وزارة العدل تعزز اللاّمركزية بتأسيس مديريات إقليمية لتحديث الإدارة القضائية        إسبانيا تعلن المناطق الأكثر تضررا بالفيضانات بمناطق "منكوبة"    وسط منافسة كبار الأندية الأوروبية… باريس سان جيرمان يتحرك لتأمين بقاء حكيمي    مقتل مغربيين في فيضانات إسبانيا    "أبحث عن أبي" عمل فني جديد لفرقة نادي الحسيمة للمسرح    ماء العينين: تجربة الإسلام السياسي بالمغرب ناجحة وحزب "العدالة والتنمية" أثبت أنه حالة وطنية    فيضانات إسبانيا.. الحكومة تستعد لإعلان المناطق المتضررة بشدة "مناطق منكوبة"    مصرع شاب جراء انقلاب سيارته بضواحي الحسيمة    خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    زنيبر يقدم التقرير الحقوقي الأممي    رئيس منتدى تشويسول إفريقيا للأعمال: المغرب فاعل رئيسي في تطوير الاستثمارات بإفريقيا    رويترز: قوات إسرائيلية تنزل في بلدة ساحلية لبنانية وتعتقل شخصا    المغرب يحبط 49 ألف محاولة للهجرة غير النظامية في ظرف 9 شهور    مسؤول سابق في منصة "تويتر" يهزم ماسك أمام القضاء    حزب الله يقصف الاستخبارات الإسرائيلية    أسعار السردين ترتفع من جديد بالأسواق المغربية    تكريم بسيدي قاسم يُسعد نجاة الوافي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هيئة: 110 مظاهرة ب 56 مدينة مغربية في جمعة "طوفان الأقصى" ال 56    نقابة إصلاح الإدارة تنضم لرافضي "مشروع قانون الإضراب"    مطار الناظور العروي: أزيد من 815 ألف مسافر عند متم شتنبر    بسبب غرامات الضمان الاجتماعي.. أرباب المقاهي والمطاعم يخرجون للاحتجاج    نيمار يغيب عن مباراتي البرازيل أمام فنزويلا وأوروغواي    الأمم المتحدة: الوضع بشمال غزة "كارثي" والجميع معرض لخطر الموت الوشيك    بهذه الطريقة سيتم القضاء على شغب الجماهير … حتى اللفظي منه    صدور أحكام بسجن المضاربين في الدقيق المدعم بالناظور    طنجة تستعد لاحتضان المنتدى الجهوي المدرسة-المقاولة    الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة تحصد 6 ميداليات في الجمنزياد العالمي المدرسي    فليك يضع شرطا لبيع أراوخو … فما رأي مسؤولي البارصا … !    نظرة على قوة هجوم برشلونة هذا الموسم    أنيس بلافريج يكتب: فلسطين.. الخط الفاصل بين النظامين العالميين القديم والجديد    هذه مستجدات إصلاح الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية الوطنية    الجمعية المغربية للنقل الطرقي عبر القارات تعلق إضرابها.. وتعبر عن شكرها للتضامن الكبير للنقابات والجمعيات المهنية وتدخلات عامل إقليم الفحص أنجرة    الأسبوع الوطني التاسع للماء..تسليط الضوء على تجربة المغرب الرائدة في التدبير المندمج للمياه بأبيدجان    "الشجرة التي تخفي الغابة..إلياس سلفاتي يعود لطنجة بمعرض يحاكي الطبيعة والحلم    بدون دبلوم .. الحكومة تعترف بمهارات غير المتعلمين وتقرر إدماجهم بسوق الشغل    الفيضانات تتسبب في إلغاء جائزة فالنسيا الكبرى للموتو جي بي    قمة متكافئة بين سطاد المغربي ويوسفية برشيد المنبعث    "تسريب وثائق حماس".. الكشف عن مشتبه به و"تورط" محتمل لنتيناهو    الحكومة تقترح 14 مليار درهم لتنزيل خارطة التشغيل ضمن مشروع قانون المالية    مناخ الأعمال في الصناعة يعتبر "عاديا" بالنسبة ل72% من المقاولات (بنك المغرب)    نُشطاء يربطون حل إشكالية "الحريك" بإنهاء الوضع الاستعماري لسبتة ومليلية    "البذلة السوداء" تغيب عن المحاكم.. التصعيد يشل الجلسات وصناديق الأداء    الأميرة للا حسناء تدشن بقطر الجناح المغربي "دار المغرب"    منْ كَازا لمَرْسَايْ ! (من رواية لم تبدأ ولم تكتمل)    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    الأشعري يناقش الأدب والتغيير في الدرس الافتتاحي لصالون النبوغ المغربي بطنجة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة المثقف في الخطاب النقدي المغربي المعاصر
نشر في البوصلة يوم 30 - 06 - 2010

من غير المبرر عدم التسليم ب "القفزة النوعية" التي قفزها الخطاب النقدي المغربي المعاصر، وهي القفزة التي بدأت تتضح معالمها منذ منتصف السبعينيات ولم تتوقف منذ تلك الفترة حتى الآن وطبعا بوتائر منهجية متسارعة... مما جعل هذا الخطاب يحتل مكانة لائقة به في خاصية النقد العربي المعاصر.
