أصيب عدد كبير من الملاحظين والمحللين السياسيين بصدمة كبيرة عند سماع خبر الانقلاب العسكري الأخير الذي حصل في موريتانيا يوم الأربعاء 6 غشت الجاري، حيث عبر الجميع عن قلقه إزاء الوضع في هذا البلد الذي يضع التقدم الديمقراطي الملحوظ في محل شك ويؤكد بوضوح بأننا كنا نعيش في وهم اسمه وهم التجربة الديمقراطية الموريتانية والتي كانت حقا عبارة عن سحابة صيف انقشعت سريعا ، ولقد اشتهرت موريتانيا بالانقلابات العسكرية حيث شهدت منذ استقلالها عام 1960 حوالي عشرة انقلابات أو محاولات انقلاب عسكرية وهذا بحد ذاته مؤشر يدل على عدم استقرار البلد و عامل يؤدي إلى المزيد من الفقر والتخلف والفساد. "" ولقد تظافرت عدة أسباب ودواعي لحصول هذا الانقلاب في موريتانيا نذكر من بينها وأهمها تبعا للسياق العام الموريتاني كون العلاقات الاجتماعية في هذا البلد العربي تحددها مفاهيم قبلية بائدة، إذ لم يتمكن المجتمع الموريتاني رغم كل ما عرفه مؤخرا من تغيرات من تحقيق أي تقدم في مجال بناء قاعدة اقتصادية حديثة ولو بأدنى درجات التواضع، كما أن جوهر القضايا المركزية التي يتفاعل حولها الموريتانيون لا تتجاوز في الغالب حدود الصراعات الدائرة بين القبائل التي أصبح لها أحزاب تمثلها باعتبار أن الأحزاب وسيلة للوصول إلى السلطة و لتحقيق التميز في المكانة الاجتماعية على القبائل الأخرى وليست وسيلة لتحقيق برامج تنموية في ميادين مختلفة. وقد أخدت هذه العقلية القبلية بالانتقال من الشكل التقليدي للتعبير عن وجودها السياسي إلى الشكل الحزبي منذ أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي و بذلك ظهرت الكثير من القوى السياسية حيث طغت على معظمها الشخصنة الحزبية والديكتاتورية والفردية والانقسام تبعا للنفوذ القبلي من ناحية وتبعا لضعف النخبة السياسية من ناحية أخرى. وبالرغم من ظهور أحزاب كثيرة في موريتانيا فان الحزب الحقيقي الذي ظل يتحكم بسير الأمور في البلاد في معظم الأحيان هو حزب غير رسمي أي ليس له أي كيان وعبارة عن مجموعة من المستقلين من وجهاء وزعماء القبائل وبعض التجار و الموظفين السابقين الكبار في الدولة وهم يمثلون قوة ضغط كبيرة قريبة من المؤسسة العسكرية والتي تعتبر في الواقع الحزب الحقيقي الحاكم في كل المراحل التي مرت بها موريتانيا. بالإضافة إلى ذلك، ففي موريتانيا لا يوجد في الواقع صراع سياسي بالمعنى الحديث للصراع السياسي أي صراع من أجل الارتقاء بالوطن نحو الأفضل بل هو صراع على السلطة ومن أجل السلطة ، ولهذا فان كل من يركب دبابته مبكرا فجر أحد الأيام ويسيطر على قصر الرئاسة ومقر الإذاعة يصبح رئيسا ويبقى له فقط أن يكون جزءا من تحالف قبلي يدعمه ويؤازره، وإذا شعرت فيما بعد قبيلة أو مجموعة من القبائل أن الرئيس تخلى عنها أو قزم من دورها أو حجب عنها بعض الامتيازات فإنها تنقلب عليه و تتحالف مع غيره، ولهذا فليس من الغرابة أن يبتلي هذا البلد العربي بالانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي طالما أن وسائل الإنتاج ما زالت شبه رعوية و شبه زراعية فإنها لن تفرز إلا علاقات بدائية متخلفة ورجعية، وطالما أن العقلية المسيطرة في مجتمع هي عقلية قبلية بكل ما تعنيه علاقات الدم والنسب من قيم عليا فان الحياة السياسية لن تتمكن من الارتقاء لمواجهة المعضلات الحقيقية التي تواجهها البلاد. وهذه المنظومة الإنتاجية الفكرية الاقتصادية والاجتماعية لن يكون بمستغرب معها أن تشهد انقلابات عسكرية بين الفينة والأخرى، ولن تتمكن من وضع قواعد ثابتة للديمقراطية. وعلاوة على هذا وذاك، فان المتتبع في الأشهر الأخيرة للتطورات في موريتانيا يجد أن الدافع وراء هذا الانقلاب هو بالدرجة الأولى دافع شخصي وليس لمصلحة الشعب كما يدعي الانقلابيون لتبرير انقلاباهم ، حيث أفادت الأنباء المحلية والدولية بان هذا الانقلاب العسكري جاء مباشرة بعد ساعات من توقيع الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قرارا بإقالة كل من قائد الحرس الرئاسي الجنرال محمد ولد عبد العزيز وقائد أركان الجيش الجنرال محمد ولد غزواني، إذ كرد فعل على هذا القرار، قام هؤلاء