"كل من يتحدث بالنيابة عن الآخرين هو حتماً محتال"، إميل سيوران. صرح نيتشه: الاشتراكية نقيض لمهمة الإنسان في الحياة، ودعم المسرح ليس ببعيد عن ذلك، نتحمس ونكتشف في النهاية بأن الدعم نقيض لمهمة الفن، منابت هذا الريع في التخطيط الاشتراكي تحتاج للتدليل، ارتبطت بأول ظهور لوزارة خاصة بالثقافة مع النازية والفاشية والشيوعية، وحده التصور الاشتراكي للدولة الذي أعلن معاداته لقيم الحرية واقتصاد السوق، وزارة الثقافة في الأصل مفهوم غير ديمقراطي كانت الغاية منه التحكم في إنتاج الصور وإصباغ معنى وحيد على المجتمع. بعد الحرب العالمية الثانية قامت محاولة فرنسية لدمقرطة هذه الوزارة مع أندري مالرو بجعلها تنتج قيم الاختلاف، ومع ذلك: هل ما زلنا في مجتمع الويب في حاجة إلى سياسة حكومية لدعم الفنون؟ في عصر تعددت فيه البدائل وتسيد الرقمي الذي فاقم انفصالنا عن الواقع، وأسهم في هجر التمثيل للفرجات الحية، وفي مقدمتها المسرح الذي لم يعد بشكله التقليدي الحي وساطة مقنعة وجاذبة كالسابق، إزاء حضور طاغ للشاشات. وهل بإمكاننا اليوم تصور قيام علاقة خارج الشاشة؟ مرت 20 سنة على إقرار حكومة التناوب ذي الهوى الاشتراكي لسياسة الدعم المسرحي، والآن لا يمكن أن نجد حرفا يصف إخفاق الصناعات الإبداعية المدعمة من أموال دافعي الضرائب. في 2011 وسع الوزير التقدمي هذه السياسة وأخرجها في حلة أطلق عليها "دعم الصناعات الإبداعية" حددها في قطاعات: (المسرح/ النشر الورقي/ الفنون التشكيلية/ الموسيقى والمهرجانات)، وكان فهما متقادما لهذه الصناعات التي ترتكز اليوم على قطاعات أكثر قدرة على الجذب والتواصل: (السمعي- البصري/ النشر الإلكتروني والصحافة الرقمية/ الموسيقى المحملة والمصورة/ ألعاب الفيديو)، كما عوض مشروع الفرق الجهوية المتوقف بفرق تستوطن كل سنة دور الثقافة التي غير اسمها إلى المراكز الثقافية، وخصص لها (نقصد الفرق المستوطنة وليس المراكز الثقافية) موازنة تفوق بكثير ميزانية التنشيط الخاصة بالمديريات الجهوية نفسها، ربما هذا ليس بعيب في إطار سياسات الانفتاح والخصخصة، ولكن الخلل في تفويت هذه الموازنات المالية إلى جمعيات غير مقيدة بطرق الصرف القانوني للمال العام أو خاضعة للافتحاص. روجت حكومة بنكيران لهذه السياسة باعتبارها نقلة في مسار وزارة الثقافة بالمغرب، ولكن النتيجة كانت جد مخيبة: إفلاس تام لهذه الوزارة وعجزها عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المستفيدين داخل الحيز الزمني لإنجاز هذه المشاريع، صار حاملو طلبات الدعم دائنون وهم في الأصل بدون رأسمال فعلي، فيما أصبحت الوزارة هي الطرف المدين الذي عليه سداد الدين رغم أنها في الأصل صاحبة الرأسمال الفعلي، وهذه مفارقة غير مفهومة اقتصاديا. انتهت وزارة التقدميين بزلزال ملكي أعفي فيه الوزير بقرار ملكي، بعد افتحاص أعلن موت سياسة دعم الصناعات الإبداعية، ولكن المستفيدين رفضوا التوقيع على شهادة الوفاة. بعد 20 سنة، ما الأرقام التي تحصلت لنا؟ 