ومصدر هذه المكانة هو وعي النقاد المغاربة بمعطى القراءة وذلك في سياق أوسع هو سياق الإنتاج المعرفي والضبط المفهومي أثناء فحص النصوص ودراسة القضايا. وساعدهم على ذلك الانفتاح على الدراسات الأدبية الحديثة والعلوم الإنسانية بشكل عام. ثم إن "الوعي النصوصي" سيحل العديد من الإشكالات التي كثيرا ما أساءت إليها العلاقات التي يقيمها الداخل مع الخارج في النص الأدبي. والقراءة هنا فعل تأويلي يتداخل فيه المستوى المنهجي مع المستوى الفلسفي. بكلام آخر: القراءة ليست مجرد إعادة إنتاج، وإنما هي "تحويل" غير أن هذا "التحويل" ليس مطلقا أي لا تضبطه قواعد إذ عليه أن يستند إلى النص أو بالأدق "حقوق النص" بتعبير السيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو لكن مع الانفتاح على باقي المناهج الأخرى. فالقراءة تقف في الصدارة من لائحة المواضيع والقضايا التي تفرض نفسها على دارس الخطاب النقدي المغربي المعاصر. والملاحظ أنه لم تكتب كتابات كثيرة حول هذا الخطاب، وهذا سؤال كبير يظل مطروحا ليس على الخطاب النقدي فحسب وإنما على تاريخنا الثقافي بشكل عام. وكلمة "تاريخ" هنا ليست بمعناها النمطي التبسيطي، وإنما بمعناها الذي يمس آليات الفهم وإشكاليات التصور، وعلى كل حال فإن ما نتوفر عليه من كتابات متفرقة، وحوارات مع النقاد، يظل متفاوتا سواء من ناحية الطريقة المتبعة أو من ناحية الأسئلة التي تنوي هذه الكتابات طرحها على الخطاب النقدي. هذا بالإضافة إلى أن أغلب هذه الكتابات ذو طابع صحفي وجردي مما لا يجعلها ترقى إلى نقد النقد بمعناه الجذري والعميق الذي لا يقل من حيث الأهمية عن النقد ذاته. والملاحظ كذلك هو تمجيد البعض لخطابنا النقدي لأنه كشف - في نظرهم- عن منظور مغاير في دراسة الظاهرة الأدبية وبما تستلزمه هذه الدراسة من وعي نظري يسند فعل القراءة وهي تسعى في استخلاص البنى وتشخيص الأنساق. والحاصل كذلك وكأن الأمر من باب القانون الذي لا نحيد عنه - أن إيقاع التمجيد لا يتحقق إلا من خلال استحضار المشرق لمقارنة خطابنا مع خطابه، وبالتالي تأكيد الخطوات التي قطعها النقاد المغاربة على طريق النقد العربي. وفي تقديري فإن هذه المقارنة التي كثيرا ما تحضر بأشكال غير مباشرة - ليست دائما مفيدة، لأن كل طرف له خصوصيته المرتبطة بخطابه الثقافي بعامة.
