختلط فيها النثر بالشعر حيث يتجاوز الشعر مهمته التقليدية على مستوى الوعي والتلقي. وبظهور مدرسة كانستانس الالمانية اواسط الستينات وخاصة مع هانس روبرت ياوس وفولفغانغ ايزر. ومع جمالية التلقي بدأ تكريس الحضور للقارئ لاقتحامه آفاقا مفتوحة على تعددية التأويلات المتاحة للنص، خاصة مع تصورات كل من أمبرتو ايكو في مجال السيميوطيقا. فكتاب العمل المفتوح يشكل بداية اهتمامه بالتأويل والتلقي. ومع كتابه القارئ في الحكاية يطرح إيكو اشكالية القارئ والقراءة والتأويل من منظور سميائي. ان البياضات والفراغات في النص الادبي هي التي تفتح النص على تعددية القراءة والتأويل فالنص الادبي حسب إيكو يتطلب من القارئ ملء البياضات التي لم يعبر عنها النص او عن الاشياء الواردة في النص لكنها ظلت بيضاء. ويتم التأويل بالتشارك النصي لحظة التفاعل بين النص وقارئه النموذجي الذي يفترضه النص كاستراتيجية نصية لهذا القارئ الذي يضع لنفسه فرضية عن المؤلف. يقول ايكو: فلكي ينظم المؤلف استراتيجيته النصية عليه ان يرجع الى سلسلة من القدرات (وهو مصطلح أوسع من معرفة السنن التي تعطي المضمون للعبارات التي يستعملها وعليه ان يتحمل ان مجموع القدرات التي يرجع اليها هي نفسها التي يرجع اليها قارئه. لهذا يتوقع قارئا نموذجيا يستطيع ان يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها المؤلف نفسه، ويستطيع أيضا ان يتحرك تأويليا كما تحرك المؤلف توليديا. إلا أن اختلاف سنن المؤلف عن سنن القارئ في بعض الاحيان والذي يفترض، حسب ايكو، استدعاء الموسوعة المعرفية عند القارئ من خلال تفاعله مع النص وفق ما تسمح به الاستراتيجية النصية، او كما يرى ايزر مجموع ما يقترحه نص تخييلي على قارئه مع اعتبار شروط تلقيه التي يقوم القارئ بتجسيدها. ويرى ادريس بلمليح ان العلاقة بين النص والقارئ تشتغل بحسب نموذج الانظمة المنظمة من ذاتها اي ان النص يتجه نحو اخبار المتلقي والمتلقي يفهم محتوى الاخبار في ضوء ادخال معطيات جديدة تساعد عملية التأويل واتساع دائرة الارجاعية التي لا يمكن ان تنبثق في ذهن القارى الا على أساس أنها ردود فعل بازاء ما يثيره النص من إحساس جمالي. ومعظم الدراسات المتعلقة بتحليل الخطاب الشعري، بمناهجه المختلفة، لم ترق إلى دراسات معرفية عميقة، باستثناء ما قدمه علماء الشعر ونقاده من الشعراء والأدباء كجمال الدين بين الشيخ وعبد المعطي حجازي ومحمد مفتاح وأدونيس ومحمد بنيس وغيرهم. إلا أن الخطاب الشعري الصوفي ظل أسير القراءة الإيديولوجية التي تهتم بالتصوف كظاهرة أكثر من اهتمامهم بالنص الإبداعي، باستثناء ما قدمه بعض الأدباء كنصر حامد أبو زيد ويوسف زيدان وطه عبد الرحمان. لقد كان التلقي وعدم امتلاك آليات التواصل الإبداعي وعدم التفاعل الجمالي مع نصوص المتصوفة سببا في مصرع العديد من رموزهم الكبار كالحلاج. ويرى سعيد بنكراد أن جمالية التلقي بنت كل تصوراتها على فكرة »التجسيد« (concrétisation). وأساس هذا التجسيد وجود بياضات نصية يقوم القارئ بتحيينها من خلال ابرط بين ذاكرات متعددة لعل أهمها ذاكرات النص والمؤلف والقارئ. فما من خلاص خارج هذه الذاكرات، ولا يمكن للمعنى أن يوجد خارج ما يمكن أن يتولد عن هذا الترابط. وهي المعادل لما يطلق عليه في نظرية التأويل، بتوجهاتها المختلفة، المقاصد المؤسسة للمنابع الأصلية للدلالات التي يمكن أن تكشف عنها القراءات المتنوعة للنص. فالنص غفل خارج مقاصد غيره. إن »التجسيد« على هذا الأساس، هو أصل التمثيل وأصل التلقي وأصل التأويلات الممكنة للنص أيضا. ذلك أن القراءة هي، في البداية والنهاية، استثارة لتجارب ممكنة من مصادرها ذات القارئ، وليست تحيينا لدلالة مدرجة بشكل قبلي في النص في شكل رؤية خاصة بالمؤلف وحده. إن الأمر يتعلق بشيء آخر غير ما تحيل عليه الفكرة الساذجة القائلة بوجود معنى مودع في العمل الفني في شكل