إنّ بمقتضى الطّبيعةِ البشريةِ المبنيةِ على البحثِ عن التكاملِ لتجاوزِ الضّعفِ والدّونيةِ والنّقص، والانزياحِ عن الانكفاءِ على الذاتِ والانغلاقِ عليها، ونبذ الخُصوصية والفردية (Individualité )، ونُشدان الكونية والتعدّدية (Pluralité )، فإنّه لا نعدم أمّة من الأمم، أو حضارة من الحضارات، قد تنصّلت عن التّداخل والتّفاعل مع أمم أو حضارات أخرى، أو انمرقت عن التّعالق والحوار، أو انفكّت عن التّلاقح والاحتكاك. والتّداخلُ الثقافيُّ (Transculturation ) أو كما يحلو للبعضِ بنعتهِ بالتّبادل الثقافيِّ، مفهوم يحيل على مفهوم تداخلِ الحضاراتِ (Interpénétration des civilisations ). فمبدأ المثاقفةِ ((Acculturation بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، مبدأ ضروريٌ للشّعوب، إلتماساً للتّداخلِ العلاقاتي (Interrelation ) فيما بينهما، وتكريسا لجدلية التّأثير والتّأثر، وبحثا عن اكتشاف نواقصِ الذاتِ وعيوبِ الأنا، ورغبة في معرفة الآخر لتعرية أشكال وعيه وأنماط فكره. وعليه، تُمسي المثاقفة مجموعَ الظّواهر الناجمة عن احتكاكٍ مستمرٍّ وتداخلٍ مباشر، بين مجموعاتِ أفرادٍ لها انتماءاتٌ ثقافية متمايزة، ليغدو هذا الاحتكاكُ والتّداخلُ تعلّتين في الانعطافِ عن الأنماطِ الثقافيةِ الأوّلية، أو الاستعاضةِ عنها بأنماط أخرى مكتسبة. واستثمارُ المثاقفة بين كيانين متغايرين بمنهجٍ راشدٍ حكيم، خيارٌ لا مندوحة عنه؛ لأنَّ بمقتضى هذا الرّشد والحكمة، يتمّ الحفاظُ عن الهُوية والخصوصية القومية والتّفرّد الحضاري، وكلّ استثمارٍ لهذه المثاقفةِ بطرقٍ تنمرقُ عن السّبيل القويم، من قبيلِ استنساخِ الثقافةِ المستعارةِ والتَّماهي فيها، لا يغدو سوى مسخٍ للهُوية وانفصامٍ للذاتِ وطمسٍ للخصوصية، فكلُّ كيان حضاريٍّ عجزَ عن الذود عن هُويته وخُصوصيته، كيانٌ آيلٌ للانكماش وقابلٌ للذوبانِ في محلولِ حضارةٍ غريبة عنه، وكلُّ انسياقٍ كلِّي للمستعير من دون تفكيرٍ أو وعي، من تمامِ تسليمه بعصمة المستعار منه والافتتان بكماليته، يُوقِع في حَمْأة الاستلابِ الثقافي (Déculturation ). وما يسكننا في هذا المقام ويشغلنا هو همّ التأريخِ للمثاقفةِ التي شهدها المغربُ مع الآخر الغربي، فبعد هزيمةِ الجيشِ المغربيِّ بموقعةِ إسلي أمامَ الجيشِ الفرنسي عام (1844 )، وتخلّفه في حرب تطوان أمامَ الجيش الإسباني عام (1860 )، أميط اللثامُ عن ضعفِ الأنظمةِ المغربيةِ وتأخّرها في مواجهة المدّ الأجنبي. وقد كان للهزيمتين وقعٌ عظيمٌ، أو بتعبير المؤرّخ المغربي أحمد بن خالد النّاصري (1835 -1897 )، مصيبة عظيمة وفجيعة كبيرة، لم تفجع الدّولة الشّريفة بمثلها ، فأزيلَ حجابُ الهيبة عنها، وكشفت للآخر الغربيِّ عن مدى وهنِ أجهزتها الدّفاعية، وتأخّر أساليبها القتالية، وفقر عتادها الحربي. ولتجاوز المغرب لعثرات التأخّر والضّعف، وتخطّيه لانتكاسات الهزيمة والتخلّف، وفكاكه من أسرِ وعيٍ زائفٍ بالتّفوّقِ ظلّ، لقرونٍ عدّة، يتغذّى من مصل أمجاد الماضي ويتغنّى بانتصاراته، فكّر مثقفوه في الإجابة عن تعلاّت السّقوط، وانشغلوا بصياغة مشروع الإصلاح والتّحديث، فانقشعت شرارة الذهنية الإصلاحية التي رامت تحديثَ النّسيجِ الاجتماعي وإصلاحه، ودعت إلى الانفتاح على الآخر والاقتراب من أشكال فكره والاحتكاك بأنماط وعيه . منذ ذلك الحين إلى الآن، استمرَّ عاملُ التثاقف بين الثقافتين سنواتٍ سمانا، ودخل المغربُ في علاقاتٍ تثاقفية مع الغرب، عمّت مجالاتٍ مختلفةً وميادينَ متعدّدة. وبما أنّ للمثاقفة روافد كثيرة وامتدادات عديدة، فإنّ ما يهمّنا في هذا المقام من أوجه المثاقفة هو المثاقفة النّقدية التي شهدها الخطابُ النقديُّ الأدبيُّ المغربيُّ المعاصرُ مع الغرب، ابتداءً مع مطلع العقد السّابع من القرن الآفل. وقبل تحديدِ ملامح هذه المرحلة، لا ضير إن أشرنا إلى أنّه لم يكنْ متاحا الحديثُ، قبل السّبعينيات إن شئنا التّحديد، عن خطابٍ نقديٍّ بالمغرب ثابتِ المداميكِ وبارز الصُّوى، والحالُ أنّه في هذه الفترة، كان نقدُنا المغربيُّ يتلمّس خطاه للوجود ويتحسّسها، ميّالا إلى الرّدود الانطباعية، وجانحا نحو الملاحظات التّقييمية التي كان يشغلها همّ صناعة التّقريض والتّحلية، ويسكنها هوسُ تصيّد سقطةٍ نحويةٍ لغويةٍ أو عثرةٍ بلاغيةٍ عروضيةٍ في النّصِّ المنقود، لتقيل عثارَها وتقيم أودَها وتجبر كسرَها. في ظلّ هذا الوضعِ المفارق لتكوّن النّقد الأدبيِّ ونشأته بالمغرب، شهد المشهدُ النَّقديُّ المغربيُّ المعاصرُ، مع عشية الستّينيات وبزوغ فجر السّبعينيات، تحوّلاتٍ في الرّؤية والمنهج، وفقا للتقلّبات التي عرفها الميدانُ السّياسيُّ والاقتصاديُّ والاجتماعيُّ والثقافيُّ ، ولم تَبرُز تطوّراتُ مسيرة النّقد المغربي إلا كأحدِ التّجلّياتِ التي جسّدت هذه التّقلّبات والتّحولات. وقد تمثلت التّطورات التي عرفتها مسيرة هذا النّقد في التّراكم النّقديِّ الذي كان يمتح من الإشكالات النّظرية والإبستمولوجية ويفرز أسئلته المتميّزة لوعيه المنهجي المزاوج بين الاشتغال التّنظيري والمقاربات التّحليلية والانفتاح على تخصيب الأفق وتحديث الأدوات . منذ ذلك التّاريخ، شهدت سماءُ المشهدِ النّقدي المغربي برقا تلاه هزيمُ رعدٍ أذنَ لهطول غيثٍ عظيمٍ من المناهجِ النّقديةِ الغربيةِ المستوردة، وغدا النَّصُّ الأدبيُّ المغربيُّ ورشة لتجريب المناهجِ واختبارِ نماذج التّحليل. وما لا يتناطح عليه أحدٌ، هو أنَّ خطابَنا النّقدي لم يعش مثاقفة نقدية رشيدة وحكيمة، وإنّما عاش حتمية استقبال جاهزية المعطى النّقدي الغربي، والاقتراض منها والانبهار بها والتّبعية لها، فتسابق نقادُنا نحو تجريبها من خلال المحاكاة الصمّاء، والمباهاة بمسايرة أحدثِ ومضاتِ العصر وصيحاته وتقليعاته، دون أيِّ استيعابٍ ناضجٍ للاختلافاتِ الثقافية، أو إدراكٍ واعٍ بالخصوصيات القومية. على ضوء هذا الاحتطابِ الكثيف وفوضى الانفتاح