إن الخطاب النقدي جزء من الواقع الثقافي، ومن هذا المنظور يمكن طرح أسئلة كثيرة على خطابنا النقدي، وفي موازاة ذلك ثمة مقدمات كثيرة يمكن الاستناد إليها في فحص هذه الأسئلة. ونقف هنا عند موضوع لا يتم الالتفات إليه عادة مع أن له أهمية بالغة في دراسة هذا الخطاب والكشف من ثم عن جوانب من مستنداته المعرفية والإيديولوجية. وهذا الموضوع هو: أزمة المثقف في الخطاب النقدي المغربي المعاصر كما جاء في العنوان. بكلام آخر: نريد أن ننظر إلى معطى القراءة، التي تكسب هذا الخطاب فرادة مخصوصة، في ضوء الناقد-المثقف. ومفردة أزمة تستلزم الحذر والاحتراس لأنها توحي بأن الناقد-المثقف كان له حضور في فترة سابقة فإذا به -ونظرا لتبدلات تاريخية وثقافية وهذا وارد - تراجع عن موقعه فوقع في أزمة. المسألة لا تحضر بهذا الشكل المبسط، ثم إن هذه الأزمة لها أكثر من وجه. ويظهر أن الأستاذ عبد الله العروي قد وضح اللبس الملازم لطرح "أزمة المثقف" فهو يقول - في مفتتح الفصل السابع المعنون ب "أزمة المثقف العربي" من كتابه "ثقافتنا في ضوء التاريخ" - بأن الموضوع "شائك" و"معقد"، ويضيف: "يمكن القول إن ظاهرة الأزمة لاتفارق المثقف في كل مجتمع وفي كل حقبة من الحقب بقدر ما تواكب نهضة تلك الأمة من كبوتها وركودها"(1). ونحن نقيس أزمة الناقد - المثقف هنا من ناحية "ترهين" الأسئلة الكبرى ومدى التفاعل أو الاستجابة للواقع. فما يؤخذ على خطابنا النقدي انتقالاته المفاجئة وتحولاته السريعة، فإذا أردنا الوقوف عند المناهج والقراءات التي سادت منذ منتصف السبعينات حتى الآن فسنلاحظ أنها كثيرة مثلما سنصل إلى نتيجة وهي أن هذه المناهج والقراءات تبدو مفروضة على واقعنا الثقافي وليست نابعة من داخله. ويمكن ربط هذه المسألة بما يسميه عبد الله العروي ب "التكوين المجرد" للمثقف، وهذا التكوين هو الذي يجعله - كما يشرح العروي - "يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق. هذا ما عبرت عنه بالإنتقائية التي لا تمثل ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه"(2) مثلما يمكن ربطها بالثقافة الفرنسية التي يقول عنها المفكر التونسي هشام جعيط بأنها بقيت متقدمة في الثقافة التقليدية من فلسفة وتاريخ وعلم اجتماع وأمور من هذا القبيل، وفي الثقافة والفكر الأنثروبولوجي الذي لا يؤهل كثيرا للتنظير(3).
والملاحظ كذلك على خطابنا النقدي أنه ظل، ولا يزال، مرتبطا بالأفراد ولم يرق بعد إلى الانتظام في جماعات كما نجد في البلدان الأوروبية خصوصا وأن هذه الجماعات تضمن أكثر تطوير الخطاب النقدي. وارتباط الخطاب النقدي بالأفراد هو الذي يفسر لنا تقلبات هذا الحطاب وانتقالاته السريعة بين النظريات والمناهج التي تظهر من حين لآخر في السوق المعرفية الأوروبية. وهذه المناهج تبهرنا وتسحرنا، ولذلك نعمل جاهدين لكي نمدها إلى ثقافتنا دون أن نلتفت إلى جذورها...وعمق المشكل ليس في الغرب في حد ذاته كما يمكن أن تعترض خطابات الهوية والتسييج الحضاري، ثم إن الغرب يكمن في قاع الفكر العربي كما قال عبد الله العروي، هذا بالإضافة إلى أنه لا أحد يستطيع في وقتنا الحاضر أن ينفلت من قبضة تأثيره، لقد كان هارون الرشيد في فترة سابقة يسد أبواب بغداد عن التأثيرات الأجنبية التي لا يرغب فيها أما الآن فهذه المسألة تدخل في دائرة المستحيل. وعمق المشكل -في إطار الحديث عن علاقة نقادنا مع السوق المعرفية الأوروبية- هو أن العلاقة تبدو كما لو أنها تتعلق بمزاجات أفراد محسوبين على "الطليعة" أو "النخبة" المتجذرة في المؤسسة الجامعية. وفي هذا الصدد فإنه يمكن التساؤل حول "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي يساهم أبناء "العالم الثالث" بنسبة كبيرة في صياغتها بالغرب. ويمكننا أن نتساءل كذلك: لماذا لم يكتب بعد التداول لهذه النظرية في جامعتنا؟ ومن دون شك فهذا سؤال عميق ومرتبط بمشكل التعليم في بلادنا وبمشكل المؤسسات الثقافية ومدى تشجيع المعرفة الإنسانية والانفتاح على العالم والتواصل مع الشعوب والثقافات والحضارات.