سر لا يعرف مصدره وفحواه سوى صاحب هذا العمل، (ما كان يعبر عنه قديما وربما حديثا أيضا ب »المعنى موجود في نفس الشاعر«) إن المتحقق هو من مسؤولية المؤلف أما المضمر فهو من مسؤولية الموسوعة التي يتحرك داخلها القارئ ومن خلالها يحين جزءا من دلالات النص«. إن معنى النص عند إيزر ليس هو المعنى الجاهز أو لمختبئ في النص بل المعنى هو الذي ينشأ عن طريق التفاعل بين النص وقارئه. فمهمة التأويل تكمن في الأنظمة الدلالية الاحتمالية الكامنة في النص بفعل المشاركة الفعالة للقارئ. وهذا ما يفسر تعدد قراءات المتلقي وافنتاحها على آفاق رحبة. إن القارئ العربي اليوم يعيش مآزق الكتابة والتلقي. وعلى المتلقي إعادة النظر في معرفته الشعرية التي هي شرط أساسي للقراءة والكتابة معا. وما يهدد القراءة عند موريس بلانشو هو حقيقة القارئ وشخصيته وجرأته وإرادته الأكيدة للتغلغل في خبايا النص. إن قراءة الشعر الحديث أو المعاصر يجب أن ترتكز علي العمق المعرفي والثقافي والجمالي للنص. فالشعر العربي يمر بمرحلة تاريخية عرفت الكثير من التبدلات والتغيرات المعرفية والفنية الجمالية الصادرة عن مغامرة الكتابة و موقفها من الإنسان والعالم. فقراءة النص الشعري تقتضي إبداعية وجمالية القراءة لمقاربة القصيدة. كما أننا نحتاج في زمننا إلى موقف نقدي في تكوين الرؤية الجمالية والفنية للقصيدة سواء المكتوبة في ديوان أو الواردة في اللوحات التشكيلية أو في الجداريات. وهذا يقتضي الاهتمام بالنقد الفني إلى جانب الاهتمام بالنقد الأدبي حتى يتحقق ما يسميه ياوس ب »المتلقي الفاعل» الذي ينطلق في تذوقه بالعمل الإبداعي من »أفق الانتظار» أو أفق توقعات القارئ، وهو ما يحدد ثقافة القارئ كنقطة أولى للانطلاق نحو آفاق أخرى يفتحها بنفسه في تواصله وحواره مع هذا العمل الفني الذي يفسح له المجال لآفاق تأويلية واسعة تمكنه من ولوج أبعاده الجمالية انطلاقا من ثقافته الأدبية والفنية. الشعر اليوم منفتح على التشكيل. ومن الملاحظ أن الكتابات التشكيلية تتجاهل أعمال كبار الفنانين التي تتصدر أغلفة الكتب والرسومات الداخلية بالأعمال الشعرية. فصور أغلفة الكتب الشعرية هي لوحات تشكيلة رائعة شكلت عتبات بصرية لقراءة النص الشعري. فأدونيس صمم العديد من كتبه الشعرية ك «مفرد بصيغة الجمع» و«وراق يبيع كتب النجوم» بتقنية عالية في البناء التصميم تعكس الإمكانيات الفنية والجمالية من خلال التأثير الخطي واللوني والشكلي، تفسح المجال للملتقي للتأويل والتجاوب مع النص من خلال الحروف والعلامات والحروف والرموز التشكيلية يبحث فيها الشعراء دائما عن التفرد والتميز. فصور أغلفة الأعمال الشعرية الكبرى كالشاهنامة والإلياذة ورباعيات الخيام وكذلك شعراء الحداثة الشعرية كالسياب وجبران خليل جبران أدونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد ومحمود درويش... وغيرهم تفسح المجال تأويلات عديدة بلغة سيميائية ماثلة في جوهر الصورة التشكيلية أو الفوتوغرافية. لكن الفن التشيكلي العربي لازال يعاني نقصا كبيرا بسبب الأمية البصرية وغياب الوعي النقدي، بالإضافة إلى سيادة الأصولية الفنية وسيادة وهم التحريم وأزمة التلقي. لذلك يطرح التلقي إشكاليات بصرية كبيرة للإحساس بقيمة الإبداع في المنجز التشكيلي. ولعبت الرقمية دورا مهما في نشر الشعر العربي. كل هذا يقف عائقا في وجه الانفتاح والتجديد. ومعظم النقاد العرب أيضا لا يمتلكون الأدوات الفنية للتعمل مع النص الشعري البصري كما تقدمه الكتب والدفاتر الفنية. فالتلقي التشكيلي مثلا يفترض وجود قناة للتواصل بين الفنان المبدع والملتقي لعمل مرئي يمتلك طبيعة أيقونية. فقراءة القصيدة في فضاء اللوحة أو الأشرطة السينمائية أو الديوان الضوئي والصور والمنحوتات وغيرها، تمثل نصوصا بصرية تقتضي قارئا يمتلك ذوقا فنيا وجماليا لفك شفرات النص وما يعكسه من فضاء وألوان وخطوط.