فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة المثقف في الخطاب النقدي المغربي المعاصر
نشر في البوصلة يوم 30 - 06 - 2010

من غير المبرر عدم التسليم ب "القفزة النوعية" التي قفزها الخطاب النقدي المغربي المعاصر، وهي القفزة التي بدأت تتضح معالمها منذ منتصف السبعينيات ولم تتوقف منذ تلك الفترة حتى الآن وطبعا بوتائر منهجية متسارعة... مما جعل هذا الخطاب يحتل مكانة لائقة به في خاصية النقد العربي المعاصر.
ومصدر هذه المكانة هو وعي النقاد المغاربة بمعطى القراءة وذلك في سياق أوسع هو سياق الإنتاج المعرفي والضبط المفهومي أثناء فحص النصوص ودراسة القضايا. وساعدهم على ذلك الانفتاح على الدراسات الأدبية الحديثة والعلوم الإنسانية بشكل عام. ثم إن "الوعي النصوصي" سيحل العديد من الإشكالات التي كثيرا ما أساءت إليها العلاقات التي يقيمها الداخل مع الخارج في النص الأدبي. والقراءة هنا فعل تأويلي يتداخل فيه المستوى المنهجي مع المستوى الفلسفي. بكلام آخر: القراءة ليست مجرد إعادة إنتاج، وإنما هي "تحويل" غير أن هذا "التحويل" ليس مطلقا أي لا تضبطه قواعد إذ عليه أن يستند إلى النص أو بالأدق "حقوق النص" بتعبير السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو لكن مع الانفتاح على باقي المناهج الأخرى. فالقراءة تقف في الصدارة من لائحة المواضيع والقضايا التي تفرض نفسها على دارس الخطاب النقدي المغربي المعاصر. والملاحظ أنه لم تكتب كتابات كثيرة حول هذا الخطاب، وهذا سؤال كبير يظل مطروحا ليس على الخطاب النقدي فحسب وإنما على تاريخنا الثقافي بشكل عام. وكلمة "تاريخ" هنا ليست بمعناها النمطي التبسيطي، وإنما بمعناها الذي يمس آليات الفهم وإشكاليات التصور، وعلى كل حال فإن ما نتوفر عليه من كتابات متفرقة، وحوارات مع النقاد، يظل متفاوتا سواء من ناحية الطريقة المتبعة أو من ناحية الأسئلة التي تنوي هذه الكتابات طرحها على الخطاب النقدي. هذا بالإضافة إلى أن أغلب هذه الكتابات ذو طابع صحفي وجردي مما لا يجعلها ترقى إلى نقد النقد بمعناه الجذري والعميق الذي لا يقل من حيث الأهمية عن النقد ذاته. والملاحظ كذلك هو تمجيد البعض لخطابنا النقدي لأنه كشف - في نظرهم- عن منظور مغاير في دراسة الظاهرة الأدبية وبما تستلزمه هذه الدراسة من وعي نظري يسند فعل القراءة وهي تسعى في استخلاص البنى وتشخيص الأنساق. والحاصل كذلك وكأن الأمر من باب القانون الذي لا نحيد عنه - أن إيقاع التمجيد لا يتحقق إلا من خلال استحضار المشرق لمقارنة خطابنا مع خطابه، وبالتالي تأكيد الخطوات التي قطعها النقاد المغاربة على طريق النقد العربي. وفي تقديري فإن هذه المقارنة التي كثيرا ما تحضر بأشكال غير مباشرة - ليست دائما مفيدة، لأن كل طرف له خصوصيته المرتبطة بخطابه الثقافي بعامة.