والفكرة الأساسية التي نحاول الدفاع عنها هنا هي أن الخطاب النقدي جزء من الواقع الثقافي. فالناقد لا بد أن يكمن فيه ذاك المثقف الذي يبلور مشروعا له صلة بالمجتمع، ولذلك يكون على مؤسسات المجتمع -ذات الصلة بالثقافة- أن تدعم هذا الخطاب. ومن هذه الناحية لا تزال أسئلة كثيرة تطرح حول هذه المؤسسات، ورغم ذلك يمكن الوقوف عند مؤسستين تؤثران في خطابنا النقدي وهما :الجامعة والإعلام. وفيما يتعلق بالجامعة فإن المرء يمكنه إبداء أكثر من تحفظ إزاءها، لأنها لم ترق بعد إلى أن تكون فضاء للاستنارة والعقلانية والحرية وفضاء لمد الثقافة بشرايين المجتمع. الجامعة عندنا تدخل المثقف في "اللعبة" مثلما تريد أن تجعل منه مجرد " وسيط" بين الدولة والمجتمع، وهذا الدور ليس مباشرا وواضحا وهو يفهم من خلال استراتيجية دولة المجتمع ثم إن هذه الدولة تفهم من ناحية الهاجس الأمني الذي يحاصر الجامعة والثقافة بشكل عام. ويمثل منتصف السبعينات بداية "المغرب الجديد" وغير المغرب الذي طالب به من طالب من قبل تحت التسمية نفسها. وفي هذه الفترة سيتم ترحيل الثقافة إلى رحاب الجامعة وبالتالي محاصرة هذه الأخيرة في إطار محاصرة كل مؤسسات المجتمع. وللإشارة فالجامعيون بدورهم ساهموا في هذا الترحيل كما أن الصحافة هي الأخرى رحبت بالمناهج الجديدة. وهذا الترحيل يدخل في إطار "الانقلاب الثقافي" و "التصالح مع الدولة" و "الإجماع الوطني" و"المسلسل الديمقراطي"...الخ. من الجلي إذن أن إرساء العمل الثقافي في الجامعة سيكون وفق هذه الاستراتيجية(السياسية) المحكمة للدولة. ثم إن هذه الأخيرة باحتلالها للثقافة والمثقفين ستكون قد احتلت -وهذا هو الأخطر- الرؤية الثقافية (المحتملة) للمجتمع كذلك وفي هذا السياق ستنشط القراءات التطبيقية والتعريف بالمناهج الأوروبية الجديدة ومحاولة ترجمة النظريات... وإذا ما نظرنا إلى التطبيق عن بعد فإنه يمكننا أن نخرج بنتيجة وهي أنه يخدم ثقافة "النظام" ويدعم ما هو سائد، وطبعا لا ينبغي أن نسوي هنا بين كل القراءات فالبعض منها له أسس تصورية ويكشف عن أفق تاريخي لكننا لا نزال في حاجة إلى وقت طويل لكي نصل هذا الأفق بقاع المجتمع الحواري لقاع الفكر. إن خطاب هذا الناقد لن تفهمه إلا النخبة إن لم نقل نخبة النخبة، ثم إن مثل هذا الناقد -بموقفه المعرفي الذي يبدو محايدا وهو ليس محايدا في أي حال- هو أحد وجوه المثقف التكنوقراطي المرغوب فيه. هكذا يتحقق الإدماج والإقصاء في نفس الآن، إدماج النخبة وإقصاء أنوية المشروع المجتمعي.