عن المناهج الغربية، كان المنهجُ الواقعي الجدلي الخيارَ المنهجي الأول الذي تحكَّم في كتابات النُّقاد المغاربة، وإنْ بأقدار متفاوتةٍ ومستوياتٍ متمايزة ، حيث هيمن حضورُه الكثيفُ على المقاربات النّقدية المغربية مقارنة مع المناهج الأخرى. وقد تمّ تبريرُ حماس النُّقاد المغاربة في انتقاء هذا النّوع من دون المناهج الأخرى، بسعيهم نحو الكشف عن امتدادات الواقع في الخطاب الأدبيِّ عبر التركيز في التّحليل على إبراز الرّؤية للعالم، دونما إغفالٍ لمكوناتِ النصِّ الأسلوبية والبنيوية والدّلالية. وتُمثل البنيوية التّكوينية [...] وجماليات لوكاش من جانب، وأعمال النقاد الواقعيين الروس ممن تأثروا سلبا بملاحظات ماركس وانجلز ولينين وتأملاتهم حول الأدب [من جانب آخر]، الإطارَ الفكريَّ والمفهوميَّ لهذه المقارباتِ بالمغرب . ويعود سببُ هيمنة هذا الحضور، إلى أنَّ أغلبَ المشتغلين في الحقل الثقافي عموما، والحقل الأدبي والنقدي على وجه الخصوص، كانت لهم انتماءات حزبية يسارية اشتراكية، وبذلك وقّع المنهجُ الواقعي الاجتماعي حضورَه المتميِّز في الحقل الثقافي المعاصر عامّة، والخطاب النّقدي خاصّة. من منطلق أنّه استجاب لشرط "التغيير" بوصفه إستراتيجية إيديولوجية وسياسية تتبناها الثقافة . في ظلِّ هذا الحضور المهيمن للمنهج الواقعي الجدلي، حظي المنهجُ البنيوي التّكويني بحضور مهمّ في المشهد النّقدي المغربي المعاصر، وعرف انتشارا وقبولا لدى عدد مهمٍّ من النقّاد المغاربة. ويرجع سببُ تسابق هؤلاء النّقاد لتجريب هذا المنهج، إلى هيمنة الاتجاهات اليسارية في المغرب، وعلى وجه الخصوصِ الاتجاه الماركسي، وبذلك استجابتِ البنيوية التّكوينية لرغبةٍ مزدوجة لدى طائفة من المثقفين المغاربة: الارتباطُ بالمنهج الماركسي باعتباره وسيلة من وسائلِ تحقيقِ الاشتراكيةِ في المجالِ الاقتصاديِّ والسّياسيِّ والاجتماعيِّ، وتبنِّي البنيوية، في مفهومها الماركسي، أداة لدراسة الأعمال الفكرية والأدبية . كما يؤول التّوجه شطر استدعاء المنهج البنيوي التكويني إلى أنّ البنيوية التّكوينية منهج يجمع الشتتين، التَّوجه الشّكلاني والتّوجّه الماركسي، على نحوٍ يرضي الرّغبة في الإخلاص للنّواحي الشّكلية في دراسة الأدب مع عدم التخلّي عن القيم والالتزامات الواقعية، اليسارية غالبا، التي لعبت دورا رئيسا في تشكيل التّجربة السّياسية الثقافية والاجتماعية في الوطن العربي . إنّ أغلبَ الدّراساتِ النقديةِ التي تهاطلت على السَّاحة النّقدية المغربية، قد وظفت المنهجَ البنيوي التّكويني توظيفا قصريا دون وعي بالسّياق التّاريخي والسّوسيو-ثقافي الذي انبثق فيه هذا المنهج ونشأ وتطوّر، وبدون مراعاة الخصوصيات التي يتفرّد بها النصُّ المغربيُّ عن هذا المنهج الغربيِّ، وتعاملتْ معه كأنّه مجرّد أدواتٍ إجرائيةٍ منتزعَةٍ من مرجعياتها التَّاريخية وخلفياتها الفلسفية. لذلك، تبدَّى تعاملُ نقادِنا مع المنهج