إن الخطاب النقدي جزء من الواقع الثقافي، ومن هذا المنظور يمكن طرح أسئلة كثيرة على خطابنا النقدي، وفي موازاة ذلك ثمة مقدمات كثيرة يمكن الاستناد إليها في فحص هذه الأسئلة. ونقف هنا عند موضوع لا يتم الالتفات إليه عادة مع أن له أهمية بالغة في دراسة هذا الخطاب والكشف من ثم عن جوانب من مستنداته المعرفية والإيديولوجية. وهذا الموضوع هو: أزمة المثقف في الخطاب النقدي المغربي المعاصر كما جاء في العنوان. بكلام آخر: نريد أن ننظر إلى معطى القراءة، التي تكسب هذا الخطاب فرادة مخصوصة، في ضوء الناقد-المثقف. ومفردة أزمة تستلزم الحذر والاحتراس لأنها توحي بأن الناقد-المثقف كان له حضور في فترة سابقة فإذا به -ونظرا لتبدلات تاريخية وثقافية وهذا وارد - تراجع عن موقعه فوقع في أزمة. المسألة لا تحضر بهذا الشكل المبسط، ثم إن هذه الأزمة لها أكثر من وجه. ويظهر أن الأستاذ عبد الله العروي قد وضح اللبس الملازم لطرح "أزمة المثقف" فهو يقول - في مفتتح الفصل السابع المعنون ب "أزمة المثقف العربي" من كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ" - بأن الموضوع "شائك" و"معقد"، ويضيف: "يمكن القول إن ظاهرة الأزمة لاتفارق المثقف في كل مجتمع وفي كل حقبة من الحقب بقدر ما تواكب نهضة تلك الأمة من كبوتها وركودها"(1). ونحن نقيس أزمة الناقد - المثقف هنا من ناحية "ترهين" الأسئلة الكبرى ومدى التفاعل أو الاستجابة للواقع. فما يؤخذ على خطابنا النقدي انتقالاته المفاجئة وتحولاته السريعة، فإذا أردنا الوقوف عند المناهج والقراءات التي سادت منذ منتصف السبعينات حتى الآن فسنلاحظ أنها كثيرة مثلما سنصل إلى نتيجة وهي أن هذه المناهج والقراءات تبدو مفروضة على واقعنا الثقافي وليست نابعة من داخله. ويمكن ربط هذه المسألة بما يسميه عبد الله العروي ب "التكوين المجرد" للمثقف، وهذا التكوين هو الذي يجعله - كما يشرح العروي - "يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق. هذا ما عبرت عنه بالإنتقائية التي لا تمثل ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه"(2) مثلما يمكن ربطها بالثقافة الفرنسية التي يقول عنها المفكر التونسي هشام جعيط بأنها بقيت متقدمة في الثقافة التقليدية من فلسفة وتاريخ وعلم اجتماع وأمور من هذا القبيل، وفي الثقافة والفكر الأنثروبولوجي الذي لا يؤهل كثيرا للتنظير(3).
والملاحظ كذلك على خطابنا النقدي أنه ظل، ولا يزال، مرتبطا بالأفراد ولم يرق بعد إلى الانتظام في جماعات كما نجد في البلدان الأوروبية خصوصا وأن هذه الجماعات تضمن أكثر تطوير الخطاب النقدي. وارتباط الخطاب النقدي بالأفراد هو الذي يفسر لنا تقلبات هذا الحطاب وانتقالاته السريعة بين النظريات والمناهج التي تظهر من حين لآخر في السوق المعرفية الأوروبية. وهذه المناهج تبهرنا وتسحرنا، ولذلك نعمل جاهدين لكي نمدها إلى ثقافتنا دون أن نلتفت إلى جذورها...وعمق المشكل ليس في الغرب في حد ذاته كما يمكن أن تعترض خطابات الهوية والتسييج الحضاري، ثم إن الغرب يكمن في قاع الفكر العربي كما قال عبد الله العروي، هذا بالإضافة إلى أنه لا أحد يستطيع في وقتنا الحاضر أن ينفلت من قبضة تأثيره، لقد كان هارون الرشيد في فترة سابقة يسد أبواب بغداد عن التأثيرات الأجنبية التي لا يرغب فيها أما الآن فهذه المسألة تدخل في دائرة المستحيل. وعمق المشكل -في إطار الحديث عن علاقة نقادنا مع السوق المعرفية الأوروبية- هو أن العلاقة تبدو كما لو أنها تتعلق بمزاجات أفراد محسوبين على "الطليعة" أو "النخبة" المتجذرة في المؤسسة الجامعية. وفي هذا الصدد فإنه يمكن التساؤل حول "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي يساهم أبناء "العالم الثالث" بنسبة كبيرة في صياغتها بالغرب. ويمكننا أن نتساءل كذلك: لماذا لم يكتب بعد التداول لهذه النظرية في جامعتنا؟ ومن دون شك فهذا سؤال عميق ومرتبط بمشكل التعليم في بلادنا وبمشكل المؤسسات الثقافية ومدى تشجيع المعرفة الإنسانية والانفتاح على العالم والتواصل مع الشعوب والثقافات والحضارات.
