في مقال سابق («هل أتاكم حديثُ شَعْبويْهِ؟!»)، حاولتُ لَفْت الانتباه بشكل ساخر إلى أنّ الذين يَستعملون لفظيْ ["شعبويٌّ"] و["شعبويَّة"] لا يفعلون – من حيث إنهم يُخطئون في النَّسَب إلى لفظ "شَعْب"– سوى الدّلالة على سوء فهمهم أو عميق جهلهم بنظام "العربيّة"، بحيث يصير مُمكنا – بالأحرى، لو تابعناهم- الحديث عن "شعبوَيْهِ" بصفته ذلك المُضلِّل في مجال السياسة وفي غيره من المجالات! وفي السياق نفسه، وَرد مقالُ «قِفَا نَبْكِ بموقع هاتين النُّقطتين!» مُؤكِّدا أنّ من يُخطئ في وضع «علامات الوقف» لن يَتردّد عن الخطإ في غيرها إلى حدِّ أنْ تَجده يستعمل علامةً لا معنى لها (النُّقطتين المُتتابعتين). والحال أنه ما أكثر الذين يُمارسون الكتابة من دون أن يكونوا على معرفة بكيفيّة وضع «علامات الوقف»، وبَلْه أن يكونوا على معرفة كافيةٍ بقواعد اللسان العربيّ الذي يدّعون التفقُّه فيه. وإنّ فضحَ هذا الأمر لشديدٌ على نفس كل من كان ذاك حالَه. وبالتأكيد، لن تكون المُكابَرةُ دليلا إلّا على السفه الذي يُريد أصحابُه أن يَحظوا بامتياز يُخوِّل لأحدهم أن يَكتُب مُخالِفا أبسط القواعد المُتعارَفة عالميًّا. وهيهات أن تقوم قائمةٌ لمن يُخطئ في أبسط الأشياء ويذهب مُعاندا بدعوى أنّه لا يَكترث بالسّفَاسف! وهكذا، فإنّ إصرار كثيرين على استعمال ألفاظ لا تقبل أيَّ تعليل في الصرف العربيّ لا يُؤكِّد فقط استخفافَهم باللُّغة التي يكتبون بها، بل يُثْبِت أيضا مدى جهلهم بنظامها. وفي هذا الإطار، يَأتي التّذكير بأنّ ألفاظا مثل ["شعبويَّة"] و["علمويَّة"] و["إسلامويَّة"] و["عَلْمانويَّة"] إنما هي أخطاءٌ صرفيّةٌ مفضوحةٌ، لأنّها تُخالف قاعدةَ النَّسَب في توليد الصفة والاسم. ذلك بأنّ "العربيّة" فيها ثلاثُ لواحق للنَّسب، تُستعمل أُولاها («يُّ/يَّةٌ») لاحقةً عاديّةً في آخر كل اسم لاشتقاق صفةٍ واسمٍ نسبيَّيْن («شعبيٌّ/شعبيَّةٌ»، «علميٌّ/علميَّةٌ»، «إسلاميٌّ/إسلاميَّةٌ»)، وتُستعمل الثانية («وِيٌّ/وِيَّةٌ») لاحقةً عاديّةً لأسماءٍ يَتعذّر النَّسب إليها باللاحقة الأُولى لاشتقاق صفةٍ واسم نسبيَّين («يدويٌّ/يدويَّةٌ»، «شفويٌّ/شفويّةٌ»، «لُغويٌّ/لُغويّةٌ») ؛ وأما الثالثة («انيٌّ/انيّةٌ»)، فلاحقةٌ غير عاديّة لأنّها تَزيد على الأُخريَيْن بحرفين («[ان]يّ»)، ممّا يَجعلها تُستعمل للدّلالة على معنى المُبالَغة («شَعْبانيٌّ/شَعْبانيّةٌ»، «عِلْمانيٌّ/عِلْمانيّةٌ»، «إسلامانيٌّ/إسلامانيّةٌ» على غرار «رُوحانيٌّ/رُوحانيّةٌ» و«جسمانيٌّ/جسمانيّةٌ» و«عقلانيٌّ/عقلانيّةٌ» و«شخصانيٌّ/شخصانيّةٌ»). وفيما وراء ذلك، فإنّ كل لفظ جاز النَّسبُ إليه بلاحقة «يٌّ/يَّةٌ» (مثل "شعب" و"عِلْم" و"إسلام") لا يعود جائزا النَّسَب إليه بلاحقة «وِيٌّ/وِيَّةٌ»، وإنّما فقط بلاحقة المُبالَغة «انيٌّ/انيّةٌ» كما هو بَيِّنٌ في صفةِ واسم «عِلْمانيٌّ/عِلْمانيّةٌ» للدّلالة على معنى «النُّزوع إلى المُبالَغة في تقدير قيمة "العِلْم" كما لو كان بإمكانه، إنْ عاجلا أو آجلا، الإجابة عن كل أسئلة الإنسان وإعطاء حلٍّ لكل مُشكلاته». ولهذا، فإنّ لفظيْ «عِلْمانيٌّ/عِلْمانيّةٌ» هُما اللّذان يُترجمان اللفظين الأجنبيين « scientistic/scientism »، وليسا إطلاقا لفظيْ [«عِلْمويٌّ/عِلْمويّةٌ»] لأنّ اسم "عِلْم" لا يَقبل أن يُنسَب إليه إلّا باللّاحقة الأُولى («عِلْميٌّ/عِلْميّةٌ») أو بلاحقة المُبالَغة («عِلْمانيٌّ/عِلْمانيّةٌ»). وبالمثل، فإنّ لفظ "عَلْمانيّة" بصفته نَسبًا إلى لفظ "عَلْم" (بمعنى "عالَم") يُؤدِّي معنى اللفظ الأجنبيّ « secularism »، ولا يَقبل أن يُنسَب إليه مرةً ثانيةً (كما فعل صاحب ["عَلْمانويّة"]) لتوليد لفظٍ لا يَتّفق إطلاقا مع أيِّ صيغةٍ في العربيّة ولا يُؤدِّي المعنى المُراد إلّا بكَأْدٍ وتمحُّل! ومن ثَمّ، فإنّ الذين يَظنّون أنّ لاحقةَ «ويٌّ/ويّةٌ» تُفيد معنًى غير عاديّ إنّما هُم ضحايا التّوهُّم. وإلّا، فإنّ عليهم أن يُعلِّلوا كيف لتلك اللاحقة أن تُؤدّي معنى قدحيّا في [«عِلْمويٌّ/عِلْمويّةٌ»] أو ["شعبويٌّ/شعبويّةٌ"] ولا تُؤدِّيه في «يدويٌّ/يدويّةٌ» أو «شفويٌّ/شفويّةٌ» أو «لُغويٌّ/لُغويّةٌ»؟! أليس الأمر توهُّما محضا يُراد له، بتحكُّمٍ سافر، أن يُغطيَ خطأ فاضحا (وفادِحا)؟! وكيف يَستقيم في الفهم خَرْقُ نسق الصرف العربيّ لأداء معنى تَفِي به صيغةٌ أُخرى قائمة ومعمول بها (غفلتهم عن صيغة "التّظاهُر" أدَلّ، بهذا الصدد، على بالغ جهلهم)؟! وإذَا كان الأمرُ كذلك، فإنه لا مجال لأن تُستعمَل ألفاظ مثل ["شعبويّة"] و["علمويّة"] و["إسلامويّة"]، ولا بالأحرى لفظ مثل ["عَلْمانويّة"] الذي ولّده في الأصل شخصٌ لا علم له بالعربيّة وكان حريصا على فرض سخافاته على مُستعمليها. ومن يفعل هذا، فإنه يُطالَب بأن يَفعل مثله في الفرنسيّة مثلا بأن يقول « séculari[ci]sme » أو « scienti[ci]sme » أو « rationali[ci]sme ». ولو فعل شيئا كهذا، فلن يُواجَه إلّا بالتّخطئة الأكيدة ؛ ولئنْ أصرّ عليه، فلن يَلقى إلّا التّقريع الشديد لسُخْف ما ذهب إليه ظنُّه! وإنه لمن المُؤسف أن لا يجرؤ أدعياء الفكر والعقلانيّة على تعدِّي الحدود إلّا حينما يَتعلّق الأمر باللسان العربيّ، في حين أنّهم يُذْعنون إذعانا لكل ما جرت عليه عوائد أيِّ لسان آخر! وإمعانا في تسفيه إصرار كسالى الفكر أولئك على استعمال ألفاظ مثل ["شعبويَّة"] و["علمويَّة"] و["إسلامويَّة"] لا يَملك المرءُ إلّا أن يَدفع بالسُّخف إلى أقصى مدًى فيُجيز لنفسه الحديث عن "شعبويْهِ" وشُركائه "عِلْمويْهِ" و"إسلامويْهِ" و"عَلْمانَويْهِ" كأنّ ما سَمح بذلك يَسمح بهذا، وخُصوصا أنّ هُواة التّضليل لا تَستهويهم إلّا الألفاظ الرنّانة ولا تَستثيرهم إلّا الشعارات الكُبرى! وهل هناك ما هو أشدّ إرضاءً للهوى من لَوْك ألفاظ تتأبّى على التّعليل اللُّغويّ بالقدر نفسه الذي لا تستجيب للتّعليل العقليّ، لكنّها تُتيح مع ذلك الظهور بمظهر "المُبدع" المُنشئ للأعاجيب؟! وعموما، ينبغي أن يكون بَيِّنا، هُنا، أنه لا حُجّة بقولهم إنّ «خطأً مشهورا خيرٌ من صواب مهجور» لأنّه قولٌ من شأنه أن يُؤدِّيَ – إذَا عُمل به- إلى نقض نسق اللِّسان العربيّ برُمّته، فضلا عن أنّه قولٌ لا يُعبِّر – في العمق- إلّا عن مُسايَرةِ تيّارات الإسفاف والاستخفاف المُتفاحشة بيننا. وإنّ الخطأ ليَبقى خطأً حتّى لو أتى به أعلمُ الناس أو أعظمُهم منزلةً. ولذا، فكل من يَأبى إلّا أن يَستمرّ في اجترار سُخْفه لن يكون إلّا مُكابرا يَتّبع هواه أو جاهلا لا يَعرف طريقَه إلى الصواب