لا مشاحة، في أن النص الفني، هو حوار متصل بين الكاتب وفنه، وبين الكاتب وزمانه وعصره، وهو مزيج من التواصل مع تراث الإنسانية عامة،والفن الإبداعي ليس مقيدا بمكان ولا زمان... ليست مهمة الفن، تصوير الواقع، ولكنه يعيد صياغته لكي يجعله قابلا للتصديق في احتمالاته المتعددة.. يعتبر عباس محمود العقاد ( 1889 – 1964 ) أمام مدرسة التجديد الأدبي والفكري وأحد رواد النهضة الثقافية العربية، في العصر الحديث.. إن أثر العقاد في الحياة الفكرية العربية، أثر عظيم، لا سبيل إلى إغفاله آو انكار قدره. وقد امتاز العقاد على أقرانه، من الأدباء، والمثقفين، بأنه كان كاتبا " موسوعيا " ظهر بمقام " الأستاذية " بمعناها الصحيح، فكان في حياته وأحاديثه ومؤلفاته أستاذا أصيلا ضليعا...، فقد استطاع وحده، في حياة فكرية زاخرة و خصبة، أن يؤدي الوظيفة الرئيسية للكليات الإنسانية في جامعات العصر الحديث...(1) العقاد، مفكر وأديب، فنان، وهو صاحب رسالة نبيلة شاملة لتنوير الأذهان، وفتح الآفاق، وإعلاء قيم الحق والخير والجمال... العقاد، أديب فيلسوف، بأوسع معاني الأدب، والفلسفة، فهو كاتب، قوي الحجة، والبرهان الساطع، والنظر السديد، وشاعر خصب الخيال، ومفكر موسوعي، وناقد، دائم الغوص في حقائق الكون والاستقصاء لعبر التاريخ، وهو دائب البحث في أغوار النفس الإنسانية، واستطلاع أطوار الضمير... وقد استطاع بهذه المواهب المتعددة، والعزم الصادق، أن يفتح في عالم الفكر طريقا طويلا، وأن يسمو في عالم الأدب إلى قمة الهرم، التي تلتمس اللباب وتتوخى الأصالة وتعزف عن البهرج الكاذب... ( 2 ) فأدبه هو أدب الفكرة الواعية الرفيعة، فالفن عنده احتفاء بالمضمون، يقول في مقدمة ديوانه الأول الصادر سنة 1916 " وها نحن نرى اليوم في أدبنا نهضة، فعسى أن تكون أدب طبائع، لا آداب ذكاء، لأن كل أدب خلا أدب الطبائع غير قمين أن يناط به الرجاء."( 3 ) فالشعر يعمق صلتنا بالوجود، ويفتح أعيننا على ما هو في الكون من جمال... الشعر الأصيل هو الذي يبقى بما وراءه من زاد، وهو شعر المعنى والفكرة والعاطفة الضرورية، ولا بد للشاعر الحق من نصيب من الفكر. فالتجديد إذن هو تجديد في النظر والتجربة. إن القيمة الحقيقية للعمل الفني، تكمن في نفاذه، واتصاله بمعاني النفس، لأن منتهى ما يبلغه إليه البهرج، وهج في النظر، وفرقعة في الأذن، وتهيج في الشعور، ومتى انتهى ذلك، فقد افتضحت طبيعته المادية، ووصل إلى حد المضايقة والأزهاق.. أما الجمال فلا يزيد في المادية والظهور ولايتمادىفي إعنات الحواس بالغا ما بلغ في السمو والكمال، ولكنه يتجه إلى النشوة الروحية... ومن هنا ينتهي العقاد إلى تصور أو نظرية تلخص فلسفته في الجمال، فيقول بأن الفرق بعيد بين البهرج والجمال، لأنه فرق بين العقبة والطلاقة، وبين ما يخاطب الوظائف الحسية، وما يخاطب الملكات الروحية، وبين ما يفرط فيمل للخاطر ويلثم الحس، وبين ما يفرط فيزيدك نشاطا ومرحا... ( 4 ) فالأدب الأصيل عند العقاد يمضي إلى الفكرة، والدلالة، دون أن تعوقه تحلية صياغة وزخرفة تعبير، فالجملة البليغة هي الجملة التي تبلغ بك فحواها، بدون مبالغة في تحلية تشغلك عن دلالتها، ولا