برقية تهنئة من جلالة الملك إلى ملك مملكة البحرين بمناسبة العيد الوطني لبلاده    إقليم ورزازات.. توفير الرعاية للنساء الحوامل في مواجهة سوء أحوال الطقس    بتعليمات ملكية.. الرفع من درجات التعبئة لمواجهة التداعيات المحتملة للتقلبات الجوية خلال الموسم الشتوي الحالي    سوء الأحوال الجوية يغلق أبواب المدارس مؤقتا .. إجراءات احترازية لحماية التلاميذ بعدد من الأقاليم    وزارة التجهيز تهيب بمستعملي الطريق تأجيل تنقلاتهم من وإلى أو عبر الأقاليم المعنية بالاضطرابات الجوية    انقلاب سيارة يُودي بحياة ستيني بحي جبل درسة في تطوان    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    بنكيران: تلقيت تعويضا بقيمة 100 مليون سنتيم بعد إعفائي من تشكيل الحكومة    هيئات تطالب الحكومة بإعلان مدينة آسفي منطقة منكوبة وتعويض المتضررين وإنصاف الضحايا    إغلاق الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون بسبب كثافة الثلوج    العواصف تُوقف مجددًا الرحلات البحرية بين طنجة وطريفة    دعوة لمسيرة وطنية في طنجة رفضا للتطبيع بذكراه الخامسة    الحكم على نادي باريس سان جرمان بدفع 61 مليون أورو لفائدة مبابي كمكافآت ورواتب غير مدفوعة    دعوات لإعلان آسفي منطقة منكوبة    بنك المغرب: وقع تسجيل نمو اقتصادي بنسبة 5 في المائة سنة 2025    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    كأس إفريقيا للأمم (المغرب 2025) ستكون أفضل نسخة على الإطلاق (الكاتب العام للكاف)    ترامب يطالب BBC ب10 مليارات دولار تعويضاً عن تهمة التشهير    أرقام مغربية متميزة في كأس العرب        التربية في صلب أولوياتها…الصين ترسم معالم تنشئة أخلاقية جديدة للأطفال    بطولة "الفوتسال" تتوقف بالمغرب    بوساطة مغربية... الأمم المتحدة تعيد إطلاق حوار ليبيا السياسي        أسود الأطلس يواصلون تحضيراتهم استعدادا لخوض غمار كأس إفريقيا 2025    علماء يحذرون من دوامات تحت المحيط تسبب ذوبانا سريعا للجليد بالقطب الجنوبي    أبرز أحزاب المعارضة الكولومبية يرشح مؤيدة لترامب لانتخابات 2026 الرئاسية    مسلحون يقتلون 3 أمنيين في إيران    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    ال"كاف" تطلق دليل "كان المغرب 2025"    اكتتاب "الشركة العامة للأشغال المغربية" العام الأولي يسجّل رقما قياسيا جديدا في بورصة الدار البيضاء    "فولكسفاغن" تغلق مصنعا للإنتاج في ألمانيا لأول مرة في تاريخها    أبرز عشرة أحداث شهدها العالم في العام 2025    انسحاب الوفد المفاوض لمكتب تنمية التعاون من جلسة الحوار الاجتماعي احتجاجاً على إقصاء بعض أعضائه    تراجع أسعار النفط في ظل توقعات بتسجيل فائض في سنة 2026    حقوقيون يحملون "الاستهتار البشري" مسؤولية أضرار فيضانات الجرف بإقليم الرشيدية    تمديد العمل بالمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي بالرباط إلى الساعة الثانية صباحا تزامنا مع كأس إفريقيا    أخنوش: إصلاح الصفقات العمومية رافعة لتمكين المقاولات الصغرى والمتوسطة وتعزيز تنافسيتها    إحباط مخطط إرهابي خطير كان يستهدف لوس أنجلوس في ليلة رأس السنة    الإعلام الفرنسي يرشّح المغرب للتتويج بكأس إفريقيا 2025    الرواية المغربية "في متاهات الأستاذ ف.ن." ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2026    المؤثرات الأساسية على التخييل في السينما التاريخية    تعاون عربي في إصدار أغنية «روقان» للفنان المغربي محمد الرفاعي    فاس تحتظن الدورة ال13 لأيام التواصل السينمائي    دورة ناجحة للجامعة الوطنية للأندية السينمائية بمكناس    مركب نباتي يفتح آفاق علاج "الأكزيما العصبية"    التحكم في السكر يقلل خطر الوفاة القلبية    جدل واسع عقب اختيار محمد رمضان لإحياء حفل افتتاح كأس إفريقيا 2025    عريضة توقيعات تطالب بالإفراج عن الرابور "PAUSE" وتدق ناقوس الخطر حول حرية الإبداع بالمغرب    بنسليمان تحتضن المعرض الجهوي للكتاب من 17 إلى 22 دجنبر احتفاءً بالقراءة في زمن التحول الرقمي    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسهامات الفلاسفة المسلمين في الحركة النقدية في المغرب العربي
ابن رشد –نموذجا-
نشر في طنجة الأدبية يوم 08 - 11 - 2010


مقدمة:
عرف النقد الأدبي في معظم الثقافات الإنسانية، إن لم يكن كلها، فإذا كانت تلك الثقافات عرفت الأدب سواء كان شعرًا أم قصا أم تمثيلا في مراحل مبكرة، فإن من الطبيعي أن يفرز ذلك آراء نقدية حول ما يقدمه المبدعون. وقد حفظ التاريخ أراء نقدية قديمة، حيث كان لليونانيين دور بارز في تطوير فكر نقدي ما يزال مؤثرًا حتى اليوم بفضل تفاعل المفكرين والنقاد العرب المسلمين معه قبل قرون.
لذا فإن دراسة النقد عند الفلاسفة المسلمين لا تتضح إلا في ضوء النقد عند اليونانيين ذلك أن الثقافة العربية تدين للثقافة اليونانية التي تلقفها العرب وأفاضوا في تفسيرها والإضافة إليها، حيث تأثر الفلاسفة والأدباء والنقاد والبلاغيون العرب بمن سبقهم من فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون، حيث بدا هذا التأثر واضحا خاصة في كتاب (فن الشعر) لأرسطو على الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد خاصة بعد أن قام بشر بن متى سنة (328ه) بترجمة كتاب (فن الشعر)، ومن ذلك الوقت توالت التلخيصات والترجمات لهذا الكتاب، فقد قام بتلخيصه الفارابي، ثم قام بترجمته مرة أخرى ابن سينا وابن رشد، ومن ثم بدأت نظرية أرسطو في الشعر تجد صداها في نقد الشعر العربي، مع أن هؤلاء الفلاسفة لم يخصصوا كتابات مستقلة بعينها للشعر أو للنقد.
أولا: الشعر عند ابن رشد:
ينظر ابن رشد (ت595) إلى طبيعة الشعر أنها تقوم على الخيال، فالشاعر عنده شخص غلبت قوته الخيالية على قوته النظرية، فالشعر بهذا الاعتبار يعود مصدره إلى عنصر نفسي هو إبداع الصور الخيالية المشوبة بالصور الحسية ولا علاقة له في جوهره بغيرها من الصور العقلية الخالصة، والصور الحسية، التي لا أثر للخيال فيها.
وإذا كان أفلاطون (427-347ق.م) يرى كل الفنون ومنها الشعر قائمة على التقليد (المحاكاة)، وكذلك أرسطو (384-322ق.م) الذي ارتبطت به نظرية المحاكاة، فإن الفلاسفة الإسلاميين ومنهم ابن رشد اعتبر المحاكاة العمود والأساس في المديح، وربط بين المحاكاة والتشبيه، وهو أمر لم يقصده أفلاطون ولا أرسطو من هذا الاصطلاح .يقول:" والتشبيه والمحاكاة هي مدائح الأشياء التي في غاية الفضيلة".
ترجع جودة الشعر عند ابن رشد وتمامه وجماله في الوصف إذا بلغ الشاعر في وصفه مبلغا يخيل إلى السامعين كأنه محسوس أمامهم يبصرونه، ويرى أن هذا اللون من الوصف الرائع يتوفر عليه الشعر العربي، ويذهب إلى أن المتنبي أفضل من يوجد له هذا النوع من التخييل و من وصف الأحوال الواقعة في الحروب،(1) وكذلك الأمر لدى امرئ القيس وذي الرمة.