والفكرة الأساسية التي نحاول الدفاع عنها هنا هي أن الخطاب النقدي جزء من الواقع الثقافي. فالناقد لا بد أن يكمن فيه ذاك المثقف الذي يبلور مشروعا له صلة بالمجتمع، ولذلك يكون على مؤسسات المجتمع -ذات الصلة بالثقافة- أن تدعم هذا الخطاب. ومن هذه الناحية لا تزال أسئلة كثيرة تطرح حول هذه المؤسسات، ورغم ذلك يمكن الوقوف عند مؤسستين تؤثران في خطابنا النقدي وهما :الجامعة والإعلام. وفيما يتعلق بالجامعة فإن المرء يمكنه إبداء أكثر من تحفظ إزاءها، لأنها لم ترق بعد إلى أن تكون فضاء للاستنارة والعقلانية والحرية وفضاء لمد الثقافة بشرايين المجتمع. الجامعة عندنا تدخل المثقف في "اللعبة" مثلما تريد أن تجعل منه مجرد " وسيط" بين الدولة والمجتمع، وهذا الدور ليس مباشرا وواضحا وهو يفهم من خلال استراتيجية دولة المجتمع ثم إن هذه الدولة تفهم من ناحية الهاجس الأمني الذي يحاصر الجامعة والثقافة بشكل عام. ويمثل منتصف السبعينات بداية "المغرب الجديد" وغير المغرب الذي طالب به من طالب من قبل تحت التسمية نفسها. وفي هذه الفترة سيتم ترحيل الثقافة إلى رحاب الجامعة وبالتالي محاصرة هذه الأخيرة في إطار محاصرة كل مؤسسات المجتمع. وللإشارة فالجامعيون بدورهم ساهموا في هذا الترحيل كما أن الصحافة هي الأخرى رحبت بالمناهج الجديدة. وهذا الترحيل يدخل في إطار "الانقلاب الثقافي" و "التصالح مع الدولة" و "الإجماع الوطني" و"المسلسل الديمقراطي"...الخ. من الجلي إذن أن إرساء العمل الثقافي في الجامعة سيكون وفق هذه الاستراتيجية(السياسية) المحكمة للدولة. ثم إن هذه الأخيرة باحتلالها للثقافة والمثقفين ستكون قد احتلت -وهذا هو الأخطر- الرؤية الثقافية (المحتملة) للمجتمع كذلك وفي هذا السياق ستنشط القراءات التطبيقية والتعريف بالمناهج الأوروبية الجديدة ومحاولة ترجمة النظريات... وإذا ما نظرنا إلى التطبيق عن بعد فإنه يمكننا أن نخرج بنتيجة وهي أنه يخدم ثقافة "النظام" ويدعم ما هو سائد، وطبعا لا ينبغي أن نسوي هنا بين كل القراءات فالبعض منها له أسس تصورية ويكشف عن أفق تاريخي لكننا لا نزال في حاجة إلى وقت طويل لكي نصل هذا الأفق بقاع المجتمع الحواري لقاع الفكر. إن خطاب هذا الناقد لن تفهمه إلا النخبة إن لم نقل نخبة النخبة، ثم إن مثل هذا الناقد -بموقفه المعرفي الذي يبدو محايدا وهو ليس محايدا في أي حال- هو أحد وجوه المثقف التكنوقراطي المرغوب فيه. هكذا يتحقق الإدماج والإقصاء في نفس الآن، إدماج النخبة وإقصاء أنوية المشروع المجتمعي.
