"لا يمكن اعتبار المسرح الفكاهي الكثير الرواج حاليا بشمال إفريقيا بمثابة مسرح وطني، إنه فلكلوري في جوهره، ولذلك لن يصمد طويلا إزاء تطورات المجتمع" عبد الله العروي- 1967 "هناك شيء عميق يحدث في المسرح العربي لا يبشر بخير، لا نراه ولكنه يحفر عميقا (..) وهذا في الحقيقة إعلان خجول عن موت المسرح" واسيني الأعرج - 2017 ليست هذه مقالة عن الفن ولكنها محاولة تفكير في النموذج التنموي الجديد المعنيين به جميعا.. 1- اكتسحتنا الشاشات فطرأ تقليد جديد: هواتف تغزو المسارح وجماهير مهووسة بشاشاتها لا بما يعرض على الخشبات.. جماهير تفضل الصورة على الشيء والنسخة على الأصل والوهم على الحقيقة. ماتت الفرجة لأننا انتقلنا من واقعية التمثيل- اللوحة (أحادية البعد) إلى سحر الشاشات- الاستعراض (كلية الأبعاد). 2- ما الذي يعنيه موت الفرجة؟.. اختفاؤها التام؟ .. لا؛ فهي لا تزال تقاوم ولكن في الظل.. موت الفرجة معناه بأنها لم تعد بؤرة تحولات مجتمعية ومركز تأثير في الرأي العام الذي انجذب لوساطات أخرى.. عند شيوع الجيل الأول للهاتف النقال، برر رشيد الوالي في لقاء متلفز انصراف الجمهور عن المسرح بقوله: "فلوس المسرح سرقاتهم روشارج البورطابل"؛ ويبدو الوضع بعد عشرين سنة أكثر تعقيدا، فالتمثيل الذي ظل عماد الفرجة لستة قرون متواصلة (أي منذ ظهور المطبعة) بدأت تسطو عليه حقول ومجالات أخرى (خاصة بعد ظهور الشاشة) أضحت هي مصدر التأثير والإبداع. 3- نعيش اليوم ما بعد نهاية مجتمعات الفرجة بتعبير ريجيس دوبري؛ انتهى إلى غير رجعة تسيد "التمثيل" على أشكال التعبير الحية في عصر رقمي تفاقم فيه انفصالنا عن الواقع. أين هو التمثيل اليوم؟.. يستبيح حمى أخرى كالسياسة والإعلام. صار مألوفا أن تمثل القلة الكثرة وتقرر باسمها ما تشاء؛ من حكومة تمثل شعبا إلى مجلس ينوب عن كل العالم.. القلة تمثل الكثرة في ظل منظومة من الانفصالات بتعبير بيار مانان: (انفصال السياسة عن الدين/ التشريع عن القضاء/ الدولة عن المجتمع المدني/ الوقائع عن القيم)، صار مألوفا أن يلخص إعلامي واحد محتوى قناة برمتها لأنه يمثل الملايين المنبهرين به حد الانقياد؛ لا يمكن تصور قناة "البلد" المصرية من دون أحمد موسى، كما يستحيل تصور نقيضتها "الشرق" من دون معتز مطر؛ أما آخرون فيديرون لوحدهم قنوات بديلة في اليوتيوب Youtube بأسلوب One man crew جمهورها بالملايين.. أتاحت الإنترنيت للإعلاميين فرصة منافسة نجوم السينما والتفوق عليهم ليس في الشهرة فحسب، ولكن أيضا في مادة التمثيل نفسها التي وسعوها وحسنوها فنجحوا في اقتناص ملايين المشاهدات وتحولوا إلى مؤثرين في الرأي العام. تحولت أوبرا وينفري من ممثلة مسرحية مغمورة إلى أشهر مقدمة برامج حوارية في العالم؛ وهجر عمرو أديب أدوره الثانوية في السينما ليستأثر ببطولة مطلقة في برامج التوك شو، والمسار نفسه سلكه المغربي رشيد العلالي، واللبناني هشام حداد والعراقي أحمد البشير، والمصري: جوشو Joe Show.. توسع مفهوم التمثيل وصار المهنة التي سحب السياسيون والإعلاميون بساطها من تحت أرجل الفنانين: اندحرت كوميديات عادل إمام ومحمد صبحي أمام أداء مفرط في ملهاويته لإعلاميين مثل أحمد موسى ونشأت الديهي ومعتز مطر وعمرو أديب.. وتفوقت كوميديات وزراء ورؤساء حكومات في إضحاك المستخدمين على سيتوكومات فشل أبطالها في إضحاك أنفسهم.. صار السياسي هو البطل التراجيكوميدي الأمثل، وتحولت البرلمانات وبرامج التوك الشو إلى منصات استعراض يتابعها ويتقاسمها الملايين عبر يوتيوب وواتساب؛ كل ذلك أمام جمهور شبه منعدم للفرجة (راجع مثلا البث المباشر على اليوتيوب لكل المهرجانات المسرحية العربية).. لنعترف: لم تعد الفرجة بشكلها الحالي القائم على التمثيل الحي أداء للتأثير.. فكيف لها أن تستقطب المال والإعلان في مجتمعات التواصل والاستهلاك Communication- Consommation؟.. كيف لها أن تسهم في التنمية التي تعني ببساطة تنمية الموارد المدرة للربح. 