البنيوي التكويني كما لو أنه ثقافة قائمة الذات، وهم على استعداد لإسقاطها على أيِّ نصٍّ كيفما كان، حتى أنَّ المرءَ ليتساءل بعد قراءةِ هذا النَّوع من الدِّراسات، عمَّا إذا كان أصحابُها قد قرأوا فعلا النُّصوصَ المدروسة . وقد يظنّنا البعضُ من هذا الحديث أنّنا نتحزَّبُ ضدَّ استعارة مناهجِ الأغيارِ، ونتطرَّف لإغلاقِ ممرّات التّلاقح ومسارب التثاقف، وبظنّهم هذا فهم مخطئون، لأنّه ليس في نية حديثنا هذا، الدِّعاية لانفتاحِ على هذه المناهجِ وقبولِها أو الانغلاقِ عليها ورفضِها، لأنَّ قناعتَنا تنطلقُ من تصوُّرٍ يرى أنَّ الرّفض المطلقَ والقبولَ المطلقَ دليلٌ على تيهٍ منهجيٍّ ومثاقفةٍ بلا وعي، إذ لا الرَّفضُ بحدِّ ذاته قادرٌ على إضعاف حضورِ تلكَ المناهجِ في سياقاتٍ حضاريةٍ غير سياقاتها، ولا مجرَّدُ القبولِ ممكنا لمنح تلك المناهج صفة الحياد الذي يمكِّنها من الانسجامِ الكاملِ داخل أطرٍ ثقافية غير أطرها الأصلية . والإشكالية هنا ليست في مدى التّحمّس لاستقطاب المنهج وقبوله أو الخروج عليه ورفضه، لأنَّ المتشيِّع لاستعارة المنهج، بدعوى الليبرالية والتقدّمية، حتما سيقودُه تشيُّعُه إلى السُّقوط في التّبعية والاستلاب، والمنادي بدرءِ التّغريب وصدِّ الأبواب أكيدٌ سيأخذه جفاءُه نحو الانغلاقِ على الذاتِ والانكفاءِ عليها. فالإشكالية هنا تكمُن أساسا في مدى قدرة المستعيرِ على استعارة المنهجِ بطرقٍ راشدة، وأن يسعى إلى استيعاب مفاهيمه، ويتمثل أدبياتِه في تكاملها وشموليتها كمنظومةٍ متكاملةٍ وكجهازٍ مفاهيمي تامّ، لأنّ قوتَه الإجرائية وفعاليته النّقدية تكمُن في تراتبية مقولاته وفي تصوّره العامّ لمقاربة الإبداعات، أمّا إذا اقتصرنا على استعارةِ بعض المصطلحات أحيانا وعلى عدم التقيّد بمدلولها فوق ذلك، فهذا من شأنه أنْ يفقد المنهجَ تماسكه وصلاحيته، وربّما لا تعود لنا به حاجة في مثل هذه الأحوال . إنَّ أزمة النَّقد المغربي المعاصر تتمثل، بالأساس، في التَّهافت اللاّمشروط على المناهج الغربية، وأنَّ نقدَنا هذا لا يزال عندنا، للأسفِ، في مرحلة التّشتّت والتّجزئة وإنْ حاول بعضُ رواده إظهارَ ألوانٍ من سرابِ المهاراتِ التي تحمل القارئ على الاعتقادِ بأنّهم يمتلكون ثقافة واسعة تخوّل لهم فرضَ نظريةٍ أو مناهج متميِّزة، في حين أنّهم لا يعرفون سوى قشور الأمور، ولا يردّدون سوى بقايا المذاهب النّقدية الأوروبية التي لا زالت تختلط لديهم . ولتخطّي هذه الأزمة التي حشر مشهدُنا النّقدي أنفه فيها، يستحضر عبد العالي بوطيب (1948 -...) إجراءات ثلاثا يرومُ من خلالها إبرازَ التّعامل المنهجيِّ مع المنهج الأجنبي واستثمار إيجابياته: أ- يتجلَّى أوّل هذه المبادئ، في ضرورة فهمِ المنهج في شموليته وتكامله. فالمنهجُ، في رأيه، يتضمَّن جانبين: جانبٌ "مرئي ظاهر"، يتمثل في وجود أدواتٍ إجرائية تضمن إدراكَ الحقيقة والتّدليل عليها. وجانبٌ "لامرئي خفي"، يتمثل في الرّؤية