وقبل التطرق ببعض التفصيل إلى خطورة التطبيق فإنه يمكننا الوقوف عند الإعلام ومدى علاقته بتطويرالخطاب النقدي، ولا يمكن لهذا التطوير أن يتحقق إلا إذا حصل الوعي بالأفق الثقافي للنقد، أي أن الخطاب النقدي لا ينبغي استبعاده عن الواقع الثقافي. ولا أحد يجادل في وقتنا الحاضر في أهمية الإعلام، فهو أحد الركائز القوية للديمقراطية هذا بالإضافة إلى علاقته الوطيدة بالمجتمع إذ هو الذي يجعله "شفافا"(4). وينقسم الإعلام إلى قسمين: إعلام الخبر وإعلام الرأي. فالإعلام الذي كشف عن تعامل جدي مع الثقافة -وإن في حدود- هو الإعلام المكتوب. والوجه الآخر للمشكل هو أن هذا الإعلام حزبي أي أنه مرتبطبالأحزاب السياسية، ثم إنه ليست كل الأحزاب استطاعت كسب مثقفين...المثقفون المغاربة، ورغم الزلزلة التي هزت الكثير من القيم، لا يزال البعض منهم ينفر من الكثير من الهيئات التي لا تتوفر على "شرعية تاريخية". ولقد دافعت بعض الجرائد عن الأدباء ونصوصهم مثلما عرفت بالكثيرين وتخرج من خيمتها بعض الشباب... إلا أن هذه الصحافة لم ترق بعد إلى مصاف المؤسسة وعمل المجموعة، ودون أن ننكر هنا نية بعض الأفراد وهم على رؤوس الأصابع. وإضافة إلى "الآلة الحزبية" التي تؤثر على حركة الأدب، هناك آلة من نوع آخر هي نتيجة طبيعية للأولى يسميها أدونيس " آلية العلاقة الشخصية" ويشرحها قائلا: "مازال النقد خاضعا لآلية العلاقة الشخصية، صداقة أو عداوة، سلبا أو إيجابا. "انصر أخاك ظالما أو مظلوما": هذا القانون القبلي هو نفسه لا يزال يوجه النقد السائد. ويعمق هذا القانون ويرسخه الوضع السياسي العربي وما يؤدي إليه من التزلف والمداهنة، طمعا أو خوفا. فهناك، مثلا، شعراء لا يسمح بالكتابة عنهم إلا إذا كانت شتيمة أو تجريحا"(5).
من الجلي إذن أن أزمة المثقف -في الخطاب النقدي الذي هو جزء من الواقع الثقافي- تعود إلى الدولة بما ترسمه للجامعة والثقافة، مثلما تعود إلى القوى التي تهيمن على الصحافة المكتوبة وتعتبر نفسها ديمقراطية. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المثقف ساهم بدوره في هذه الأزمة، لقد انبهر بالمناهج اللسانية والبنيوية والسيميائية، وساعدته على ذلك الجامعة والصحافة التي فتحت له صفحاتها. وكم من ناقد (ومفكر وشاعر) كان من قبل "إيديولوجيا" فانقلب إلى التبشير بالمناهج الجديدة، والواقع أن مثل هذه المناهج تضمن لأصحابها "وضعا مريحا". والانبهار بالمناهج هو الذي يفسر لنا في أحيان كثيرة "سطحية الفهم" و "عشوائية المنظور" في الكثير من الدراسات التي كان المقصود منها هو المنهج في حد ذاته، أما النص فلم يستخدم إلا كمطية للبرهنة على صحة المنهج. وفي فترة غير بعيدة توجه أكثر من دارس إلى النصوص الروائية المشرقية بشكل خاص - طالما أنها تسعف في تطبيق المناهج بمفاهيمها ورسوماتها الساحرة. إن العملية لا تدخل هنا في إطار ما يسميه الأستاذ محمد عابد الجابري ب"التبيئة" و "التأصيل الثقافي" للمفاهيم، وإنما هي تدخل في إطار "صمنية" المنهج التي تشرحها عبارة: (المنهج ولا شيء غير المنهج). وكأن المنهج هنا عبارة عن "ديانة"، ولقد قيل في فترة سابقة عن البنيوية بأنها "ديانة" وطريقة تعامل نقادنا معها وقتذاك تؤكد هذه الفكرة. والوجه الآخر لمشكل التطبيق هو انحسار الخطاب النقدي في الجامعة بين الطلاب والمريدين. ولهذا يبدو "الدور الكلاسيكي" للناقد أجدى بكثير من دور القراءات الموغلة في الجهاز النظري للمناهج وبشكل جاهز ومسبق، لكن شريطة أن يستند هذا الدور الكلاسيكي إلى ما كان يسميه محمد مندور ب" الإخلاص للأدب" الذي أصبحنا نفتقد إليه بسبب الجو السياسي الملوث الذي أفسد الثقافة والمعرفة.