وقبل التطرق ببعض التفصيل إلى خطورة التطبيق فإنه يمكننا الوقوف عند الإعلام ومدى علاقته بتطويرالخطاب النقدي، ولا يمكن لهذا التطوير أن يتحقق إلا إذا حصل الوعي بالأفق الثقافي للنقد، أي أن الخطاب النقدي لا ينبغي استبعاده عن الواقع الثقافي. ولا أحد يجادل في وقتنا الحاضر في أهمية الإعلام، فهو أحد الركائز القوية للديمقراطية هذا بالإضافة إلى علاقته الوطيدة بالمجتمع إذ هو الذي يجعله "شفافا"(4). وينقسم الإعلام إلى قسمين: إعلام الخبر وإعلام الرأي. فالإعلام الذي كشف عن تعامل جدي مع الثقافة -وإن في حدود- هو الإعلام المكتوب. والوجه الآخر للمشكل هو أن هذا الإعلام حزبي أي أنه مرتبطبالأحزاب السياسية، ثم إنه ليست كل الأحزاب استطاعت كسب مثقفين...المثقفون المغاربة، ورغم الزلزلة التي هزت الكثير من القيم، لا يزال البعض منهم ينفر من الكثير من الهيئات التي لا تتوفر على "شرعية تاريخية". ولقد دافعت بعض الجرائد عن الأدباء ونصوصهم مثلما عرفت بالكثيرين وتخرج من خيمتها بعض الشباب... إلا أن هذه الصحافة لم ترق بعد إلى مصاف المؤسسة وعمل المجموعة، ودون أن ننكر هنا نية بعض الأفراد وهم على رؤوس الأصابع. وإضافة إلى "الآلة الحزبية" التي تؤثر على حركة الأدب، هناك آلة من نوع آخر هي نتيجة طبيعية للأولى يسميها أدونيس " آلية العلاقة الشخصية" ويشرحها قائلا: "مازال النقد خاضعا لآلية العلاقة الشخصية، صداقة أو عداوة، سلبا أو إيجابا. "انصر أخاك ظالما أو مظلوما": هذا القانون القبلي هو نفسه لا يزال يوجه النقد السائد. ويعمق هذا القانون ويرسخه الوضع السياسي العربي وما يؤدي إليه من التزلف والمداهنة، طمعا أو خوفا. فهناك، مثلا، شعراء لا يسمح بالكتابة عنهم إلا إذا كانت شتيمة أو تجريحا"(5).
من الجلي إذن أن أزمة المثقف -في الخطاب النقدي الذي هو جزء من الواقع الثقافي- تعود إلى الدولة بما ترسمه للجامعة والثقافة، مثلما تعود إلى القوى التي تهيمن على الصحافة المكتوبة وتعتبر نفسها ديمقراطية. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن المثقف ساهم بدوره في هذه الأزمة، لقد انبهر بالمناهج اللسانية والبنيوية والسيميائية، وساعدته على ذلك الجامعة والصحافة التي فتحت له صفحاتها. وكم من ناقد (ومفكر وشاعر) كان من قبل "إيديولوجيا" فانقلب إلى التبشير بالمناهج الجديدة، والواقع أن مثل هذه المناهج تضمن لأصحابها "وضعا مريحا". والانبهار بالمناهج هو الذي يفسر لنا في أحيان كثيرة "سطحية الفهم" و "عشوائية المنظور" في الكثير من الدراسات التي كان المقصود منها هو المنهج في حد ذاته، أما النص فلم يستخدم إلا كمطية للبرهنة على صحة المنهج. وفي فترة غير بعيدة توجه أكثر من دارس إلى النصوص الروائية المشرقية بشكل خاص - طالما أنها تسعف في تطبيق المناهج بمفاهيمها ورسوماتها الساحرة. إن العملية لا تدخل هنا في إطار ما يسميه الأستاذ محمد عابد الجابري ب"التبيئة" و "التأصيل الثقافي" للمفاهيم، وإنما هي تدخل في إطار "صمنية" المنهج التي تشرحها عبارة: (المنهج ولا شيء غير المنهج). وكأن المنهج هنا عبارة عن "ديانة"، ولقد قيل في فترة سابقة عن البنيوية بأنها "ديانة" وطريقة تعامل نقادنا معها وقتذاك تؤكد هذه الفكرة. والوجه الآخر لمشكل التطبيق هو انحسار الخطاب النقدي في الجامعة بين الطلاب والمريدين. ولهذا يبدو "الدور الكلاسيكي" للناقد أجدى بكثير من دور القراءات الموغلة في الجهاز النظري للمناهج وبشكل جاهز ومسبق، لكن شريطة أن يستند هذا الدور الكلاسيكي إلى ما كان يسميه محمد مندور ب" الإخلاص للأدب" الذي أصبحنا نفتقد إليه بسبب الجو السياسي الملوث الذي أفسد الثقافة والمعرفة.
