يقترب فصل الصيف، وترتفع درجة حرارة المهرجانات المنظمة هنا وهناك، تمتلئ شاشات التلفزة بالإعلانات عن هذه المهرجانات، ويصبح الصيف كله مسرحا لتوالي مهرجانات عديدة قاسمها المشترك هو الشطيح والرديح، ونادرا ما تجد مهرجانا حقيقيا يسعى إلى الحفاظ على الفن المغربي الأصيل، أو يسعى إلى إبراز مقومات الشخصية الفنية والثقافية المغربية، مهرجانات تُصرف على تنظيمها ملايين الدراهم، إن لم نقل ملايير، أموال طائلة يبقى السؤال حول مصيرها معلقا، خاصة وأن مجموعة من الناس أصبحوا يستغلون هذه المهرجانات للإغتناء الشخصي، ونفخ الحسابات البنكية لهم، فيما أغلب هذه المهرجانات تكون في مستوى دون المتوسط من حيث المواد التي تقدم فيها، وغالبيتها يهمش الفرق الموسيقية والمواهب المغربية، التي وإن استدعيت يكون ثمن استضافتها أقل بقليل من بعض المجموعات الأجنبية، التي لا تقدم شيئا غير ضجيج منظم، فتخرج بمبالغ مهمة من هذا المهرجان أو ذاك، وقد يكون حظها سعيدا فتشارك في أكثر من مهرجان، لتخرج بصيف جيد ودخل مادي ممتاز. "" هذا بالنسبة للفرق، أما بالنسبة للمضمون فنجد أن هذه المهرجانات تائهة، وتختار شعارات أكبر مما هو مشاهد، ولا يستطيع أن يفهم أي متتبع للمجال الفني في البلد، من أجل ماذا تنظم هذه المهرجانات، وما هي الغايات الثقافية التي وضعتها كأهداف ترمي الوصول إليها، ولا تراها إلا مهرجانات فيها خليط غير متجانس من الأنماط الموسيقية المختلفة، والتي يكون أغلبها مستوردا من الشرق أو من الغرب، لتذهب الثقافة والفن المغربي الأصيل في مهب الريح، وحتى لا يثار كلام كثير حول منظمي هذه المهرجانات يستقدمون فنانا أو فنانين مغربيين، لكي يتبجحوا أمام الكاميرات بأنهم لم يقوموا بإقصاء الفن المغربي، فيما الحقيقة المرة أن الفن المغربي يحتضر منذ زمن خاصة مع دخول الكثير من الأشكال الغربية والغريبة، لم تعرفها الثقافة المغربية، ولا الشعب المغربي من قبل، فأزعجت آذان المغاربة، الذين كانوا بالأمس القريب يستمتعون بأغاني الرواد الذين بنوا الفن المغربي الأصيل في زمن جميل يعز أن يعود في زمن الأكلة السريعة، والأغاني المحسوبة بالثواني وأجزاء المئة، زمن سيندثر إن بقي الأمر على ما هو عليه، وسنأسف كثيرا على ثراث غني نراه ينفلت من أيدينا حبة حبة، دون أن نملك القوة اللازمة، من أجل تخليصه من براثين النسيان والإهمال المقصود وغير المقصود، ولن يكون هذا الأمر إلا بإعادة طرح سؤال الجدوى من كل هذه المهرجانات التي تكرس غالبيتها الأزمة، وتزكي الابتعاد الممنهج عن كل ما هو أصيل ومتجدر في النسق الفني المغربي. والمسؤول الأول عن هذا الأمر هي وزارة الثقافة، التي يبدو أنها تسير نحو فك الارتباط مع الثقافة وأهل الثقافة لتسمي نفسها وزارة المهرجانات الصيفية، فوزارة الثقافة تدعم غالبية هذه المهرجانات ولا تقوم بشيء من أجل الوقوف على الأهداف وراء تنظيم كل مهرجان على حدة، فتهدر أموال مهمة تحتاجها الثقافة الحقيقية المغربية التي تعاني من التهميش والإهمال، الثقافة هي كل