يلجأ الشعراء العرب في أشعارهم إلى استعمال ما يسميه ابن رشد بالتخيل وهو المقصود عنده بالمطابقة فقط، بمعنى وصف الأشياء الخارجية من الجماد والحيوان والنبات، وهذا اللون من الوصف كثير في أشعار العرب. ويغلب على الشعر العربي في نظر ابن رشد محاكاة أشياء محسوسة بأشياء محسوسة، وجل تشبيهاتهم راجعة إلى هذا. كما يوجد فيها تشبيه أمور معنوية بأمور محسوسة بكثرة.
بيد أنه يحكم على شعر المتنبي بأنه "أقرب إلى المثلات الخطبية من المحاكاة الشعرية"(2) وذلك أنه يستعمل الإقناع والتصديق الأمر الذي يليق بالخطابة وبالمنطق العقلي، ويلاحظ ابن رشد أن الشعر العربي يعتمد كثيرا على المحاكاة التي تقع بالتذكر، ويعني به أن يورد الشاعر شيئا يتذكر به شيئا آخر، فتذكر الشعراء العرب الأحبة بالديار والأطلال مشهور في شعرهم، ومن هذا الضرب أيضا تذكر الأحبة بالخيال أو الطيف وإقامته مقام المتخيل.
قال ابن رشد : "وتصرف العرب والمحدثين في الخيال متفنن، وأنحاء استعمالهم له كثير ولذلك يشبه أن يكون من المواضع الشعرية الخاصة بالنسيب وقد يدخل في الرثاء كما قال البحتري:
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه فيا عجبا للدهر فقد على فقد (3)
وأما النوع من الشعر الذي يبالغ صاحبه في الكذب فيعتقد ابن رشد بكثرته في أشعار العرب (4) والمحدثين وهو ما يستعمله من دعاهم بالسفسطائيين من الشعراء، يقول: "وهذا كثير موجود في أشعار العرب، ولكن قد يوجد للمطبوع من الشعراء منه شيء محمود مثل قول المتنبي :
لبسن الوشي لا متجملات ولكن كي يصن به الجمالا
وضفرن الغدائر لا لحسن ولكن خفن في الشعر الضلالا (5)
ومن السمات التي يتميز بها الشعر العربي ما يسمي بالتشخيص، حيث يضفي الشاعر الحياة والنطق على الجماد. قال ابن رشد : "وها هنا موضع سادس مشهور يستعمله العرب وهو إقامة الجمادات مقام الناطقين في مخاطبتهم ومراجعتهم إذ كانت فيها أحوال تدل على النطق مثل قول الشاعر:
وأجهشت للتوباذ لما رأيته وكبر للرحمن حين رآني
فقلت له أين الذين عهدتهم حواليك في أمن وخفض زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى سوى الحدثان (6)
ثانيا: وظيفة الشعر عند ابن رشد:
وإذا كان للشعر فعله في نفسية المتلقي، فإن فإن ابن رشد اهتم بالجانب الأخلاقي في هذا التأثير، ولذلك قارن بين اليونان والعرب في هذا المجال فقال : "وأما اليونانيون فلم يكونوا يقولون أكثر ذلك شعرا إلا وهو موجه نحو الحث على الفضيلة، أو الكف عن الرذيلة، أو ما يفيد أدبا من الآداب أو معرفة من المعارف". (7) فالشعر اليوناني يحث على الفعل الخلقي و يمجده، أما الشعر العربي فيصف الأشياء والذوات والانفعالات، فالشعر العربي فيما يذهب إليه عبد الرحمان بدوي ذاتي عاطفي، و الشعر اليوناني إرادي يكاد يكون موضوعيا، أي أن الشعر اليوناني ذو طابع أخلاقي فعال، في حين أن الشعر العربي ذو طابع انفعالي فهو شعر المتعة و اللذة. فالشعراء اليونان يمدحون الأفعال الخلقية و ينفرون من الأخلاق غير الخلقية. (8) لذلك نجد ابن رشدي يهاجم شعر الجاهلية هجوما عنيفا قائما على معيار خلقي يقول: "ولكون أشعار العرب خلية من مدائح الأفعال الفاضلة، و ذم النقائص أنحى الكتاب العزيز عليهم و استثنى منهم من ضرب قوله إلى هذا الجنس".(9) مشيرا بذلك إلى قوله تعالى : ((والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله وانتصروا من بعدما ظلموا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)).(سورة الشعراء،224_227).