المعرفية والخلفية النّظرية المؤطّرة للمنهج، وهذا "الجانبُ الظاهرُ للمنهج، ليس سوى التّرجمة العلمية والإجرائية، أو بمعنى أدقّ، الإجابة الصّريحة والعلنية على الأسئلة الضّمنية التي يطرحها قسمُه الخفيُّ اللاّمرئي . ب- وينحصر ثاني هذه المبادئ في قيمة المنهج وكفايته الإجرائية. فالمنهجُ، في نظره، يعدُّ أداة يتوسّل بها الباحثُ لتحقيق الأهداف المحدَّدة والمسطَّرة سلفا للبحثِ المزمع إنجازه، ومن ثمَّ فإنَّ قيمتَه الحقيقية، لا تقاسُ إلاّ بما يختزنه من هذه الطّاقة الإجرائية (...) إنْ نحن أردنا، فعلا، تطويرَ خطابِنا النّقديِّ، وتحريرَه من كلِّ ما يُعيقُ مسيرتَه وتقدُّمَه . ت- أما المبدأ الثالث، فقد حدّده في قضية المنهج والإشكال الحضاري العامِّ، موضِّحا أنَّ انقسامَ النُّقاد إلى تيارين متقابلين: تيارٌ يتشيَّع لاقتباسِ المنهجِ دون اهتمامٍ بالخلفياتِ النَّظريةِ أو اكتراث بالمرجعيات المعرفية التي تؤطِّره، وتيارٌ ينادي باقتباسِ المنهج مع مراعاة خصوصياته والالتزام بشروطٍ تضبط هذا الاقتباسَ وتوضِّح حدودَه، مشيرا إلى أنَّ هذا الانقسامَ بين هذين التِّيارين، يعدُّ مظهرا من مظاهر هذا الإشكالِ المستعصي على الفكرِ العربيِِّ عموما، والمغربيِّ على وجه التَّخصيص . ويرى عباس الجراري (1937-...) في كتابه "خطاب المنهج" ، أنَّه لحلِّ مغالقِ هذه الإشكالية المستعصية، يتعيَّن فهمُ العلاقةِ القائمةِ بين الجانبِ المرئي في المنهجِ والجانبِ اللامرئي فيه، منبِّها إلى تمثل المنهج في شموليته وتكامله، وعدمِ الاطمئنانِ لجانبٍ على حسابِ الجانبِ الآخر، فقد شاع تصوُّر المنهج على أنّه مجرّد خطّة تتضمّن مقاييس وقواعد مضبوطة، تضمنُ الوصولَ إلى الحقيقة وتقديم الدليل عليها، وهذه القواعدُ والمقاييسُ مجرَّد أدوات إجرائية، وهي في نظرنا لا تمثل إلا جانبًا واحدًا من المنهج، أقترح تسميته بالجانبِ المرئي في المنهج، لكن هناك جانبٌ آخرُ غيْر مرئي باعتبار المنهج، أوَّلا وقبل كلِّ شيء وعيا، ينطلق من مفاهيم ومقولات وأحاسيس ذاتية، وتنتجُ عنه رُؤية ويتولَّد تصوّرٌ وتمثلٌ للهدفِ من المعرفة . كما نجدُ نجيب العوفي (1948 -...) يؤكِّد في دراسته "ظواهر نصية" ومقاله "عن الغزو المنهجي في مجال النقد الأدبي المغربي: المنهج بين الاستيعاب والاستلاب" ، إلى وجوب التَّعامل مع المنهج في شموليته، حيث إنَّ المنهج إضافة إلى كونه قواعدٌ مؤكّدة تقي من الزّلل وتقود الباحثَ إلى سواء السَّبيل، هو أيضا، وبالضّرورة، منظومة من الأدوات والمفاهيم والمصطلحات، بها تتقعّد القواعدُ وتتَّضح المفاوزُ والمسالكُ. كما أنّه أيضا، وبالضّرورة، محكومٌ بفضاءٍ نظري وإبستمي، يشكِّله رحمُه ومجالُه الحيوي . وعليه، فلا يكفي، في رأيه، فهمُ مفاهيم المنهجِ واستيعاب أدواته الإجرائية وتمثل أدبياته، ولا يكفي، أيضا، استظهار ألفبائه عن ظهرِ قلب، واستحضارِ مصطلحاتهِ وأدواتهِ وبرنامج عملِه، بل لابدّ أوّلاً