وحتى الآن فإننا لا نقلل من أهمية المنهج / المناهج في خطابنا النقدي المغربي المعاصر بل إنه لا يمكن لأي خطاب (نقدي) أن لا يستند إلى منهج تضبطه مفاهيم متناسقة وإلا تحول إلى مجرد "إنشاء" ومن هنا لا يمكن الدخول في علاقة مع النص بقدر ما لا يمكنه التدخل فيه خصوصا وأنه تدخل غير حاسم، ثم إن مثل هذا التدخل تسمح به "المعرفة الإيديولوجية" التي تسند النصوص. لكن ما يمكن التأكيد عليه هناهو أنه في عمق المنهج ينبغي أن تكمن رؤية تعكس ذاك الناقد غير المشدود إلى - ما يسميه علي حرب- "طوبى التطبيق". المنهج ليس مجرد تطبيق فحسب كما يتضح في الكثير من الكتابات وخاصة الأبحاث الجامعية، هو تخليق وتشكيل وتأصيل وهو نظرة كامنة في عمق التحليل والتركيب. فالعلاقة التي يقيمها النقد مع المنهج علاقة معقدة الأطراف وليست علاقة سهلة، وغياب الوعي بالمستندات التصورية والأسس النظرية للمناهج يؤدي حتما إلى "كهربة" العلاقة الممكنة للخطاب النقدي مع الأدب. والمشكل كذلك ليس في الأكاديمية على إطلاقها، وإنما في فهم معين لها -الفهم الذي يعزلها عن التاريخ والمجتمع بعد أن يحصرها في أفق مجرد. إن المنهج لا معنى له إذا لم يستند إلى رؤية الناقد- المثقف الذي يعي جيدا الأسئلة التي يفرضها السياق التاريخي، وهي أسئلة كبرى وتستلزم المواجهة بمعناها العميق- المواجهة القائمة على هدأة العقل النقدي وقيم الخيال الرمزي. النقد الأدبي جزء من الصراع الثقافي بكل ما يعتمل بدواخله من رؤى ولغات وقناعات واختيارات. والأدب -في عمقه- سؤال ثقافي، غير أنه سؤال انسيابي ومخالف من ثم لأسئلة الأنماط الثقافية الأخرى. والناقد الذي لا يلتفت إلى الأفق الثقافي للأدب غالبا ما يساهم في تأثيث الفراغ التاريخي والثقافي... وهو ما يساهم في التمهيد لدعاوي الأصولية والاستقطاب وأسلمة الآداب والفنون، وهل من الغريب أن تكون بعض القراءات "المتأسلمة" قد بدأت تبحث عن موقع لها في خطابنا النقدي والثقافي.
حتى الآن تكون قد اتضحت لنا العلاقة القائمة بين الناقد والمثقف وأنها ليست علاقة وهمية أو شكلية. إن الناقد لا يمكنه الانفصال عن المثقف، بكلام آخر: إن المثقف يكمن في قلب الناقد لكن دون أن يغطي على نشاطه المتمثل تحديدا في دراسة الأدب وفحص نصوصه. وهذه العلاقة جديرة بأن تمنح هذا الأخير بعد التجذر والفاعلية وبالتالي وصل الأدب ب "نار الأسئلة" التي تلوي بالمرحلة التاريخية. فالناقد يمكنه المجابهة على الجبهة التي تعانق الأفق التاريخي للثقافة مثلما تؤكد حضوره الفاعل أمام أشكال التبرير والتأجيل والسلطة والإجماع... إننا لا نتصور الدور الذي يمكن للأدب الاضطلاع به من هذه الناحية لكن في حدود الوعي بأساسه المعرفي والجمالي، وهو أساس كفيل بأن يميزه عن سائر الحقول المعرفية الأخرى ذات الصلة بأحوال الفرد ومشكلات الناس والمجتمع. هذا عدا أننا لا نعدم الصلة التي يمكنها أن تصل الأدب بهذه الحقول بل إن هذه الصلة هي التي تقويه وتمنحه بعد الالتباس بالأشياء التي يحاول استيعابها. والأدب لا يمكنه أن يكتسي دلالاته العميقة إلا من خلال الإفادة من هذه الحقول لكن شريطة أن يجيد توظيفها وشريطة مراعاة الدلالة الأدبية ومن حيث هي دلالة مراوغة ومشرعة عل فعل القراءة التي تجدد الإبداع والإنسان في آن. والأدب ليس مجرد حذلقة لغوية ولعب بألفاظ وافتعال رؤى، هو على العكس من ذلك دفق لغوي