إن القارئ، الذي سيرى عنوان هذه المقالة قبل الدخول إليها أو الضغط عليها، سيصدم من خلال إيمانه بفكرتين مسلمتين: أولاهما هي أن تفعيل الجهوية غير مرتبط بالتوظيف، بل يرتبط بمسائل أخرى رئيسية يجب أن تتوفر؛ وثانيتهما هي أن الشارع المغربي يعرف تصاعد احتجاجات الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد بتنسيقيتهم الموجودة على أرض الميدان ولا يمكن إجحادها، بالإضافة إلى النقابات الأكثر تمثيلية التي بدورها تساند نضالات هذه الفئة من الشغيلة وفق أرضية وحدوية. بالطبع، إن عنوان المقالة يحتوي على مفاهيم يجب الوقوف عندها كالتوظيف والجهوية، لاستخلاص العلاقة بين المفهومين؛ بإثارة أسئلة يمكن أن نستعين بها لنفض الغبار عن العلاقة العجيبة التي تربطهما، لا سيما أن هذا الشعار الضمني تحمله الحكومة ووزارتها الوصية على قطاع التربية والتعليم وتدافع عنه عن طريق المنابر الإعلامية وبياناتها وبلاغاتها التي تتمثل في الوعيد والتهديد، دون القمع الذي وظف اتجاه أشرف خلق هذا الوطن في تظاهراتهم السلمية، ولما لا نصطلح عليها التظاهرات التعليمية والتربوية على الجهات اللامسؤولة واللاإدارية. بالنسبة إلى مفهوم التوظيف، فإنه مجموعة من العمليات من خلال إدارتها تسعى المؤسسة إلى استقطاب احتياط مهم من الموارد البشرية يتيح لها اختيار تلك التي تطابق مؤهلاتها بشكل أمثل مع مقتضيات مراكز العمل الشاغرة، أو بتعبير آخر هي مجموعة من الفعاليات التي تستخدمها منظمة أو مؤسسة لاستقطاب مرشحين للعمل والذين لديهم الكفاءة والتميز والقدرة على المساهمة في تحقيق أهداف هذه المنظمة أو المؤسسة. في المغرب، وبإضافته لكلمة "التوظيف" كلمة أخرى المتمثلة في العقدة، جعل الأمر شيئا معقدا وغير مفهوم، لا سيما إن جردناه من سياقه السياسي والاقتصادي. بالفعل، إن التوظيف بالعقدة هو من أجود الصياغات التي ابتكرت في عالم سوق الشغل؛ لكن عندما نتحدث عن الدول المتقدمة والمتطورة، حيث تتوفر على سوق شغل مليء بالفرص وإثبات الكفاءة واختيار المجال المناسب للعمل. أما في المغرب، فإننا نتحدث عن دولة من حيث الموارد الطبيعية-الاقتصادية جد ثرية، لكن بفضل التبعية لفرنسا تعذر ظهور هذه الثروة ليلامسها الشعب المغربي في أول شيء هو توفير مناصب شغل قارة الدخل. ومن هذا المنطلق، فإن المغرب لا يمكن أن نصنفه دولة متقدمة نظرا لغياب الكفاءة الاقتصادية والسياسية إلغاء التبعية والتأسيس لاقتصاد وطني. وكإشارة في هذا السياق، نجد أن كتابات المهدي عامل نراها أمام مرأى أعيننا وكأنه حي بيننا، بالفعل، فهو حي من خلال تحليله العلمي لأنظمة الكولونيالية الهجينة اقتصاديا. أما فيما يتعلق بمفهوم الجهوية التي تعتبر الحبل الذي ينشر عليه كل إخفاق وفشل أي مؤسسة رسمية، فإنه يجب الوقوف عند عتبته بشكل جدي وعلمي، لنرى هل من المنطقي أن نؤسس لجهوية بالاستناد إلى التوظيف بالعقدة وخاصة في قطاع التعليم؟ وهل الإجحاف في حقوق الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد من خلال النظام الأساسي المبهم قاعدة أساسية من أجل القيام بعدالة جهوية؟ وهل تأسيس وتطوير نظام اللاتمركز يعتمد على قطاع التعليم كقطاع منتج للرأسمال اللامادي المتمثل في التعليم والمتعلمين أم على قطاعات اقتصادية منتجة للرأسمال المادي المحض؟ الجهوية هي تنظيم هيكلي وإداري تقوم بموجبه الحكومة أو السلطة المركزية بالتنازل عن بعض الصلاحيات لفائدة الجهات المكونة للوحدة الترابية للدولة؛ لتعزيز التنمية المحلية، وتنشيط التبادلات الاقتصادية، وتقريب الإدارة والدولة من المواطن عبر صياغة سياساتٍ محلية تراعي خصوصيات كل جهة على حدة. والدافع الأهم إلى نهج الجهوية هو إحداث قدر من التوازن التنموي والاقتصادي بين الجهات المشكلة للدولة، وتحفيز التنمية المحلية وتحريرها من المركز. ومن أنواع الجهويات نجد المتقدمة والموسعة، وهذا ما نلاحظه على غالبية المسؤولين لا يميزون بين الاثنتين، إذ المتقدمة تكون مع تطور بنيات النظام السياسي وتداخل الصلاحيات. لهذا، فالمتقدمة هي بمثابة رافعة للتنمية على المستوى الوطني لخلق توازن بين الجهات مع مراعاة الخصوصية، وأيضا لتطوير المنشآت الاقتصادية الأكثر حيوية وإنتاجية والاستثمارات. أما الموسعة، فهي المرحلة الثانية بعد المتقدمة وهي مرحلة الاستقلال التام من المركز، وتعتبر شكلا من أشكال الاستقلال الذاتي؛ لكن لا يعني الاستقلال عن الدولة كحلقة مركزية لا يمكن الانفصال عنها. بدأ المغرب النقاش حول الجهوية مع إقرار دستور 1992 و1996، ولم ترسى أسس هذا النظام إلى مع تولي كرسي العرش الملك محمد السادس سنة 1999 مع الأقاليم الجنوبية التي شكلت بداية التجربة نظرا للمشاكل التي كانت تعانيها الدولة مع هذه الأقاليم التي تطمح إلى الاستقلال الذاتي عن الدولة المغربية. في المقابل، نجد الجهوية مفهوما قد لقي نفسه في أرض الواقع بعد نجاحها مبكرا في ألمانيا سنة 1949، إسبانيا سنة 1978 والجهوية الإدارية في فرنسا سنة 1982. هذا النجاح لهذا النظام الجهوي في البلدان سالفة الذكر كان إثر اعتمادها للجهوية على أساس واحد؛ وهو العدالة التي تأتي بتقسيم الثروة الوطنية بشكل عادل بين الجهات والبدء بالبنية التحتية أي الاقتصاد المادي بهيكلته وتطوير إنتاجيته، ولم يكن بالإجهاز عن الوظيفة العمومية بدعوى إرساء الجهوية كما يقع في المغرب. إن إرساء الجهوية بشكل فعال يستدعي الثروة الوطنية بتوزيعها بشكل عادل ومنصف بين الجهات وليس حصرها في جهة معينة وفقط، والمثل للامتيازات التي يجب أن تعمم على جميع الجهات وليس كما يحصل مع الأقاليم الجنوبية. رجوعا إلى الحكومة ومسؤولي المؤسسات العمومية الذين يستشهدون بخطب الملك محمد السادس، نجد أن هناك فهما سطحيا للخطابات، وهذا ما يتنافى مع الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش في 30 يوليوز 2015، إذ قال: "... فإقامة المؤسسات، على أهميتها، ليست غاية في حد ذاتها. كما أن النمو الاقتصادي لن يكون له أي معنى، إذا لم يؤثر في تحسين ظروف عيش المواطنين..." هذه الفقرة التي توضح علاقة النمو الاقتصادي وتحسين ظروف عيش المواطن، أي بمعنى أن التطور الاقتصادي أي الثروات التي تحتوي عليها كل جهة معينة هو المدخل نحو عيش أفضل للمواطن المغربي ولإقامة عدالة مجالية، وليس كفهم رئيس الحكومة الذي صرح بأن الحركة الانتقالية وخاصة الالتحاقات بالزوج أو الزوجة هو أمر مرفوض وأن عمق هذا الإصلاح ما هو إلا لتحقيق العدالة المجالية. هذا التصريح الذي خرج به رئيس الحكومة يبخس ويتنافى مع الخطب الملكية الرامية إلى أن العدالة المجالية مرتبطة بالنمو الاقتصادي وليس الحركة الانتقالية في قطاع التعليم. ولأكبر دليل عن فشل الحكومة وعدم الانضباط والاجتهاد في كل ما وضعته المؤسسة الملكية هو النموذج التنموي الذي يرتبط بشكل وثيق مع تفعيل الجهوية، وهذا