من استيعاب روحِه ومضمونِه ومصطلحِه. ولا بدَّ ثانيا من معرفةِ السِّياق التَّصوُّري أو النّظري الذي يتنزّل فيه. إذ لا يمكن فصلُ المنهجِ هنا عن النظرية. ولابد ثالثا من الاقتناعِ الذاتيِّ بصلاحية المنهجِ وملاءمتهِ لهذا النصِّ أو ذاك، مادام النصُّ هو الذي يقترح منهجَه وليس المنهجَ هو الذي يقترح نصَّه . بعد إيراد العوفي لهذه الشُّروط الثلاثة، يورد شرطا رابعا، يتمثل في وجوب إعادةِ إنتاجِ المنهج وليس إعادة استهلاكه، أي لابدَّ من تكييفه وتطويعه و"تبيئته" إجراءً وممارسة، مع الحفاظِ على روحِه ومبادئِه (...) حتى يغتني المنهجُ ويتجدَّد ويكتسب نسْغا حراريا . ويرى العوفي أنَّ هذه الخطوات المشروطة، هي التي تقي من السُّقوط في شركِ "المنهاجوية" التي هي الارتهانُ غيرُ المشروط للمنهجِ على حسابِ المتن الأدبي المنقود، والمنهاجوية تؤدِّي، ضرورة، إلى توثينِ المنهج وفيتيشيته، لتتمَّ الاستعاضة من خلالها عن المبدأ المعروف (النصُّ ولا شيءَ غيرُ النصّ) بمبدأ ناسخٍ ومضادٍّ (المنهجُ ولا شيءَ غيرُ المنهج) (...) والنَّتيجة الحتمية التي تُفضي إليها المنهاجوية هي اغتراب النَّصِّ، والمنهجِ، والنَّاقد، والمتلقِّي (...) ومن ثمَّ يفقُد المنهجُ مصداقيته القرائية، وتنعدمُ أو تضعُف وشائجُ التَّواصل والحوار بين الذات، كما تنعدم أو تضعف بالتَّالي مع الآخر/المرجع . وإذا كان جلُّ الدَّارسين والمهتمّين بالمشهد النّقديِّ المغربيِّ المعاصر، يتَّفقون على أنَّ خطابَنا النّقديَّ يعيش إخفاقاتٍ وتعثراتٍ على مستوى المنهج، فإنَّهم يلتقون ويتقاطعون في الدَّعوة إلى وجوب التّأصيل لهذا المنهج وتبيئته من أجل التّحرر من الأزمة المنهجية، والانعتاق من المأزق التنظيري اللذين يتخبَّط فيهما نقدُنا، ليبقى هذا النَّقدُ في الأوَّل والأخير ممارسة مسؤولة تتطلَّب الحرصَ على انتقاء المنهج والنَّظرية، كما تتطلَّب الموضوعية والدقَّة في استعمال المفاهيم والمصطلحات التي ينبغي وضعُها في سياقِها الثقافيِّ. واستيعابُ المناهج لا يقتصر على الأدواتِ الإجرائية فقط (...) بل يتجاوز ذلكَ إلى استيعابِ الخلفية النَّظرية والمعرفية المؤطِّرة لهذا المنهج . ولعلّ مراعاة خصوصية النصِّ الأدبيِّ من جهةٍ، وخصوصية المنهجِ النَّقدي من جهةٍ أخرى، وضرورة الاقتناعِِ بصلاحية المنهجِ وملاءمتهِ للنصِّ أو عدمِها، والوعيِ بالسّياق الإبستمولوجيِّ والفلسفيِّ والتَّاريخيِّ الذي نشأ فيه كلٌّ منهما، وإدراك أصولِ المنهج وتوابثه، واستيعابِ أدبياته وإدراكها في تكاملها، وتمثلها في شموليتها، وتطبيقها تطبيقا يبتعدُ عن الآلية حتى لا يسقط في التَّحريف والتَّشويه، ويبتعد عن التّلفيقية حتّى لا تقوده نحو الغموضِ والالتباس، يعدُّ ذلك، كلُّه، شرطاً أساسًا في كلِّ ممارسة نقدية مسؤولة وجادَّة، لذلك، فحضورُ هذا الوعي أو غيابُه هو الذي ترتهنُ به قيمة الممارسة النقدية وفعاليتها، أو يرتبط به إخفاقها وفشلها.