"المجتمعات الباردة هي تلك التي أبطأت إلى آخر مدى نشاطها التاريخي" -غي دبور Guy Debord الصمت وارد ولكن النسيان هو المتوقع؛ ليس بسبب حجر صحي عابر، ولكن لقساوة التغيرات التي تمس وجودنا ذاته. مر اليوم العالمي للمسرح كطيف شكسبيري؛ فهل هنالك من شك في هذا الاختفاء للمسرح -بشكله التقليدي- في حياتنا المعاصرة؟.. قطعا لا، وإنما الشك في: هل فهمنا في البلاد الناطقة بالعربية حقيقة ما يجري. لكن دعنا نتساءل أولا: – أمن الضروري أن نجتر من جديد حقيقة العصور الثلاث للمعرفة كما فصلها دوبري Debray؟ قبل التدوين كان الشفهي هو الوساطة والرسالة؛ حفر الأوائل معارفهم في الذاكرة الجمعية وتناقلوها شفهيا؛ ثقافاتنا لم تخرج عن هذا الوضع حتى نزول القرآن الكريم الذي كان سببا في ظهور عصر التدوين العربي؛ الحضارة الإسلامية برمتها ليست سوى منجز من منجزات عصر الإنتاج الخطي Logosphère الذي امتد من الحضارة الإغريقية وحتى ظهور الطباعة في القرن الخامس عشر ميلادي؛ لذلك فهي حضارة الفقه والشعر؛ أما بعد ظهور الطباعة، فهو عصر الكتابة Graphosphère والتعبير عن الذات؛ أي: الزمن الذهبي للتمثيل (الرسم والمسرح والبرلمان)؛ الأول كان عصر إمبراطوريات والحق الإلهي في الحكم، أما الثاني فعصر الجمهوريات وبداية تشكل الديموقراطيات. كانت الحضارة الإسلامية مبهرة في منجزها اللغوي؛ ولكن لم يكن بوسعها أن تحقق إنجازا مماثلا في أشكال التمثيل المستجدة بعد العصور الوسطى؛ لأنها ظلت وفية للعصر الأول؛ ولم يقض لها أن تختبر العصر الثاني للمعرفة إلا في وقت متأخر جدا؛ وفي ظروف لم تسمح بالتحرر المطلق من سلطة عصر الأول. – هل عرف المسلمون فن المسرح قديما؟ .. هو أذكى وأغبى سؤال في الوقت ذاته.. مع ظهور التلفزيون سيبدأ العد العكسي لنهاية عصر الطباعة.. تنبأ مارشال ماكلوهان بموت الجريدة الورقية في الستينات؛ لأنه صاحب القولة الشهيرة: الوساطة هي الرسالة Le médium, c'est le message، ومن ثم فميلاد الشاشات سيعصف بكل مفاهيمنا عن المعرفة وأشكال التعبير الشائعة؛ بل بطبيعة وجودنا ذاته. ألم تتحقق نبوءة هذا العبقري مع شيوع الفضائيات؛ ثم الإنترنيت؟ وجاءت المنصات الرقمية لتهيل التراب إلى الأبد على الشاشة بالمفرد، لصالح الشاشات بالجمع. لكننا كجماعة ناطقة بالعربية لم نقر بهذه الحقيقة إلا بعد جائحة كورونا، وبهذا نكون قد أكدنا على سمعتنا كممانعين ومقاومين للجديد، إذ تؤكد شواهد عدة من التاريخ بأننا لا نرضخ لتيار الزمن إلا بعد حلول الكارثة.. نحن اليوم إزاء عصر ثالث هو عصر الشاشات Videosphère واكتساح الديموقراطيات؛ وذلك بعد انتهاء صلاحية عصري الخطاب Logosphère والكتابة Graphosphère؛ وعصر الشاشات لا يعني أكثر من تحويل المعارف إلى شيفرات تواصل سمعي- بصري/ تشاركي؛ لذلك وحدها الشاشات الوسيط القادر على تلبية حاجتنا للترفيه والتثقيف: ألعاب فيديو/ إعلانات/ شريط أخبار لا يتوقف/ إباحيات/ مواعظ دينية/ أفلام/ طرائف/ موسيقى .. ما يمحق إلى الأبد كل حنين إلى الفرجات الحية.. الشاشات هي الوسيط والوساطات هي الرسالة.. أليس "واتساب" بمثابة خشبة افتراضية بديلة.. لكن، من منا لا يبدي حنينه للفرجة: فنانين؛ أدباء وحتى سينمائيين.. في عالم يبدو وكأنه يدير الظهر لكل تواصل مع الجمال الذي كان عماده الوساطة المادية. تحولت أشكال التعبير في العقد الأخير من مجرد عرض كتابي/ شفهي/ بصري إلى استعراض افتراضي مبهر يعتمد تحقيق الحدث Buzz؛ كما تباعدت المسافات بين الفنان والجمهور لتصير مفرطة في الافتراض، هو عصر لا نتصور فيه قيام علاقات إنسانية: (صداقات/ تسوق/ عشق/ معاملات/ حميمية..) خارج الشاشات؛ فكان ضروريا تبعا لذلك أن تتغير مفاهيم من قبيل: التراث واللغة والمسرح والتشكيل وحتى السينما، مثلما تحولت فيه وظائف التعبير التي لم تعد تعتمد بالضرورة على المحاكاة والتمثيل، وهذا مهم جدا.. لماذا؟ لأن ما يفرض اليوم أفول العرض الحي لصالح العرض عن بعد أو الاستعراض الافتراضي ليس هو جائحة كورونا التي ستنتهي بالتأكيد، ولكن ما يفرض ذلك هو انتهاء مفهوم التمثيل في الفن إلى غير رجعة، لصالح مفاهيم جديدة مثل: الزيف Simulacre والتصنع Simulation.. جمهور اليوم يعشق كل ما هو مزيف ومصطنع؛ وولاؤه لكل ما هو افتراضي، دون أدنى ميل لما هو واقعي وحقيقي.. لفظة (حقيقي) ذاتها صارت معادلا لكل ما هو مزيف وموهوم. إن العرض ولو تجسد حيا بحضور الجمهور فهو مع ذلك ليس بوسعه أن يتحقق إلا عن بعد (أشرنا في مقالة سابقة (ولدت الشاشات ماتت الفرجة) إلى أن جمهور اليوم يفضل متابعة العروض الحية داخل القاعات عبر شاشات هواتفه وألواحه الرقمية التي تغدو الوسيط والوساطة؛ ومن فهي المضمون والرسالة). يصر المسرح على الذبول في ثقافتنا الناطقة بالعربية لأنه مصر على تقديم نفسه ضمن شروط إنتاج بائدة لم تعد تثير اهتمام أحد، وهذا حال كل الصناعات الإبداعية البائدة التي ترعاها وزارة الثقافة.. انظروا إلى الحالة البئيسة التي انتهى إليها رواق باب الرواح التاريخي الذي صار مقبرة للإبداع بعدما كان مشعل التشكيل الحديث في القرن الماضي؛ وانظروا إلى كساد صالات السينما والمسارح التي لم تعد قادرة على الاستمرار من دون الدعم العمومي.. ينصرف المغاربة والعرب عن المسرح، ولكن هل توقفوا عن مشاهدة الأفلام؟ .. داخل القاعات ممكن، ولكن ليس عبر المنصات الرقمية التي تضاعف مشتركوها.. المغاربة الذين كانوا يقضون 50 ساعة سنويا أمام الشاشة الصغيرة في القرن الماضي، صاروا يستهلكون أكثر من 2000 ساعة أمام الشاشات.. انصرفوا عن الوساطات التقليدية للفرجة لكن لصالح أخرى افتراضية. لكن وعلى غرار السينما التي أعادت طرح نفسها في لبوس جديد عبر المنصات الرقمية؛ فإن المسرح بدوره ماكر وقادر على إعادة اختراع ذاته عبر وساطات مغايرة؛ هذا في حالة ما إذا نجح في إعادة تقديم نفسه ضمن شروط إنتاج بعيدة عن (التمثيل) الذي هاجر إلى مساحات أخرى أوسع؛ الفنون البديلة لا يمكن أن تصير عنصر جذب من دون أن تتحول إلى إسقاطات بصرية تتوسطها الشاشات وتغذيها الصور؛ إذ ذاك قد يشكل المسرح أبلغ قصيدة أبدعها إنسان القرن الواحد والعشرين. يعتقد الكثيرون أن العرض عن بعد ظاهرة مؤقتة فرضتها جائحة كورونا، ولكن التاريخ يعلمنا أن كل استثناء تفرضه كارثة ما، يصير بعد انتهائها هو القاعدة.. لن ينتهي العرض الافتراضي بانتهاء كوفيد 19 بل هو بدأ للتو كجوهر للصناعات الإبداعية البديلة؛ خصوصا بعدما اكتشفنا فيه ميزتين أساسيتين: ترشيد النفقات والقدرة على الجذب. النفي الحقيقي للفرجة التمثيلية هو وحده من سيمكن من الحفاظ على جوهر الفنون الحية في عالم تغير فيه مفهوم الفن والثقافة.. لنستوعب الدرس جيدا: لم تمنع زعامة عادل إمام من سقوط بودي جارد على منصة شاهد سقطة مدوية؛ مثبتة فشل الشكل التقليدي للفرجة في مسايرة عصر متجدد.. ألا يتطلب ذلك كله شجاعة لإعادة النظر في كل شيء.. من التكوين وحتى بنيات الممارسة وآليات التمويل والجذب؟.. لكن: هل تملك قطاعاتنا العمومية الوصية على الفنون هذه الجرأة وهذه الشجاعة.. هذا إن كانت حقا تمتلك المؤهلات المناسبة؟.. إذا كان الجواب سلبا، فذاك يعني ضرورة التفكير الجدي في سياسات مغايرة لإدارة مشاريع عملاقة كلفت المغاربة ملايين من الدراهم ومن المفترض أن تفتتح أبوابها بعد الجائحة.. – كيف تدار دور العرض الحية اليوم في مجتمعات ما بعد التصنيع؛ لتسهم في التنمية، وتحقق المرابحة المادية والمعنوية؟.. كيف يمكن أن تسهم المسارح في ورش الجهوية المتقدمة؟ وفي بناء المشروع الديموقراطي ضمن ثوابت الأمة المغربية؟