الثراث، هي المعرفة هي الفن والأدب، هي كل ما من شأنه أن يبعث الذاكرة ويحييها، ويجعلها راسخة في أذهان الأجيال، وليس تمويل مهرجانات، تقترب من أن تجعل الناس والشباب على وجه الخصوص عبيدا لانماط موسقية دخيلة، وتذهب بألبابهم وتغيب عنهم ثقافتهم الأصيلة، وفنهم المتجدر، ومن تسأله من شباب اليوم وكنتيجة لهذا الفصل غير الطبيعي عن الهوية الأصيلة للمغاربة، من تسأله عن رائد من رواد الملحون أو الغرناطي أو الأندلسي، أو السوسي الأصيل، لن يعرف بطبيعة الحال، ولن يكون إلا مستهزءا من هذه الأنماط التي تحيل إلى قيلولة وسط النهار وإلى النوم بكل حمولاته الكبرى من الخمول والكسل، فوازارة الثقافة كان الأجدر بها، ويجب أن يجدُر بها، أن تنظم وتساند المهرجانات التي تراعي وتحترم القيم الموسيقية والفنية للذاكرة المغربية، وتعمل من خلال هذه المهرجانات على تحسيس الشباب بالدور العظيم الذي قام به فنهم الأصيل من أجل الحفاظ على موروث كبير من القيم السامية التي تقترب من الانقراض بسبب الإهمال، ولا يجب أن يفهم هذا الكلام أنه تحامل على نمط معين من الفنون، بقدر ما هو غيرة على فن أصيل يسير نحو النهاية على مرأى ومسمع من جميع أبنائه، وبإيعاز ومسانذة من بعضهم، لاعتقادهم أنه يمثل التخلف والرجعية، والقيم الماضوية، فيما يزكون ويدافعون عن قيم شعوب أخرى، أو مجموعات بشرية جمعت أشياء غريبة فسمتها فنا فصدقها الناس، فيما هي بعيدة عن الفن بعد السماء عن الأرض. من جانب آخر تبقى المبالغ المالية التي ترصد كميزانيات لنوعية المهرجانات الفاشلة التي تحدثنا عنها مثيرة للاستغراب والتساؤل، فكم من مدينة مازال فيها السكن الصفيحي جاثما على قلوب الناس، تنظم مهرجانات بملايير السنتيمات، وبمبالغ قد تخرج أحياء كاملة من وضعية مزرية يعيشونها في دور صفيح لا ترحم، فهل نحن ملزمون إذن بتنظيم كل هذه المهرجانات في ظل مشاكل اجتماعية ليست وليدة اللحظة، بل هي أعرق وأقدم من كل هذه المهرجانات، أليس من الأفضل أن نحتفظ بمهرجانات مميزة معدودة على رؤوس الأصابع كمهرجان فاس للموسيقى الروحية، ومهرجان الصحراء، فهي مهرجانات ترمي إلى نسج تلاقح حضاري كبير بين الأمم، والحفاظ على أنماط فنية متجدرة في تاريخ الشعوب والجماعات البشرية، أليس من الأفضل أن توجه أموال المهرجانات التافهة لتوعية الشعب، وبناء المكتبات، وخلق الورشات العلمية، وتنظيم مسابقات كبرى في جميع أصناف الإبداع من رسم ومسرح وسينما، إبداع يحترم القيم الراقية والسامية للأمة المغربية، ويحترم خلفياتها الدينية المتجدرة في التاريخ، حينها، يمكن لنا أن نتحدث عن شيء إسمه الثقافة بكل ما للكلمة من معنى. لقد أكدت السنوات الماضية بأن العدد الكبير من مهرجانات الربيع والصيف تهدر فيها الأموال لا لشيء سوى مشاهدة بعض الأشكال التي لا يفهمها أحد، حتى من يمارسها لم يفهموها بعد، وحتى لا تبقى هذه الأسطوانة مكررة كل سنة، يلزم على الوزارة المعنية بالشطيح والرديح أن تقلص منه قليلا، وأن توجه نفسها لخدمة كلمة سامية عظيمة، إسمها الثقافة.