العقد شريعة المتعاقدين؛ مبدأ قانوني عام معروف منذ عقود. لكن غير المعروف هو طبيعة أطراف العقد وخلفياته الإيديولوجية كاختيارات سياسية اقتصادية. ممكن أن يكون العقد ينتمي للقانون الخاص أو للقانون العام. ما يهمنا هنا هو هذا الأخير، أي تعاقد الدولة بمعناها القانوني مع الأفراد في إطار التشغيل في مؤسسات الدولة. هنا نجد في إطار القانون الدولي المقارن خلفيتين أو مرجعيين ذواتي اختيارين سياسيين اقتصادين: الاختيار الرأسمالي الفرداني الخاص والاختيار الاشتراكي الجماعي. اختيار رأسمالي ذو منطق مقولاتي تجاري ينتصر للمصلحة الخاصة، واختيار دولتي عمومي ينتصر لمنطق المنفعة العامة للمجتمع والوطن ككل. حين نغيب الخلفية الإيديولوجية السياسية والاقتصادية للقرارات والاختيارات السياسية وأهدافها المصلحية الخاصة التي قد تكون ضد المصلحة والمنفعة العامة لكل مواطني دولة معينة، قد لا نفهم حقيقة هذه الاختيارات والقرارات. السؤال اللغز هو لما تم مؤخرا اعتماد نظام التعاقد في التعليم كمقدمة لاعتماده في مختلف القطاعات الوزارية والخدماتية العمومية؟ الجواب واضح وبسيط؛ هناك هيمنة للاختيارات النيولبرالية والرأسمالية ذات الأهداف الواضحة جدا: الاستفراد بالخيرات الاقتصادية المالية للدولة عبر فرض هيمنة القطاع الخاص عليها، وذلك باعتماد قرارات واختيارات سياسية اقتصادية تصب نحو استغلال واستنزاف الخيرات العمومية لصالح القطاع الخاص كأفراد أو جماعات محلية أو دولية، ناهيك عن الفوائد الأمنية السلطوية الاستبدادية. مثلا، مغربيا: فرض نظام التعاقد في قطاع التعليم له عدة منافع/أهداف حسب ما رشح من متابعات نقدية: الاستفراد بأموال التقاعد من طرف صندوق الإيداع والتدبير عوض الصندوق المغربي للتقاعد، الالتزام بشروط الصندوق الدولي بعدم تجاوز نسبة 10.5 من ميزانية التوظيف... حسب الخطاب الرسمي الحجاجي للإقناع باختيار نظام التعاقد، نجد تطبيق اختيار الجهوية المتقدمة والتحكم ورفع نظام التوظيف والخصاص ومحاربة الاكتظاظ ... هذه أهداف ممكن تحقيقها باعتماد نظام التوظيف باعتماد الخصاص الجهوي مادام الممول للتوظيفات يتم من المالية العمومية المركزية عبر وزارة المالية. ممكن تحقيق الحاجيات الجهوية من الموارد البشرية باعتماد تمويل مركزي للمناصب المالية. الكل يعرف أن الهدف الحقيقي للحركة الاحتجاجية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد (نعم فرض عليهم التعاقد لأنه لا سبيل آخر سوى التعاقد للعمل) هو ضمان الاستقرار الوظيفي واستدامته في مؤسسة الدولة التي هي وزارة التعليم، لتحقيق أدنى شروط الكرامة والاستقرار والاطمئنان الاجتماعية والمهنية. السؤال اللغز الذي لا يجيب عنه مختلف مسؤولي الدولة؛ بما أن هناك مماثلة في الحقوق والواجبات بين أطر الأكاديميات والأطر الموظفة، لم لا يتم دمجهم في نظام الوظيفة العمومية وإعفاء الجميع، دولة ومعنيين، من صداع وهدر الزمن والمجهودات والمشاكل الأمنية؟ أظن إن كانت هناك جدية ومصداقية مواطناتية، يجب اعتماد حلين لا ثالث لهما: إما اعتماد نظام قانوني أساسي توظيفي جهوي أو نظام أساسي توظيفي موحد عام يدمج الجميع في نفس الحقوق والواجبات مركزيا... دون ذلك، سوء تدبير سياسي وغموض وجهل ناتج عن سوء كفاءات تدبيرية مركزية ودولتية. أما مجرد اعتماد القمع والعنف الأمني في غياب أي جواب أو حل سياسي مؤسساتي للجواب عن مطالب ونضالات الفئات المتضررة من الاختيارات السياسية العمومية الخاطئة لمسؤولي ومدبري الدولة الحاليين، لن يزيد الأوضاع الاجتماعية والمهنية في التعليم إلا احتقانا وحقدا على السياسات والاختيارات العمومية. وهذا سيعطل ويفشل كل المشاريع الإصلاحية والتنموية التي تستهدفها كل الإرادات المواطنة داخل دواليب الدولة المغربية.