الضباط ا بانقلاب عسكري على الحكومة وأعلنوا في أول بيان لهم تلاه وزير الاتصال والثقافة الموريتاني، عن انتهاء عهد الرئيس ولد الشيخ عبد الله، وإلغاء قرار إقالتهم وتشكيل "مجلس دولة" لتسيير شؤون البلد بقيادة الجنرال محمد ولد عبد العزيز. وهكذا ردت المؤسسة العسكرية للرئيس"محمد ولد الشيخ " الصاع صاعين وقامت بمعاقبته على مواقفه من الجيش حيث رأت في تصرفاته تضييقا عليها وعملا يهدف إلى تهميش دورها وتحديد صلاحياتها وامتيازاتها، ويدل مثل هذا التصرف على استهتار هذه المجموعة من الضباط بالقيم الديمقراطية والوطنية، واحتقارهم لإرادة الشعب واعتبار أنفسهم فوق الشعب وفوق القانون والدستور دون أي احترام لصناديق الانتخابات وإرادة الشعب. ولقد استغل الانقلابيون معاناة الشعب الموريتاني في الأيام الأخيرة من الفقر وتصاعد موجة غلاء أسعار المواد الغذائية لتحقيق غرضهم في اغتصاب الديمقراطية، رغم أن موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية هي مشكلة عالمية اجتاحت العالم كله وليست من نتاج الحكومة الديمقراطية الموريتانية المنتخبة، كما أن أخطاء الحكومة المنتخبة منذ عام هي مسألة طبيعية لآن من خواص الديمقراطية وخاصة الناشئة منها أن تحصل أخطاء فالأخطاء لا بد منها لأنها في نهاية المطاف تساعد على تفهم الشعب وعلى ترسيخ ديمقراطية ناضجة. ولم يقم هؤلاء الانقلابيون بهذا الانقلاب العسكري من أجل سواد عيون الموريتانيين أو تعاطفا مع الفقراء والمسحوقين، بل فعلوا هذا خوفا على مصالحهم وامتيازاتهم ، وبذلك فهو انقلاب غير شرعي قام به مجموعة من المنتفعين العسكريين على رئيس دولة ، مهما قيل في حقه، يظل رئيسا منتخبا وفق المعايير الديمقراطية المتعارف عليها كونيا. وهذا ليس دفاعا عن رئيس موريتانيا بقدر ما هو دفاع عن الشرعية ومن حق الشعب وحده عبر الهيئات الممثلة له الدفاع عن مؤسسات الدولة والمطالبة بالتغيير إذا لزم ذلك. ومهما تكن الأسباب الكامنة وراء مثل هذا الانقلاب الأخير، سواء كانت شخصية أو قبلية أو مرتبطة بأجندات سياسية حزبية أو إقليمية ودولية فإنها تنم عن شئ واحد ألا وهو استمرار التعاطي مع مختلف الأزمات الناشئة بنفس تلك الطريقة التقليدية البدائية من الاحتكام للانتقام والسلاح بدل الحوار وصناديق الاقتراع وأن التأسيس لثقافة الحوار و الاحتكام لصناديق الاقتراع و الآليات الديمقراطية الأخرى ما زال مبكرا الحديث عنها، لان الديمقراطية ثقافة كاملة وكل لا يتجزأ ، ورزمة من الممارسات الاجتماعية والسياسية المتجانسة، فلا يعقل أن بلدا لا زال يمثل الفساد و التجاوزات ركنا أساسيا في بنية هيكلته الا دارية والمعيشية يمكن أن يعرف أي شكل من الفعل و الحس لأن الديمقراطية ليست ثوبا يفصل ويتم تلبيسه لأي كان جسمه واستجلاب الديمقراطية بقرار هو عمل كمن ينقل دما لجسم لا يحمل نفس الفصيلة الدموية وبكل ما يترتب على ذلك من "اختلاطات ومضاعفات". وتأسيسا على ما ورد ذكره ، يمكن القول أن ما حدث في موريتانيا يؤكد بالملموس أن شبح الانقلابات العسكرية لا يزال ماثلا في المخيلة العسكرية لبعض الدول العربية ولا زال ماردا متعملقا في الثكنات العسكرية التي تستنزف نسبة كبيرة من الثروات العربية تحت ذريعة التسلح لحماية الأمن الوطني والقومي ، ويعود مظهر العسكر من جديد بوجهه القبيح ليضفي مرة أخرى ملامح الظلام على الحياة العربية ويغتصب الديمقراطية الناشئة والشرعية. وعلى كافة دول العالم والمنظمات الديمقراطية والمدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان والأحزاب الديمقراطية أن تتحرك بسرعة لإدانة هذا السلوك الإجرامي الانقلابي واعتباره انقلابا على الديمقراطية وعدم الاعتراف بحكومة الانقلابيين حتى وان تعهدوا بإجراء انتخابات ديمقراطية في القريب العاجل، إذ ليست أية حاجة لمثل هذه الانتخابات في الوقت الحاضر، خاصة وأن حكومة محمد ولد الشيخ عبد الله باعتراف الرأي العام الدولي هي حكومة شرعية منتخبة ديمقراطيا قبل عام فقط كما أن المطلوب من هذه الحكومات بالموازاة مع ذلك تحرك عملي حقيقي واستصدار قرار أممي يقضي بإعادة الشرعية فورا للبلاد. [email protected]