لا يختلف اثنان على أن المهرجانات الغنائية التي يعرفها المغرب طيلة السنة، بلغت من الكثرة ما فاق أي نشاط ثقافي آخر، و يشتد تنظيم هذه المهرجانات مع نهاية فصل الربيع و دخول فصل الصيف، و بقدر كثرة هذه المهرجانات كثرت المواقف والاتجاهات التقيمية ؛ بين معارض و مؤيد وموفق أو ملفق ، فتعرف الساحة الإعلامية نقاش صاخبا و تراشقا إعلاميا بين هذا و ذاك و يمكن أن نصنف هذه المواقف إلى ما يلي: "" - موقف الإسلاميين: وهذا الموقف يتوزع إلى موقفين، موقف التجاهل الذي تنهجه جماعة العدل والإحسان، وموقف حركة التوحيد والإصلاح مع حزب العدالة والتنمية الذي يغلب عليه التنديد والشجب مع محاولة الحزب مساءلة السياسة العمومية في الشأن الثقافي من خلال البرلمان. - موقف الحداثيين : هذا الموقف يختلط فيه السياسي بالإعلامي بالثقافي، فتجد مجموعة من المجلات والصحف تنافح بقوة عن هذه المهرجانات - منها نيشان و تيل كيل والأحداث المغربية والجريدة الأولى وبعض المجلات النسائية - محاولة إظهار تشبتها بقيم الحرية والديمقراطية ، وفي نفس الوقت تعمل بعض الأصوات منها على مساءلة الميزانيات المخصصة لهذه المهرجانات. بهذه الإشارات المقتضبة أخلص إلى أن الحداثيين و الإسلاميين يتفقون و يختلفون ، يتفقون في مساءلة السياسة العمومية في الشأن الثقافي ، ومراقبة الميزانيات المبالغ فيها لتنظيم هذه المهرجانات ، ويختلفون في المضمون القيمي و الثقافي الذي تروج له ، فيشتد النقاش و الجدل ، ولا يكاد يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فتتسلل الحسابات الانتخابية و السياسية بالأساس إلى هذا النقاش ، فينسحب المغني و المفكر و المثقف من الإدلاء برأيه انطلاقا من الرؤية المعرفية التي يتحيز لها ، و لا نسمع سوى صوت السياسي المغرض و أشباه الفنانين . سياق حديثي في هذا الموضوع، يرجع إلى مسيرة استماع لألبوم فنان مقتدر ملتزم مثقف، يمتاز بصوته العذب و بشاعريته المتألقة ؛ الفنان نعمان لحلو ، حيث كان لألبومه الأخير، الأثر الجميل على نظرتي للأغنية المغربية المعاصرة، وسآخد قطعة من مقالة غير منشورة كتبتها بعد إحساس عارم إثر استمتاعي بألبومه، فكتبت قائلا " وأجمل ما في هذا التأثر أن الألبوم خاطب ذوقي بلمسة جمال الحضارة المغربية في قلب غنائي رفيع امتزج فيه صدق الإحساس مع نعومة الصوت، مما جعلني أنيخ القلب و السمع و كأني في رياض مزدان بالورد الأحمر النابض بالحياة حيث الماء الزلال ينسكب في هدوء تام متناغم مع جمال المكان و أصالته" ، كتبت هذا في شهر مارس وترددت في الكتابة عن لحلو إلى أن استمعت إلى تصوره للأغنية المغربية المعاصرة من خلال موقع هسبريس الذي ينشر حوارا تلفزيا مع نعمان في برنامج مشارف على قناة دوزيم ، فكان استماعي له فرصة لفهم واستيعاب نظرته للأغنية المغربية المعاصرة ، فخلصت إلى الخلاصة الآتية: إن نعمان لحلو يمتلك رؤية عن الهوية الغنائية المغربية من خلال إجابتها عن سؤال النحن ، كما أنه يقترح بعض المقترحات التي تسهم في تعزير السياسة العمومية تجاه الأغنية المغربية بكل تلاوينها ، لكن الملاحظ أنه أفاض في بيان تفاصيل الهوية الغنائية المغربية ، حيث طرح سؤال من نحن ؟ هل نحن أفارقة أم أمازيغ أم أندلسيين أم عرب ، فأجاب أننا نحن كل ذلك، وأشار إلى أن الأغنية المغربية لا زالت تراوح مكانها في علاقتها بهذه الهوية ، و أوضح أن الأغنية المغربية ليست مقامات و إيقاعات فقط ، إنما الهوية تتحدد بالهيكلة أو ما يسمى في الملحون "بالقياسات" و "المرمات" ، و يشير لحلو إلى أن هذا يشكل البنية اللحنية للموسيقى و الغناء المغربي ، و يؤكد مبينا الفارق بين الهوية المغربية الغنائية و المشرقية بقوله :" تجد في الغناء المشرقي ؛ مقدمة موسيقية غناء منفرد كورال موسيقى ثم مطرب ثم كورال و هكذا دواليك و هذا قالب مشرقي ، لكن القالب المغربي عندنا يبدأ "بالسرابة السريعة" ثم "الكباح" ثم الغناء الجماعي، و هذا نجده في الملحون و في غناء الجيل – جيل الجيلالة ، ناس الغيوان.. –" . ومن خلال هذه الهوية يقيم نعمان لحلو الهيب هوب بقوله "الهيب هوب هو حركة ثورية احتجاجية تطالب بالعدل و المساواة ، و هي تعتمد في غنائها على الكلام و ليس ما تقول شعر أو زجل، و تستعمل الموسيقى الغربية و الآلات الموسيقية الغربية " لكن في المقابل يشير نعمان إلى أن لها إيجابيات منها توزيعات موسيقية ذات مستوى عالي ، فتعتمد ما يسمى بعلم الأصوات كما تعتمد الغناء الجماعي" و يضيف متسائلا : تصوروا لو احتضنا هذه الحركة و أدخلناها إلى دائرة الأغنية المغربية المعاصرة ، فإن الجمهور سيقول إن الأغنية المغربية ضخت فيها دماء جديدة . إن مثل هذه الإضاءات المتخصصة تزيل الكثير من الغبش ، و تضع المسائل في مكانها المناسب ، مما يعني أن رأي الفنان الممارس المهتم يشكل عنصرا أساسيا في الحوار الوطني حول " الأغنية المغربية "، و بهذا يتم إبعاد بعض الأصوات المشوشة عن الأغنية المغربية المعاصرة ، وخصوصا التي تحاول النيل من الهوية الغنائية المغربية ، و يبدو لي أن النقاش العمومي حول الأغنية المغربية ينبغي أن ينصب في تحديد هذه الهوية و إعادة اكتشافها ، و هذا ما فعله نعمان لحلو في ألبومه المدينة القديمة . بعد هذا ؛ اعتبر أن الإسلاميين ينبغي أن يستمروا في مقاومتهم ابتذال الذوق الفني الغنائي، و أن لا يتضايقوا من من يشن عليهم الهجومات المتوالية واصفا إياهم بالهوياتيين و الدعويين ، و أنهم يخلطون الدعوة بالسياسة ، محاولا الإيقاع بهم في لعبة التسيير و التدبيير ، إلا أن مقاومتهم هذه ينبغي أن تنتقل من الشجب و التنديد إلى المبادرة و الإبداع انطلاق من هويتنا الحضارية الغنائية المغربية الأصيلة، و لهذا لا أعتقد أن الحداثيين المغاربة ضد الهوية الغنائية المغربية ، فلم نسمع واحدا منهم أشهر سيف نقده لناس الغيوان و جيل الجيلالة و المشاهب و تكادة و ازنزار ، ونفس الشيء بالنسبة للإسلاميين، و بهذا ندرأ الجدل العقيم ، و نكفي الساحة الإعلامية شر المواقف الفارغة، عند كل مهرجان من المهرجانات المغربية ، و اعتقد أن الإسلاميين يمكن لهم يسهموا بشكل كبير في إعادة الأمور إلى نصابها إذا ما تركوا بعض أحكامهم الجزافية و استمعوا لأهل الخبرة و المعرفة في الغنائية المغربية ، و أما الدعوة التي يواجه بها الإسلاميون في هذا الشأن بأنهم لا يمتلكون مشاريع عملية للرقي بهذا الميدان هو مجرد استدراج إلى فضاء أشد ما يعوزه البناء الهوياتي لهياكله، الذي يتجاوز منطق المحاججة الانتخابية إلى رحاب الهوية الحضارية الغنائية المغربية التي لا ترتهن للحظة الحشد الانتخابي. [email protected]