قصور في التعبير يقف بك عند ألفاظها فيثنيك عن مضامينها... لا محل في معجم النفوس إلا للمعاني، فأما الألفاظ فهي مجرد رموز، ولابد من التفطن إلى هذا الفرق الدقيق بين معاني الألفاظ، لأنه يدخل في الملكة الشعرية، وتأسيسا على ذلك فإن المحك في نقد الشعر هو إرجاعه إلى مصدره، فإن كان لا يرجع إلى مصدر أعمق من الحواس، فذلك شعر القشور والطلاء، وإن كانت تلمح وراء الحس شعورا حيا ، ووجدانا، فذلك، شعر الطبع القوي والحقيقة الجوهرية، فشعر القشور والطلاء، هو شعر الحواس الضالة والمدارك الزائفة...(5). فليس الشاعر بصاحب اللفظ الجزل، والمجاز الرائع والخيال الواسع، والتصورات البعيدة، وإنما الشاعر من يشعر ويشعر... وصفوة القول أن العمل الفني الأصيل، إنما هو تعبير صادق عن روح الإنسانية وتجلياتها، يصورها الفنان الملم بأسرار النفوس، وكبقية تطرق الإحساسات المختلفة إليها... وقبل التطرق إلى أبعاد الرؤية الجمالية عند العقاد، سوف نعرض بعجالة لمفهوم فلسفة الجمال، وذلك بقصد إبراز الخصائص الجمالية في مجال التفكير الفلسفي. لقد درج المشتغلون في الدراسات الفلسفية على إدخال " علم الجمال ضمن مباحثهم المعيارية فوضعوه إلى جانب علم المنطق، وعلم الأخلاق، حتى يكتمل الثالوث ( العلوم المعيارية ) التي تدرس الحق والخير والجمال، وهذا ما فعله أندري لالاند (َAndré Lalande) حين فرق بين العلوم الوضعية التي تدرس الوقائع والعلوم المعيارية التي تدرس القيم ( فالعلوم المعيارية تحكم على ما ينبغي أن يكون معياريا، لا على ما هو كائن ) (6) فعلم الجمال من هذه الزاوية تنحصر مهمته في فهم الظاهرة الجمالية، وتوضيحها، وحينما يصف " واقعة " أو يصنفها أو يعمد إلى تفسيرها، فإنه لا يستند إلى الشعور الجمالي، الذي هو بطبيعته حدسي معياري بل يستعين بمجموعة من الطرق الإستدلالية، والمنهاهج التجريبية التي هي أدواته في البحث، لمقاربة وتفسير الواقعة الجمالية.( 7 ) فقد أجمع الدارسون في المباحث الجمالية بأن لفظ الأستطيقا ( Aesthetica ) أطلق لأول مرة في القرن الثامن عشر ليدل على العلم الذي يهتم بالمدركات الحسية والجمالية، ويقول بومغارتن ( Baumgarten ) بأنها نظرية الفنون الحرة، وفن جمال الفكرة وهي علم المعرفة الحسية... وقد أخذت عبارة الأستطيقا دلالات مختلفة، وبحثت تأثير بعض الأعمال الفلسفية مثل أعمال " بومغارتن" و " هيجل " و " كانط " ...(8) إن الإحساس بالجمال، ليس وحده موضوع الأستطيقا ( أي علم الجمال )، فالإدراكات الحسية هي تعبير عن الشعور بالجمال، وكذلك الفن، في صوره الإبداعية... فالأستطيقا إذن علم فلسفي، يتخذ موضوعا له، حكم الذوق والإدراكات والحواس والجمال...، والتركيز على كل ما يتعلق بالفن ضمن مجال علم الجمال (Science du Beau ) أو نقد الذوق، وكلمة فن تدل على المهارة والنشاط، كما تدل على نمط التعبير الإبداع الأستطيقي ( الفنون الجميلة ). (9) ومنثم فإن علم الجمال يدرس الأشياء، التي يستحدثها الفن حين يخلع صورة أو ماهية على المادة ( فالفن نشاط إبداعي، ينزع نحو خلق " أشياء "، أي إحساس بالأشياء ). ومن هنا فإن الإدراك الحسي، إنما يعني إدراك أشياء. وبالتالي فإن