30 مليار سنتيم رصدت ل (إنتاج/ ترويج/ اقتناءات داخل وخارج دفاتر التحملات/ اقتناءات المراكز الثقافية والمسرح الوطني...) استفادت منها في الغالب أسماء بعينها في المركز حتى لو اشتغلت في الجهات الأخرى، أشار تقرير المجلس الأعلى للحسابات إلى أن جهتي الرباط – سلا- زمور- زعير والدار البيضاء الكبرى استحوذتا على أكثر من 59,25% من قيمة الموازنة المخصصة للدعم الفني، أي 43,70% من الجمعيات المدعومة كانت كلها من المركز في وقت تنحو فيه الدولة نحو دسترة الجهوية المتقدمة، ناهيك عن استفادة أسماء بعينها طيلة عقدين من الزمن، حظي مخرج مسرحي محسوب على حزب وزير سابق في سنتين متتاليتين بحوالي ملوني درهم (2.000.000,00) لإنتاج وترويج مسرحيتين، سوقهما بالمجان أمام مقاعد شبه فارغة وتنصل من دفع أجور العاملين معه كاملة، ومُكِّن آخر محسوب على الحزب الإسلامي الحليف من دعم توطين فرقة مسرحية في مدينة لا يقيم فيها لا هو ولا أفراد فرقته، والنتيجة فشل ذريع في التواصل كما في تحقيق العائدات: استهلاك مفرط للطاقة عجزت مصالح المديرية الجهوية عن تسديده وكاد يتسبب في قطع الكهرباء عن المركز، وإهلاك لمعدات الصوت والضوء دون احتساب قيمة الخسائر (مقاعد/ كواليس/ مصابيح ومرافق) كل ذلك دون تحصيل الوزارة الوصية على أية عائدات تذكر. في المقابل، ليس هنالك أي رقم حول مداخيل هذه العروض ومردوديتها في الشباك، فهي تقدم بالمجان وأمام مقاعد شبه فارغة ودون شراكات إعلامية تسهم في التسويق لها، كما في غياب القدرة على إيجاد شركاء مستقلين لرعاية الفنون (Mécénat). أليس كل ما يقدم بالمجان تنتفي عنه صفة المنتوج؟ فكيف للمهنية أن تتحقق من دون منتوج قابل للاستهلاك ومدر للدخل؟ بدورها، وزارة المالية التي أشرت على صرف هذه الملايير طيلة 20 سنة لم تتلق في مقابلها أية عائدات تذكر، وهذا عنوان كساد وإفلاس، فالعائد الاعتباري لوحده –إن وجد– لا ينتج فائض قيمة مادي. تخصص وزارة الثقافة الفرنسية مثلا لمسرح الكوميديا الفرنسية (La comédie française) ميزانية سنوية تقدر ب 12 مليار سنتيم لكن مردود التذاكر لوحدة يفوق 8 مليارات سنتيم بالإضافة إلى 5 مليارات أخرى هي عائدات جولات الفرق، وحقوق السمعي- البصري والمحلات التجارية والمطاعم التابعة له ومداخيل الرعاية (Mécénat)، بمعنى أنه يحقق أهداف المواطنة والتنوير كاملة زائد ربح صاف للدولة بمقدار مليار في السنة، والشيء نفسه بالنسبة لمتحف اللوفر الذي تخصص له الدولة الفرنسية 220 مليار سنيتم سنويا لكنه يعود بأرباح تفوق ألف ومائتي مليار سنتيم، مع عمل قار لألفي شخص، بالإضافة إلى خمسة عشر ألفا آخرين موزعين على قطاعات مجاورة للمتحف (فنادق/ مطاعم/ متاجر/ مواصلات/فنانين...). في النموذج الفرنسي نتكلم عن فائض قيمة فعلي، ومن دونه، فإن المواطن الفرنسي المعروف بعشقه للفنون سيطالب حتما بوقف تمويل المسارح والمتاحف من أموال دافعي الضرائب إن كانت هذه مشاريع خاسرة ماليا، ففي النهاية ليست الحكومات مجرد مؤسسات للريع، ولكنها شركات ناجحة تحسن توظيف مدخرات الشعب واستثمار مقدراته لخلق الثروة وتحقيق النمو الذي يكفل الرخاء للجميع. لم تخدم سياسة الدعم مصالح الفنان المغربي في شيء، بقدر ما خدمت مصالح قلة من المنتفعين والمقربين من دواوين الوزراء إما لقرابة حزبية أو لامتلاكهم وصل إيداع يخول لهم التحدث بلسان غيرهم، فإلى حد الساعة لا يتوفر الفنان المغربي على بيان أجرة (une fiche de paie) يحدد دخله الإجمالي والصافي والاقتطاعات التي يساهم بها في الصناديق الاجتماعية، فيظل بذلك