فالشاعر يصور هوى نفسه، و مشاعر ذاته، وهيمان هواجسه، وهذا الرأي ذهب إليه الفرابي أيضا فيما يذكر ابن راشد: "و إن كانت أكثر أشعار العرب إنما هي كما يقول أبو نصر في النهم والكدية".(10)
جعل ابن رشد للشعر مقياسا أخلاقيا تربويا، حيث جعل له وظيفة اجتماعية منصبة على أثره في السلوك الإنساني، وبناء على ذلك هاجم الشعر الجاهلي لأنه في أغلبه يعبر عن الأهواء واللذات والرغبات والتكسب بالمدح وخاصة النسيب الذي ينطبق عليه تفسير فرويد للأدب على أنه لغة الرغبة، فيدعونا لقراءة الأثر الفني على أنه لغة الشهوة. قال ابن رشد: "و ذلك أن النوع الذي يسمونه النسيب إنما هو حث على الفسوق، لذلك ينبغي أن يتجنبه الولدان". (11)
ومع ذلك فهو يعترف بوجود قدرا من صور الفضائل في الشعر الجاهلي، فهو يقر بما له من نماذج تعبر عن الكرم و الشجاعة، وهذا النوع من الشعر هو الذي ينبغي أن نهذب به الأطفال ونؤدبهم فقال :"و يؤدبون من أشعارهم بما يحث فيهم على الشجاعة و الكرم فإنه ليس تحث العرب في أشعارهم من الفضائل على شيء سوى هاتين الفضيلتين و إن كانت ليس تتكلم فيهم على طريق الحث عليهما، وإنما تتكلم فيهما على طريق الفخر". (12)
ويذهب ابن رشد في تلخيصه لجمهورية أفلاطون إلى أن شعر العرب في الجاهلية يعج بوصف اللذات الحسية، وهو أمر يضر بالشباب لذا يجب تحذيرهم الشباب من الاستماع إلى هذا الشعر وما أشبهه. (13)
ويجب أن تهمل العبارات التي تؤدي إلى الاهتمام باللذات، فالشباب ينبغي أن يستمعوا إلى العبارات التي تحذرهم اللذات والانغماس فيها لأن مراقبة النفس كما قال أفلاطون لا يمكن أن توجد إلا مع الاعتدال وتجنب اللذات الحسية.(14)
ويرى وجوب منع هذه الأشعار التي تجري على عادة الجاهلية في وصف الأشياء التي لا ينبغي أن توصف (صهيل الحصان ونهيق الحمار) ولا يسمح للشعراء في المدينة أن يحاكوا كل شيء كما اتفق حفاظا على الذوق والخلق، وعلى سلامة المدينة وقوتها، فإن تقليد الأشياء الرذيلة، أو التي ليس لها تأثير فيما إذا كان شيء ما ينبغي اختياره أو تجنبه كما هو الحال في كثير من أشعار الجاهلية أمر ليست تدعو له أية ضرورة في المدينة، والشعراء في هذه المدينة بالأحرى يجب أن لا يسمح لهم إلا بوصف النساء اللامعات وأمانتهن، وبصفة عامة الفضائل الخلقية، كما أنه لا يسمح لهم بوصف أي شيء اتفق، وهذا أيضا ينطبق على الرسامين فلا يجوز لهم أن يرسموا الرذائل، لأن المدن الفاضلة في حاجة إلى أن يكون أطفالها لا يسمعون الأقوال الجميلة فحسب بل يرون أيضا الأشياء الجميلة. وهكذا فإن الأفعال الجميلة تغرس في أنفسهم بجميع أوجهها. (15)
لم يجعل ابن رشد للشعر و الفن وظيفة أخلاقية تربوية فحسب، بل جعل وظيفة اجتماعية سياسية، ولذلك هاجم الشعراء الذين يمدحون الطغاة والمستبدين من الحكام ويفضلون التملق إليهم والعيش في كنفهم، و يخبرونا ابن رشد أنه رأى كثيرا من الشعراء ومن الذين نشأوا في المدن الأندلسية يفضلون هذا اللون من الحكم الطاغي، ويعتقدون أنه الغاية القصوى، وأن هناك ميزة وفضيلة في النفس الطاغية، و يرون الدوام لهذا الحكم. (16)
يمكن القول بأن ابن رشد قاس الشعر بمقياس فلسفي أخلاقي وجعله خاضعا لخدمة المجتمع وللتربية الصالحة، و إذا كانت الغاية من الفن عند أرسطو هي اللذة الجمالية، فإنه مع ذلك لم يضح بالقيمة الخلقية، فهو لا يرضى للبطل في التراجيديا أن يسقط أخلاقيا. إن ابن رشد ابن حضارته والحضارة الإسلامية حضارة ذات طابع أخلاقي وليس معنى هذا أنها تنكر القيمة الجمالية وإنما تعطي الأولوية للحق وللخير إذا اقتضى الأمر، على الجمال.