فكرة الشيء، لا تنفصل بالضرورة عن الإدراك الحسي... (10) ويرى "هيجل" في كتابه " دروس في علم الجمال" : بأن الجمال " حقيقة كلية" رغم تعدد مظاهر الجمال في الطبيعة والفن ..." وأن الغاية من بحث الظاهرة هو النفاذ إلى معنى "العمل الفني" فعالم الجمال يقتصر على دراسة الفن بوصفه خبرة، توسع أفاق فهمنا للوجود. وقد اتخذت دراسة الظاهرة الجمالية أشكالا عدة، إذ أراد البعض أن يجعل منه مجرد دراسة تجريبية للأذواق، ونظر إليه آخرون باعتباره دراسة سيكولوجية للإبداع الفني، والتذوق الجمالي، في حين ربطه آخرون بالنشاط الحضاري والاجتماعي... وقد أثار الفيلسوف "كانط" في كتابه " نقد ملكة الحكم العديد من المشكلات الجمالية، مثل مشكلة الحكم الجمالي، ومشكلة صلة الشكل بالمضمون في العمل الفني، ومشكلة علاقة الفن بالطبيعة، ومشكلة تصنيف الفنون ومشكلة الصلة بين الجميل والجليل..(11) بعد " كانط " أولى الفلاسفة الفلسفة الجمالية، الكثير من العناية، وقدموا العديد من النظريات في تفسير ماهية الفن وقاموا بدراسة موضوعية للظاهرة الجمالية، تظهر الوظائف العديدة التي اضطلع بها الفن عبر الحضارات المختلفة... فالقيم الجمالية قيم إنسانية، غايتها تنظيم حساسية الإنسان وترتيب فكره والارتقاء بسلوكه. وهدف البحث الفلسفي، أن نعي تلك القيم، وأن نلتزم بها في سلوكنا وإحساساتنا، بل يمكن أن نعيد فيها النظر على ضوء تطور الحياة من حولنا...(12) إن عالم الإنسان، هو عبارة على شبكة من الرموز " فاللغة والعلم والفن والأساطير" كلها رموز، ومن هذا المنطلق، فالإنسان حيوان قادر على خلق الرموز، وليس التعبير الفني إلا وسيلة من وسائل الرموز عند الإنسان، بل لعل الرموز الفنية من أبلغ الرموز دلالة على نفسية الإنسان، وعلى حضارته... قد يندثر فن من الفنون نتيجة تفاعل عوامل حضارية، في عصر من العصور، كما قد تتداخل عوامل معينة في تحديد الذوق الجمالي لعصر من العصور، فلا يمكن بأي حال عزل العوامل عن ظروف الحياة الاجتماعية..( 13 ) هناك تداخل بين فلسفة الفن والجمال، فالفن هو الوسيلة للتعبير عن الجمال، وبالتالي فالفنان هو الذي يضفي على الظاهرة قيمتها الجمالية.. وقد فرق الفلاسفة بين الصورة والمضمون في العمل الفني، فالصورة عندهم اقترنت بطريقة التعبير ووسائله، في حين يشير المضمون إلى المعنى الذي يعبر عنه العمل الفني... (14) وتتميز الرموز الفنية بقدرتها على إمتاع النفس البشرية، بما فيها من عنصر جمالي محسوس يدخل في المادة التي تكون الرمز الفني، سواء كانت " لحنا أم لونا أو لفظا "، إن للرمز الفني جمالية متعددة الجوانب، مستمد من الصورة التي تنتظم بها المادة وتتشكل كذلك من المضمون أو الفكرة أو مجموعة أفكار التي يعبر عنها ذلك الرمز... وعلى هذا الأساس يمكن أن نبحث عما ينطوي عليه الجمال الفني من قيم عرفانية، تكشف لنا حقائق الوجود.. ( 15 ) فالجمال إذن، هو تعبير عن الحقائق الكلية الأزلية، ويرى أرسطو أن الفن يعبر عن الحقائق الكلية، ولا يقف عند وصف الظواهر الفردية، وذهب الفلاسفة والنقاد إلى أن الأدب والشعر والفن عموما ليست سوى توابع مهمتها توضيح الحقائق. وفهموا الجمال على ضوء ربط