وحتى الآن فإننا لا نقلل من أهمية المنهج / المناهج في خطابنا النقدي المغربي المعاصر بل إنه لا يمكن لأي خطاب (نقدي) أن لا يستند إلى منهج تضبطه مفاهيم متناسقة وإلا تحول إلى مجرد "إنشاء" ومن هنا لا يمكن الدخول في علاقة مع النص بقدر ما لا يمكنه التدخل فيه خصوصا وأنه تدخل غير حاسم، ثم إن مثل هذا التدخل تسمح به "المعرفة الإيديولوجية" التي تسند النصوص. لكن ما يمكن التأكيد عليه هناهو أنه في عمق المنهج ينبغي أن تكمن رؤية تعكس ذاك الناقد غير المشدود إلى - ما يسميه علي حرب- "طوبى التطبيق". المنهج ليس مجرد تطبيق فحسب كما يتضح في الكثير من الكتابات وخاصة الأبحاث الجامعية، هو تخليق وتشكيل وتأصيل وهو نظرة كامنة في عمق التحليل والتركيب. فالعلاقة التي يقيمها النقد مع المنهج علاقة معقدة الأطراف وليست علاقة سهلة، وغياب الوعي بالمستندات التصورية والأسس النظرية للمناهج يؤدي حتما إلى "كهربة" العلاقة الممكنة للخطاب النقدي مع الأدب. والمشكل كذلك ليس في الأكاديمية على إطلاقها، وإنما في فهم معين لها -الفهم الذي يعزلها عن التاريخ والمجتمع بعد أن يحصرها في أفق مجرد. إن المنهج لا معنى له إذا لم يستند إلى رؤية الناقد- المثقف الذي يعي جيدا الأسئلة التي يفرضها السياق التاريخي، وهي أسئلة كبرى وتستلزم المواجهة بمعناها العميق- المواجهة القائمة على هدأة العقل النقدي وقيم الخيال الرمزي. النقد الأدبي جزء من الصراع الثقافي بكل ما يعتمل بدواخله من رؤى ولغات وقناعات واختيارات. والأدب -في عمقه- سؤال ثقافي، غير أنه سؤال انسيابي ومخالف من ثم لأسئلة الأنماط الثقافية الأخرى. والناقد الذي لا يلتفت إلى الأفق الثقافي للأدب غالبا ما يساهم في تأثيث الفراغ التاريخي والثقافي... وهو ما يساهم في التمهيد لدعاوي الأصولية والاستقطاب وأسلمة الآداب والفنون، وهل من الغريب أن تكون بعض القراءات "المتأسلمة" قد بدأت تبحث عن موقع لها في خطابنا النقدي والثقافي.
حتى الآن تكون قد اتضحت لنا العلاقة القائمة بين الناقد والمثقف وأنها ليست علاقة وهمية أو شكلية. إن الناقد لا يمكنه الانفصال عن المثقف، بكلام آخر: إن المثقف يكمن في قلب الناقد لكن دون أن يغطي على نشاطه المتمثل تحديدا في دراسة الأدب وفحص نصوصه. وهذه العلاقة جديرة بأن تمنح هذا الأخير بعد التجذر والفاعلية وبالتالي وصل الأدب ب "نار الأسئلة" التي تلوي بالمرحلة التاريخية. فالناقد يمكنه المجابهة على الجبهة التي تعانق الأفق التاريخي للثقافة مثلما تؤكد حضوره الفاعل أمام أشكال التبرير والتأجيل والسلطة والإجماع... إننا لا نتصور الدور الذي يمكن للأدب الاضطلاع به من هذه الناحية لكن في حدود الوعي بأساسه المعرفي والجمالي، وهو أساس كفيل بأن يميزه عن سائر الحقول المعرفية الأخرى ذات الصلة بأحوال الفرد ومشكلات الناس والمجتمع. هذا عدا أننا لا نعدم الصلة التي يمكنها أن تصل الأدب بهذه الحقول بل إن هذه الصلة هي التي تقويه وتمنحه بعد الالتباس بالأشياء التي يحاول استيعابها. والأدب لا يمكنه أن يكتسي دلالاته العميقة إلا من خلال الإفادة من هذه الحقول لكن شريطة أن يجيد توظيفها وشريطة مراعاة الدلالة الأدبية ومن حيث هي دلالة مراوغة ومشرعة عل فعل القراءة التي تجدد الإبداع والإنسان في آن. والأدب ليس مجرد حذلقة لغوية ولعب بألفاظ وافتعال رؤى، هو على العكس من ذلك دفق لغوي