وجرح مفردات واتساق تراكيب وطغيان حاسة أو حواس... وهو كذلك نسيج لغوي يخترق النص الثقافي العام وعلى نحو تتخلق بموجبه رؤى وعوالم تعري أقنعة العلائق الاجتماعية الموبوءة وتنطق المسكوت عنه وتكشف عن المنفلت القصي والمجنوء العفن. وهنا يظهر دور الناقد المثقف في تركيزه على كل ما يظل في حاجة إلى الكشف وفي تركيزه كذلك على النصوص التي تراوغ الحكام وأهل السلطة-السلطة التي لا وجود لها أحيانا وإنما يتم ابتكارها وإلصاقها بالشخوص أو "الكائنات الورقية" على حد تعبير الناقد الفرنسي رولان بارت. وكذلك السخرية التي تؤكد الحضور الفاعل للمبدع في قلب الحراك الاجتماعي، السخرية التي تدعمها التجربة الكتابية حيث خمرة المفردات تفعل فعلها في تدفق العبارات والتراكيب. هذا بالإضافة إلى خطاب الهامش حيث المتمردون على السلطة من المنسيين والمنبوذين والمتلصصين والخارجين على النظام، فهؤلاء بدورهم يساهمون في التاريخ. وهناك خطابات أخرى يستوعبها الإبداع مثل المكبوت والجسد والحلم واللاوعي... ولما نشير إلى هذه الخطابات - التي لا تزال غير حاضرة بقوة في خطابنا النقدي - نريد التأكيد على الأفق الثقافي للأدب ومن حيث هو أفق للحرية والمتخيل والمحتمل والإبداع.
وهنا تطرح مشكلة علاقة الناقد بالأديب، وهي مناسبة لكي نؤكد بأنه لا وجود لأسطورة الناقد أي ذاك الناقد الذي يصنع الأديب. إن النظرة الأولى في الخطاب النقدي العالمي جديرة بأن تتبث لنا أنه وراء أكثر من ناقد كبير كان هناك مبدع كبير... وفي هذا السياق حضر نجيب محفوظ الكثير من النقاد على الكتابة عن رواياته والأكثر من ذلك بمناهج وتصورات مختلفة. ومن هذه الناحية تطرح أسئلة كثيرة على الأدب المغربي الذي يكتب في وقتنا الحاضر، فالنصوص تتناول المواضيع بأشكال تبدو جاهزة هذا عدا الافتعال الذي يطال بعض النصوص... المطلوب هو نصوص تعكس تجارب حقيقية في دنيا الكتابة -اللغة، نصوص لا تتوقف عوالمها بمجرد الانتهاء من قراءتها وتقيم علاقات مع النص الثقافي العام حيث تصادم اللغات وتناسل الأسئلة وتوالد الرؤى وحيث العوالم التي تريد الارتقاء بالإنسان من الضرورة إلى الحرية من الصمت إلى الصدى ومن المسايرة إلى التمرد... خطابنا النقدي لا يزال مشغولا بتطبيق المناهج بل إن نصوصا روائية وظفت الخطابات "الميتاروائية" وكأنها بذلك ستقلب تربة الإبداع وبالتالي تنال رضى النقاد.
ختاما فالناقد لا يمكن أن يكتسي أهميته إلا من خلال تصور ثقافي وحداثي للأدب. وهناك علاقة وطيدة تصل ما بين الناقد والمثقف بل إن هذه العلاقة هي التي تمنح الخطاب النقدي بعد التجذر في الخطاب الثقافي بعامة، وبالتالي الإسهام في محاولة استجلاء الأسئلة الكبرى التي تستاثر بالمرحلة التاريخية... لكن دون التضحية بالأدب الذي هو في الأساس تجربة في /بالكتابة واللغة.
إحالات:
1 - عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 1992، ص 171.
2 - المرجع نفسه، ص 176
3 - انظر: ندوة "التفاعل الثقافي المشرق والمغرب العربي"/المستقبل العربي، العدد 108، فبراير 1988، ص 107.
4 - انظر: Gianni Vattimo: La société transparente. Trd. J.P. Pisetta. Desdée. Brouwer. 1990.
5 - أدونيس: فاتحة لنهايات القرن. دار العودة، بيروت 1980، ص 250.
================
يحيى بن الوليد/ ناقد مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.