4- تضرب نتفليكس Netflix نموذجا فريدا للفرجة الذكية؛ إذ عوضت الخشبة Scène ب المنصة Plateforme ما طرح منافسة غير عادلة مع الفرجة التي هي بمثابة لوحة Tableau بدون عمق؛ والمطلوب في ظل البدائل القوية للشاشات خلق انفتاح داخل هذه اللوحة لتحويلها إلى بلاطو بتعبير دولوز، تماما كما يحدث اليوم في مسارح العالم المتقدم. هل خشباتنا الحالية فاشلة؟.. نعم لأنها بعيدة عن الذكاء الرقمي في عصر اتحدت فيه السرعة بالذكاء؛ وصار ما يشد الجمهور هو إقامة علاقات اجتماعية وثقافية وتبادل خبرات جمالية داخل الشاشات وحتى من دون مغادرة المقعد؛ وأي تصلب في الرأي سيكون كتصلب الشرايين: أول طريق نحو موت يستحيل تفاديه إكلينيكيا من دون إزالة الانسداد والتجلطات؛ وأحيانا قد ينتهي الأمر بالاستئصال. 5- هل يحق لنا القلق ؟.. بالطبع، لأن مشروعنا الفني انبنى كله على مبدأ التمثيل.. أتصور أن التساؤل البديهي الذي سيرد إلى الذهن هو: ما مصير قاعاتنا التي استثمرنا فيها ملايين التنمية البشرية؟.. لكن التساؤل العقلاني المطلوب استحضاره في هذه اللحظة الحاسمة هو: ما العمل إزاء ما غمرته بنا الموجة الثالثة للحضارة من تطبيقات ذكية Smart applications غيرت من علاقاتنا بالتنشيط والترفيه واستهلاك الفنون ؟.. ما العمل في عصر اتحد فيه الذكاء بالسرعة؟.. إن ما تنهجه الشركات عند عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها هو إعلان حالة إفلاس لوضعها وتصفيته، لا لكي تنتهي ولكن لكي تبدأ من جديد وفق استراتيجية مغايرة.. البدء من جديد ليس هو المشكلة، ولكن المشكلة الأكبر هي الاستمرار في نفس النهج الفاشل.. قال أينشتاين: الغباء هو فعل الشيء مرتين وانتظار نتائج مغايرة.. هنالك خلل في المفاهيم: أي كيف يتصور الفنان العربي شكل الفرجة في زمن الرقمي- الكوني؟ وهناك أيضا خلل كبير في الاستراتيجيات: شكل البنيات التي ننشئها ضمن البرنامج الوطني للتنمية البشرية والتي يبدو أنها غير قادرة على تطوير واستقطاب فنون ذكية.. وهناك أيضا خلل في الإدارة: خطة تسيير هذه الفضاءات وتأهيلها حتى تنخرط في سوق الفن؛ فالثقافة والفنون هي في النهاية استثمار تجاري بالدرجة الأولى.. هناك من سيدعي بأن الفن نتاج روحاني- جمالي؛ أي نعم؛ ولكن وحده الربح المادي ما يرهن هذا الوجود الروحاني وإلا فما حاجتنا للتمويل. ميزانية الكوميديا الفرنسية 12 مليار سنتيم في السنة تعود بربح صافي للدولة الفرنسية قدره مليار سنتيم.. ولا تتردد الحكومة في إقالة أي مدير يفشل في تحقيق الربح الذي يقتضي التسلح بالاستراتيجية التي تؤدي إلى نجاعة كل فعالية لا التوسل بالخطط العابرة.. الجماهير التي تسلت في السابق بالفرجات الحية لم تعد متحمسة لذلك في عصر جديد هيمنت عليه الشاشات وتنوعت فيه المنصات الرقمية؛ لذلك لا طائل من مطالبة هذه الفرجات ولو بربح معنوي: مواطنة معاصرة مطابقة للمرحلة التي نحياها، وثقافة ذي قيمة كونية تؤهلنا للتواصل مع العالم؛ ذلك كله لم يعد بمقدورها تحقيقه.. لكن أليس هذا بالضبط ما تتطلبه التنمية البشرية، وتطالب به بإلحاح كل تقارير المجلس الأعلى للحسابات؟..