ومن جهة أخرى فإن حكم ابن رشد على الشعر العربي يبدو شديد القسوة، ولكن الواقع أنه يقصد به الشعر الجاهلي، إذ يذكر "شعر العرب" مقابلا "لشعر المحدثين" تمييزا بذلك بين شعر الجاهلين وشعر الإسلاميين فلا يمكن أن ننكر العناصر الأخلاقية في الشعر الإسلامي، بل أنه لا يمكن لنا أيضا أن ننفي الصبغة الأخلاقية نفيا كليا عن الشعر الجاهلي إذ أن ابن رشد نفسه يعترف بما في الشعر الجاهلي من تمجيد للكرم وأن كان يقصر الصبغة الأخلاقية في الشعر الجاهلي على صفتي الشجاعة والكرم فحسب، و يشارك الفارابي ابن رشد في هذا الحكم القاسي.
وما كان يخلو منه شعر العرب في الجاهلية قد وجد في القرآن و لذلك قال ابن رشد: "وينبغي أن تعلم أن أمثال أنواع هذه المدائح الأربعة للفعل الإرادي الفاضل غير موجودة في أشعار العرب، وإنما هي موجودة في الكتاب العزيز كثيرا". (17) وتنبه ابن رشد إلى أهمية الشعر القصصي وإلى عدم توفر الشعر الجاهلي عليه، فبين أنه قليل في هذا الشعر، ولكن توجد القصص في القرآن وأشار إلى أن الشعر القصصي له تأثير بالغ فيمن صدق به، وأشار إلى قصة يوسف و إلى قصة إبراهيم الخليل -عليهما السلام- وإلى ما لهما من أثر في النفس سواء كان الحزن أو الخوف كما في قصة إبراهيم أو الرقة وما يحث على العمل كما في القصة يوسف، و ما إلى ذلك من القصص القرآني الذي يقصد به عظة النفس وتحريك الدوافع الأخلاقية، و يلاحظ ابن رشد أنه إذا وقع أي شك في هذه القصص فإنها تفقد تأثيرها وذلك: "هو السبب في أن كثيرا من الذين لا يصدقون بالقصص الشرعي يصيرون أراذل".(18)
ثالثا: بين ابن رشد، أفلاطون، وأرسطو:
ويبدو ابن رشد قد تأثر بأفلاطون في وضعه الشعر والفن عامة في المرتبة الثالثة من الحقيقة، و في طرده للشعراء من مدينته الفاضلة لأنهم يؤثرون تأثيرا سيئا فيمن عداهم من الناس، ويشوهون الحقائق، ولا يفهمون ما يعبرون عنه، وما يصفونه من أشياء وأفعال، ولكن ابن رشد لا يوافق نظرية أفلاطون في نظرية المثل ولذلك فإنه غلبت عليه المعايير الأخلاقية والاجتماعية من جهة، والمنطقية من جهة أخرى إذ ليس القول الشعري والخطابي والجدلي كالقول البرهاني، فالشعر عاطفي خيالي لا يصلح إلا للجمهور، بل إنه يؤثر تأثيرا سيئا في الجمهور إن كانت صبغته غير أخلاقية .