ما نجده في الخطاب الملكي الذي جاء بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2017-2018 "إن المشاكل معروفة، والأولويات واضحة، ولا نحتاج إلى المزيد من التشخيصات. بل هناك تضخم في هذا المجال… وقد وقفنا، أكثر من مرة، على حقيقة الأوضاع، وعلى حجم الاختلالات، التي يعرفها جميع المغاربة. أليس المطلوب هو التنفيذ الجيد للمشاريع التنموية المبرمجة، التي تم إطلاقها، ثم إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق، للمشاكل الحقيقية، وللمطالب المعقولة، والتطلعات المشروعة للمواطنين، في التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها؟... إن المغاربة اليوم يحتاجون إلى التنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتسهم في الاطمئنان والاستقرار، والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية ، التي يطمح إليها كل مواطن..." إن المقارنة بين الخطب الملكية في هذا الموضوع والحكومة التي من المفروض أن تكون أداة تفعيل هذه المضامين نجد هناك هوة كبيرة؛ فالمضامين تنص على العدالة المجالية في تفعيل المشاريع الاقتصادية على أرض الواقع وضمان فرص الشغل والاستقرار في الحياة المهنية، لكن ما نجده ممارس في قطاع التعليم من طرف الحكومة ووزارتها الوصية على الشغيلة يتنافى بالمطلق، والمدخل الذي دخلت منه الحكومة من أجل إرساء الجهوية هو مدخل فاشل ولا يزيد إلى فشل مشروع الجهوية الذي يعتبر ورش ملكي كبير يدخل ضمن الأوراش الماكرو-اقتصادية، وأي فشل في هذا الجانب فالحكومة هي التي تتحمل المسؤولية وليس الشغيلة التعليمية التي فرضت عليها تحمل وزر لا ناقة لها فيها ولا جمل؛ لأن المدخل الحقيقي وهو التركيز على الجانب الاقتصادي المادي المنتج وليس على قطاع التعليم الذي من الفروض أن تتدخل فيه بشكل إيجابي من أجل تطويره لأن المواطنة الحقيقة تكتسب من خلال تعليم علمي ذي جودة. بالرجوع إلى الأكاديميات الجهوية لمهن التربية والتكوين والتي تعتبر مؤسسة مستقلة في إطار نظام الجهوية والتي تسير الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، عندما تسأل عن مصدر الاعتمادات المالية التي ستخصص لهؤلاء الأساتذة، فجوابها يكون على شكل صيغتين: الأولى هي أنها مؤسسة لها الحق في المال العام. جيد، إن كان هذا حقا لها، فلماذا لم يبق التوظيف كما عهدناه في أسلاك الوظيفة العمومية؟ والصيغة الثانية هي أن الأكاديميات ستقوم ببيع الخدمات. وهنا نتساءل عن نوعية الخدمات التي ستبيعها الأكاديميات من أجل صرف أجور الأساتذة؟ عند التمعن في هذا السؤال والبحث عن إجابة له لا نجد أي خدمات ستبيعها إلا خدمة واحدة، وهي خدمة التعليم. أي بمعنى، أن الحكومة ما زالت تسعى إلى خوصصة التعليم والضرب في مجانيته. في هذا السياق، نقول بأن هذه المخططات التي تأتي عن طريق إملاءات صندوق النقد الدولي من أجل إقراض أموال خيالية والاستعانة بها في أشياء أخرى وجعل قطاع التعليم قنطرة للوصول إلى أهداف لا ترمي إلى خدمة المواطن والمواطنة المغربية لن تزيد إلا احتقانا، والمقاربة الأمنية لن تجد ثغرة تدخل من خلالها من أجل فك هذا الاحتقان؛ بل فكه لن يأتي إلا عن طريق الإدماج في النظام الأساسي للوظيفة العمومية، دون اللعب في المفاهيم والكلمات، لأن الفئة التي تطالب حقها اليوم هي فئة متعلمة وتعلم الأجيال المقبلة. *أستاذ اللغة الأمازيغية فرض عليه التعاقد