الجمال بالتعبير عن الحقيقة الكلية. ونخلص مما سبق أن المعرفة العلمية هي تعبير يهدف إلى تحقيق غرض علمي، فالعلم قد يعرف بأنه تعبير باللغة والرموز والأشكال، على الحقائق التي تقع في خبرة الإنسان. ولكن خلو هذا التعبير من إستعمال الوسائل الحسية التي تضفي عليه صفة الجمال لا يجعله فنا.. ( 16 ) أما الفن فإنه نوع من أنواع المعرفة الحسية، أي الإدراك المباشر لوجود ما، سواء كان الوجود متحققا في الواقع أم في الخيال فيضفي على الوجود صورة معينة تعبيرا عنها. وغاية الفن تحقيق القيم الجمالية... ومن نافل القول أنه لا معنى لعلم لا صلة له حسيا بتصورات الإنسان العلمية، وحياته العملية، كما لا يكون هناك معنى لجمال لا يرتبط بالمشاعر الإنسانية؛ وبالتالي فإن الفن ليس تصويرا للجمال المثالي وإنما هو تعبير عن مطالب المجتمع ومثله وقيمه. وإذا كان الفن هو أبسط صورة من صور المعرفة، فإن البحث في القيم الجمالية يعتبر مدخلا إلى كل معرفة وتفلسف. وكان الأستاذ العقاد في الطليعة بين الأدباء المعاصرين الذي إهتموا بفلسفة الفن وعلم الجمال... وفلسفة العقاد الجمالية تربط بين الحرية والجمال، ويرى بأن "الفنون الجميلة تشبع فينا حاسة الحرية وتتخطى بنا حدود الضرورة والحاجة"، وأن أول مظهر من مظاهر ذلك ( الفكر الحر الذي لا ترين عليه الجهالة ولا تغله الخرافات ولا يصده عن أن يصل إلى وجهته صاد من العجز والوناء. ) ( 17 ) والجديد في فلسفة العقاد الجمالية أنه وسع من معنى الحرية، فلا تقتصر على الجانب الإرادي للإنسان، بل يضفيها على الأشياء الجمالية الماثلة في الطبيعة...، وبهذا المعنى، فإن الحرية هي الإنطلاق من القيود التي تعطل حركة الحياة. ويرى العقاد بأن أقوى ما في رأي شوبنهور في معنى الجمال الفني هو قوله : "إن مهمة الفن، فصل الشكل ( القالب ) عن المادة، لأن الفن هو مؤكد بالصورة الباقية، والنماذج الخالدة؛ لأن إبراز الشكل وحده بغير مادته جوهري في العمل الفني.(18 ) ويعلق العقاد على شوبنهور فيقول : أين يتساوى القول أن الجمال ( فكرة ) والقول بأن الجمال ( حرية )، ثم أين يتعارضان ؟ يتساويان حين نذكر أن الفكرة في رأي شوبنهور لابد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن تم لابد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات. ويتعارضان حين نذكر أن ( الحرية ) لا تكون بغير إرادة، وأن شوبهور يخرج الجمال كله من عالم الإرادة المسببة إلى عالم الفكرة المجردة. فما الذي يرجح القول بأن الجمال حرية على القول بأن الجمال فكرة بعيدة عن عالم الإرادة ؟ يرجحه الجمال لأنه يتفاوت في نفوسنا ويتعارض ويتفاضل في مقاييس أفكارنا ولو كان المعول على إدراك ( الفكرة ) وحدها في تقدير الجمال، لوجب أن تكون الأشياء جميلة على حد سواء. ونوضح ذلك فنقول، لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة ( فقط ) لما كان داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة، والأهم لنا أن نزعم أن الناس أجمل من الأشجار، ولكننا نعلم أن فكرة الناس غير فكرة الشجر، وأن الفكرتين تتفاضلان في تقدير الجمال ولابد أن يكون تفاضلهما بميزة أخرى، فما هي تلك الميزة ؟ هي الحرية، فالإنسان أوفر من الشجرة نصيبا من الحرية، ولذلك فهو أجمل منها وأرفع في درجة الكمال ولذلك تتفاوت ( الفكرات ). فالحرية إذن هي المعنى الجميل في الفكرة أو هي التي تهب الفكرة ما فيها من الجمال، وما من شيء محسوس إلا وله فكرة مكنونة. ( 19 ) ولا يقتصر العقاد على القول، بأن الشيء لا يكون جميلا إلا بمقدار ما هو حر، بل نراه يؤكد بأن درجة حيوية الشيء تتوقف على حظه من الجمال، وأن مقياس الجمال في مضمار الحياة العضوية، إنما هو تلاؤم العضو مع وظيفته. " إن الوظيفة تخلق العضو، هذه حقيقة مقررة فالإنسان يمشي لا لأن له قدمان ولكن لأنه أراد أن يمشي وهكذا في جميع الأعضاء. " فكلما كانت الأعضاء صحيحة حسنة الأداء، كان عمل الحياة بها سهلا وحريتها فيها أكمل. وكلما كان العضو مبرأ من النقص والعيب، فهو العضو الذي يجاوب مطالب الحياة، ويحقق لها حريتها، وهو العضو الجميل"، فالجمال هو حرية الجسم وحرية وظائف الحياة، وسهولة مجراها ومطاوعة أعضاء الجسم لأغراضها(20). وليست "الابتسامة " سوى تعبير عن تلاؤم أعضاء الجسم مع وظائفها وتأديتها لهذه الوظائف في سهولة وخفة، لأن الجمال تناسب والتناسب هو أن لا يزيد الجسم عضوا أو أن ينقص في الحجم والشكل، ولا مختلفا في التركيب واللون عما ينبغي.. يربط العقاد الفن بالحياة ويقر بأن الفن تعبير تلحظ فيه ( البواعث ) قبل أن تلحظ فيه ( الغايات ) . وكأن الإنسان أراد بالفن أن يتمم حرية الحياة، ويستدرك عجزها عن قهر ضروراتها.. فقد خلق الفن للإنسان أجنحة يطير بها في الهواء، وأنشأ في الشعر أبطالا هزموا نواميس الكون وأحكام القدر، وجمع في الجسم الواحد من رشاقة الأعضاء وملاحة القسمات ما تضن به الحياة.. (21) ويرى بأن الجمال والفن والطبيعة معنوي لا شكلي، وأن الأشكال لا تعجبنا إلا لمعنى تحركه أو معنى توحي إليه .. فالفن عنده معنوي، وهو في جوهره احتفاء بالمضمون: " ما من شيء نراه لا يختلف موقعه في الذوق بحسب اختلاف الدلالة التي يدل عليها والوظيفة التي يقوم بها " ( 22 ) وصفوة القول أن الحرية المنظومة التي تظهر بين قيود الضرورات هي سر الجمال في الفنون، كما أنها سر الجمال في الحياة.. ويرى بأن من تعود النظر إلى المعاني الباطنية آستطاع أن يخلص فكره وقلبه وعقله من الصور المصبوبة في قوالب أبدية، تحصر كل شيء في صورته وتحبس كل شيء في ظاهره، وافتراض أن الصور سابقة في ترتيب المشاهدة على الإدراك. ( 23 ) وخلاصة فلسفة العقاد أن الجمال والحرية متلازمان، فالحرية حسب رأيه هي العنصر الذي لا يخلو منه جمال في عالم الحياة والفنون، وإن أهم مزية تتفاضل بها مراتب الجمال في الحياة، هي مزية حرية الاختيار التي يفضل بها الإنسان الكامل من دونه من المرجوحين، في صفات النفوس وسمة الأجسام على أن المادة الصماء، تتفاضل في الجمال بحسب ما يبدو في النظر من حرية الحركة والإرادة ومحاكاة الحياة. فالجمال عند العقاد تكامل بين الشكل والمعنى، يتجلى للحس والقريحة، والشكل الجميل هو أداة المعنى إلى الظهور، والفنان الملهم هو الذي يوفق لاختيار الأشكال التي تساعد المعنى على الظهور، لا أن تشغل الناظرين بالظواهر، عما وراءهامن المعاني والدلالات.