والواقع أن ابن رشد تبعا لأرسطو يرى أن من عيوب الشعر أن يترك المحاكاة الشعرية وينتقل إلى الإقناع والأقاويل التصديقية، وخاصة إذا انضاف إلى ذلك أن كان القول هجينا قليل الإقناع، و أن كان قد يحسن إذا حسن الإقناع أوكان صادقا، (19) ومن ثم فهو لا يتمسك كثيرا بالجانب المنطقي في الشعر إذ طبيعة الشعر لا يمكن أن تكون خاضعة لقوانين المنطق العقلي خضوعا تاما، فيبقى ابن رشد إذن متمسكا أشد التمسك بالمعيار الأخلاقي متفقا في ذلك مع أفلاطون الذي فهم من الشعر أنه يغذي الأهواء و يضعف الرجولة و يعزل العقل الذي ينبغي أن يسيطر على الأهواء ويحد من رغبة الإنسان الطبيعية إلى ذرف الدموع وأدرك أفلاطون من اللذة اللذات الحسية، إذ يرى أن الموسيقى أيضا قد تفسد الناس لأنها تهدف إلى إرضاء الجمهور فلا ينبغي للشاعر أن يثير الانفعالات، ولا يأذن أفلاطون إلا بمدائح الأبطال والأناشيد الدينية التي تلتزم الحقيقة. أما أرسطو فلا يرى أن الشعر مدرسة تعلم الأخلاق والتربية الصالحة وإن كان لا يقبل أن يعرض على المسرح الانحطاط الخلقي، وأن بطل القصة ينبغي أن يكون ذا خلق ممتاز، و هذا الموقف الأرسطي يخالف التقاليد اليونانية التي ترى أن رسالة الشاعر تهدف إلى تهذيب الشعب و ترقية أخلاقه
فموقف ابن رشد ليس أرسطاطاليسا محضا ولا أفلاطونيا محضا، وإنما هو موقف حضاري إسلامي يرى أن الشعر والفن عامة مرتبط بالالتزام ، والفن في نظر الرسالات والمصلحين والثائرين إنما هو في خدمة المجتمع، وخدمة الرسالة الخلقية أما إذا انساق الشاعر مع أهوائه ولذاته فقد نزل شعره من أن يكون فنا وأصبح ضربا من وحي الشيطان، لذلك نزه القرآن النبي من أن يكون شاعرا يهيم في أودية الخيال، أو كاهنا يسحر الناس بسجعه وأخيلته وتصويره لما سيحدث من الحدثان، قال الله تعالى: ((وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)) و قال: ((وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون إن هو إلا ذكر للعالمين)) .
خاتمة:
يعد ابن رشد واحدا من الفلاسفة الذين ترجموا كتاب (فن الشعر)، و يعتبر أيضا الوحيد الذي اختلفت ترجمته عن باقي الترجمات والشروح ، فقد لوحظ عليه سوء الفهم للمصطلحات الواردة في الكتاب، ورأى البعض أنه أخطأ في ترجمته، وذلك يرجع إلى تخلصه من الأمثلة التي أوردها أرسطو للنصوص الأدبية اليونانية واستبدلها بالنصوص العربية من شعر وآيات قرآنية، وهذا هو ما جعل الكثير من النقاد و الباحثين يظنون أن ترجمة ابن رشد لكتاب أرسطو عبارة عن كتاب مستقل تمتزج فيه أقوال أرسطو مع أقوال ابن رشد، ولكنه استطاع أن يسهم في تحولات كثيرة، تجلت فعاليتها النقدية في قضايا عدة.
وإذا كان ابن سينا والفارابي قد توليا طرفاً من التحول الفلسفي للنقد في المشرق العربي، فإن ابن رشد قد عرف الأندلسيين بكتاب (الشعر) لأرسطو، وأعطى النقد بعداً فلسفياً لا نحسبه يماثل ما توصل إليه المشارقة.
لقد ساهم الفلاسفة المسلمون في تنشيط الحركة النقدية الأدبية مستفيدين من ثقافاتهم ومعارفهم التي تلقوها عن الفلاسفة اليونان ومن ثراء النقد العربي وحركته المكثفة التي سادت ذلك العصر، ساعين في ذلك إلى توثيق التواصل بينهم وبين النقاد مضيفين لبنة في صرح الحضارة العربية الإسلامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.