عرضة للتشرد والضياع والاستغلال من لدن سماسرة الريع، هذا شائع جدا ومعروف في كل واقع فني يحكمه الريع. إثقال كاهل الوزارة بمبالغ ضخمة تخصصها للريع لن يسمح لها بتجميع إمكانياتها واستثمارها في بنيات مدرة للدخل وقادرة على الإنتاج والترويج بحيث يستفيد منها المبدع والمواطن معا. فالمراكز الثقافية التي تنجزها الوزارة ضمن مشاريع التنمية البشرية عبارة عن دور شباب للتنشيط لا غير، وهي لأجل ذلك فضاءات مكلفة وغير منتجة بالمرة، عكس شبكة المراكز السوسيو-ثقافية التابعة لمؤسسة محمد السادس مثلا التي تستمد نجاحها في التسيير والبرمجة من تحقيقها لعائدات مقبولة عبر مداخيل الانخراط والأوراش الفنية وكراء الفضاءات، يؤهلها لذلك الحكامة والترشيد وأيضا الطبيعة المعمارية المعاصرة لهذه الفضاءات النشيطة. لماذا كل هذا الفشل الذي أبانت عنه هذه السياسة طيلة عقدين من الزمن؟ لثلاثة أسباب بنيوية: 1. الافتقار للذكاء وللأفكار النيرة التي هي عماد إنتاج الثروة. فالوزارة تفتقر لمراكز البحوث والدراسات، وتهدر مداخيلها المتواضعة في برامج هزيلة للتنشيط الفني تفتقر لقوة الجذب الجماهيري، وفي توزيع الأغلفة على فنانين وجمعيات غير قادرة على تشغيل هذه الأموال وتوظيفها لافتقارها للهندسة الثقافية، في حين إن دور الوزارة الحقيقي هو التخطيط لتحويل بنياتها إلى مؤسسات للربح المادي الذي من دونه لن تتحقق أهداف المواطنة. وكيف يمكن لذلك أن يتأتى؟ بخلق شبكة للمراكز والمسارح والمهرجانات بشراكات مع مجالس الجهات والمدن والقطاع الخاص تكون لها إمكانية إنتاج العروض وتسويقها بما يضمن عائدات تغطي تكاليفها على الأقل. لا توزع وزارة الثقافة في فرنسا الدعم على الفرق ولكن المسارح الوطنية والجهوية والبلدية هي التي تخطط وتنفذ إنتاج عروض فنية داخل مجالها الترابي قابلة للتسويق، كما تشرف هذه المسارح على تسيير مرافق تجارية موازية لها، وتحرص على خلق فرص الشراكات والحوار مع المؤسسات الوطنية والدولية الداعمة للفنون، بما يسهم في إنتاج فائض القيمة المادي. ففي النهاية لا ينبغي أن نغفل أن مسألة الرعاية الفنية في التشريع المغربي نفسه تخضع للقوانين المنظمة لاعتمادات الاستثمار من الناحية الضريبية، لذلك فهي لا تعتبر دعما أو مساعدة مهدورة أو حتى قرضا تضامنيا لا يرد، كما تكرس مع سياسة دعم الصناعات الإبداعية لوزارة الثقافة، وإنما ينبغي أن تندرج ضمن سياسة الاستثمار المنتج. 2. أفول الروح لدى من اعتادوا الريع وثقافة الاستجداء، فأصبحوا يلخصون مشروع الوزارات في مجرد أرقام تدخل جيوبهم، وفاتهم أن يدركوا جوهر فلسفة الأرقام التي لا تتلخص في مجرد قيمة كمية بقدر ما تمثل كنه الوجود ذاته، وحدها الأرقام لا تقبل الصدفة أو ترضخ للثبات، والاحتكام للرقم هنا علامة على الفشل. 3. غياب الضمير؛ ذلك أن وضع المصلحة الذاتية فوق مصلحة الدولة والمواطن يعني الاستخفاف بالعدالة المجتمعية، ولا يفتقد الحس بقيمة العدل سوى معدوم الضمير. هل نحن اليوم في مغرب ما بعد خطاب العرش 2017 المتسم بسرعة إنتاج وتداول الصور والمعاني ما زلنا في حاجة إلى سياسة لدعم الفنون؟ الإجابة هي كثير من (لا) لكن في طياتها أيضا قليل من (نعم)، أجل (نعم) في حالة ما إذا تهيكل ذلك ضمن سياسات جهوية للنهوض بالمسارح الوطنية كمؤسسات منتجة للثروة وللقيمة الفكرية، وهذا لن يتأت إلا بشيئين: - إذا تخلت الوزارة الوصية عن دعم الفنون لصالح إنشاء شبكة للمسارح الجهوية قادرة على خلق فرص التعاون مع شركاء آخرين وعلى التخطيط للإنتاج والتسويق بهدف تحقيق العائد المادي ومنح فرص متكافئة لجميع الفنانين كما هي حالة فرنسا مثلا، أو بخلق مؤسسة وطنية مستقلة لإنتاج وتطوير وتسويق فنون العرض الحي وإدارة المسارح الجهوية التابعة لها على غرار ما هو معمول به في اليابان مثلا، وفي كلتا الحالتين لا يمكن صرف موازنات إلا في ضوء العائدات، وكل سيستهلك ما سيكون قادرا على إعادة إنتاجه وتدويره. - وإذا تطور المنتوج الفني ليواكب التكنولوجيات الجديدة والوسائط التي غيرت وإلى الأبد من طبيعة فنون الأداء وطرق إنتاج المعاني وتقبلها. ينبغي أن نقر بأن المسرح المغربي انتهى إلى حالة انسداد (Ankylose) تلزمنا الإقرار بأن المشكل ليس في قلة أغلفة الدعم، بل في سياسة الدعم نفسها. المسرح الذي نراه اليوم غير قادر على الجذب الجماهيري لأنه لا يروق لذائقة المغاربة المتمرسين بشتى الوسائط الرقمية، هو لذلك لا يمكن أن يكون مصدر أي نجاح تجاري. كثير من المغاربة الذين نتخذهم مطية للترويح للريع الفني (تقريب الفن من المواطنين) لا يخفون استخفافهم بالمسرح المغربي الراهن ويعتبرون دعمه إهدارا للمال العام، فهذا المسرح متخلف عن الذكاء الرقمي الذي تحقق للجمهور في ضوء احتكاكه بالتكنولوجيات الجديدة وبالتطبيقات الرقمية، حيث معظم المسرحيات ما تزال ترتكز على المضمون والتمثيل (الليف المنطقي Fibre Logique) وليس على الإبهار المرئي (الليف البصري Fibre Optique). نحتاج اليوم إلى فهم طبيعة هذا الانسداد لأن عدم الفهم هو الذي ينتهي بنا إلى النظر إلى الأمور بعين اليأس، واليأس غير مطلوب في حالتنا بالمرة لأن التشاؤم هو سمة القوي والمنطلق لا الواهن الساكن في مكانه، وأولى خطوة عملية لفهم طبيعة هذا الانسداد ضرورة استيعاب حقيقة أن السند الافتراضي الجديد للفنون ليس مجرد أدوات ووسائط جديدة نستعملها، بل نحن من صرنا وسائط لها تستعملنا كما تريد، بحيث يؤثر مفعولها على جهازنا النفسي وعملياتنا الذهنية وأطر معارفنا، فكيف يستقيم في ظل هذا الوضع أن يتكلس الجهاز التقني لوزارة الثقافة الذي للأسف كشفت عمليات إعلان مباريات المسؤوليات الشاغرة، وإعلان طلبات العروض الخاصة بدعم الصناعات الإبداعية، والبرمجة الثقافية الهزيلة، عن قصور واضح في إدراك جوهر الأمور، وفي استمرار لنفس السياسات ولو بوجوه جديدة، كما لو أنه ليس هنالك خطاب ملكي لعيد العرش 2017 وليس هناك تقارير للمجلس الأعلى للحسابات لسنة 2016، وليس هناك تقرير مؤسسة الوسيط الذي سجل-بعد رصد منتظم لما يجري في الإدارات المركزية-عدم الإقلاع عن ممارسات منبوذة توحي بسطوة السلطة واستمرار استعلاء بعض القائمين عليها، واشتغالهم وفق بيروقراطية لم تعد مقبولة، ونمطية مفتقرة لكل مبرر؟ نحن على يقين بأن الوزير الحالي يعطي أفضل ما لديه، ويصارع دهاقنة اعتقدوا لوقت قريب أن وزارة الثقافة صارت ضمن ممتلكاتهم، ولكن ما تزال هنالك ثغرات ينبغي سدها وما نزال في حاجة إلى الأفكار النيرة، فوزارة الثقافة في النهاية وزارة للذكاء بامتياز. هذا لن يتأتى بالكفاءات ولا شيء غير الكفاءات.