( 24 ) هذه إلمامة بجوانب من فلسفة الفن والجمال عند العقاد، تبين مدى عمق فكره ونفاذ بصيرته وشاعريته وعبقريته الأدبية الفذة، الأمر الذي مكنه من وضع نظرية متماسكة في تفسير الجمال، وتحديد طبيعة الفن وصلة الفن بكل من العلم والأخلاق. فهو صاحب الفضل الأوفر بين معاصريه من الأدباء في إقامة مدرسة لمنهج حديث في الأدب والنقد الذي يحسم في وضع الفن ويؤسس لرؤية جمالية، تضم في بابها كل تعبير جميل صادق. فالجمال البادي على وجوه الأشياء كما يقول هو "جمال متصل بالأبدية اتصال أصدق الحقائق وأخفى البواطن وإذا أنعمنا النظر، وتأملنا مليا، هو صورة الحقائق الأبدية الحسنى، إذا كان لهذه الحقائق من صورة يتجلى فيها وجودها لمن يحس ويرى. وإن الربيع لا يسحر أعيننا ويحرك أشجاننا إلا لأنه صدى قدرة عظيمة مكنونة في كل شيء، ونفحة من ربيع سرمدي حافل بالنور والجمال..(25) وخلاصة الرأي أن فلسفة العقاد في النظر إلى الجمال أنها دعوة إلى التجديد في النظر والجوهر والتغيير في القيمة المحورية من أجل يقظة الروح وتنبيه الوجدان وإخلاص الضمير، كما أنها دعوة لبلوغ الحرية التي لا نهاية لها .. فلا سلطان لغير الحرية، ولا قيود غير قيودها .. وإن أجمل آيات الفن ليست في المتاحف ومحترفات الفنانين، بل في حياة موحدة الغاية والإرادة، وفكر بصير وخيال خصب يربط بين رمز الجمال الالهي والخلود السرمدي، و بما ان هدف الجمال هوغاية الحياة فإن المعنى الجميل في الوان والاشكال والعطور، فهو النور في مختلف الوان الطيف الشمسي ، فالنور في اصوله الاولى مادة كل شئ ومنبع كل حياة ..،فلا عجب ان يكون مصدر كل جمال وبالتالي فان شعورنا بالنور هو اصل شعورنا بالجمال في نفوسنا ومبعث تطلع الإنسان الى أن يرقى إلى أعلى درجات التمام والكمال. الهوامش: 1. الدكتور عثمان أمين / نظرات في فكر العقاد / المكتبة الثقافية : 153 / الدار المصرية للتأليف والنشر / ط : 15 مارس 1966 / ص : 10. 2. نفس المصدر ، ص : 13. 3. العوضي الوكيل / العقاد والتجديد في الشعر / ط 1 / 1966 / ص : 33. 4. نظرات في فكر العقاد، ص : 16. 5. نفس المصدر ، ص : 17. 6. ذ. زكريا إبراهيم : فلسفة الفن في الفكر المعاصر / مكتبة مصر . ص : 295. 7. نفس المصدر ، ص : 296. 8. د / سيدي محمد ولد يب / مدخل إلى علم الجمال / ط : 1 / 2013 / كنوز المعرفة، ص : 20. 9. نفس المصدر ، ص : 24. 10. د. زكريا إبراهيم ، مصدر سابق، ص : 297. 11. المصدر السابق ، ص : 7 و 8 . 12. د / أميرة حلمي مطر / فلسفة الجمال / المكتبة الثقافية / 1962 / ص : 5. 13. نفس المصدر ، ص : 10. 14. نفس المصدر ، ص : 44. 15. نفس المصدر ، ص : 47. 16. نفس المصدر ، ص : 43. 17. د. زكريا إبراهيم ، مصدر سابق، ص : 312. 18. عباس محمود العقاد، مطالعات في الكتب والحياة / دار الكتاب العربي – ص : 56. 19. المصدر السابق –ص : 60. 20. المصدر السابق، ص 272-274. 21. المصدر السابق، ص 376. 22. د. عثمان أمين – مصدر سابق – ص : 56. 23. المصدر السابق – ص : 57. 24. المصدر السابق ، ص : 58. 25. العقاد، مراجعة في الأدب والفنون، دار الكتاب العربي، الطبعة1، عام 1966،ص 29.