وجرح مفردات واتساق تراكيب وطغيان حاسة أو حواس... وهو كذلك نسيج لغوي يخترق النص الثقافي العام وعلى نحو تتخلق بموجبه رؤى وعوالم تعري أقنعة العلائق الاجتماعية الموبوءة وتنطق المسكوت عنه وتكشف عن المنفلت القصي والمجنوء العفن. وهنا يظهر دور الناقد المثقف في تركيزه على كل ما يظل في حاجة إلى الكشف وفي تركيزه كذلك على النصوص التي تراوغ الحكام وأهل السلطة-السلطة التي لا وجود لها أحيانا وإنما يتم ابتكارها وإلصاقها بالشخوص أو "الكائنات الورقية" على حد تعبير الناقد الفرنسي رولان بارت. وكذلك السخرية التي تؤكد الحضور الفاعل للمبدع في قلب الحراك الاجتماعي، السخرية التي تدعمها التجربة الكتابية حيث خمرة المفردات تفعل فعلها في تدفق العبارات والتراكيب. هذا بالإضافة إلى خطاب الهامش حيث المتمردون على السلطة من المنسيين والمنبوذين والمتلصصين والخارجين على النظام، فهؤلاء بدورهم يساهمون في التاريخ. وهناك خطابات أخرى يستوعبها الإبداع مثل المكبوت والجسد والحلم واللاوعي... ولما نشير إلى هذه الخطابات - التي لا تزال غير حاضرة بقوة في خطابنا النقدي - نريد التأكيد على الأفق الثقافي للأدب ومن حيث هو أفق للحرية والمتخيل والمحتمل والإبداع.
وهنا تطرح مشكلة علاقة الناقد بالأديب، وهي مناسبة لكي نؤكد بأنه لا وجود لأسطورة الناقد أي ذاك الناقد الذي يصنع الأديب. إن النظرة الأولى في الخطاب النقدي العالمي جديرة بأن تتبث لنا أنه وراء أكثر من ناقد كبير كان هناك مبدع كبير... وفي هذا السياق حضر نجيب محفوظ الكثير من النقاد على الكتابة عن رواياته والأكثر من ذلك بمناهج وتصورات مختلفة. ومن هذه الناحية تطرح أسئلة كثيرة على الأدب المغربي الذي يكتب في وقتنا الحاضر، فالنصوص تتناول المواضيع بأشكال تبدو جاهزة هذا عدا الافتعال الذي يطال بعض النصوص... المطلوب هو نصوص تعكس تجارب حقيقية في دنيا الكتابة -اللغة، نصوص لا تتوقف عوالمها بمجرد الانتهاء من قراءتها وتقيم علاقات مع النص الثقافي العام حيث تصادم اللغات وتناسل الأسئلة وتوالد الرؤى وحيث العوالم التي تريد الارتقاء بالإنسان من الضرورة إلى الحرية من الصمت إلى الصدى ومن المسايرة إلى التمرد... خطابنا النقدي لا يزال مشغولا بتطبيق المناهج بل إن نصوصا روائية وظفت الخطابات "الميتاروائية" وكأنها بذلك ستقلب تربة الإبداع وبالتالي تنال رضى النقاد.
ختاما فالناقد لا يمكن أن يكتسي أهميته إلا من خلال تصور ثقافي وحداثي للأدب. وهناك علاقة وطيدة تصل ما بين الناقد والمثقف بل إن هذه العلاقة هي التي تمنح الخطاب النقدي بعد التجذر في الخطاب الثقافي بعامة، وبالتالي الإسهام في محاولة استجلاء الأسئلة الكبرى التي تستاثر بالمرحلة التاريخية... لكن دون التضحية بالأدب الذي هو في الأساس تجربة في /بالكتابة واللغة.
إحالات:
1 - عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 1992، ص 171.
2 - المرجع نفسه، ص 176
3 - انظر: ندوة "التفاعل الثقافي المشرق والمغرب العربي"/المستقبل العربي، العدد 108، فبراير 1988، ص 107.
4 - انظر: Gianni Vattimo: La société transparente. Trd. J.P. Pisetta. Desdée. Brouwer. 1990.
5 - أدونيس: فاتحة لنهايات القرن. دار العودة، بيروت 1980، ص 250.
================
يحيى بن الوليد/ ناقد مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.