سأسطر هذه الأسطر من دون عود إلى مصدر أو ورد من أي مورد. سأترك لقلبي العنان وأعطي لعقلي المرهق بالأسئلة فرصة للاستراحة. كيف لا يكتب القلب ويخرس العقل والحديث هنا عن الحبيب المصطفى وعن إخوانه من أصفياء رب العالمين. لست ممن يرهب الأسئلة الوعرة ولا ممن يهاب تجشم وحشة الشك وغربة الفكر ولكنني مع هذا ممسك بتلابيب المباديء كيف لا وإن أرسلتها طوح بي في قفار الضلال أحسبها رياضا وهوت بي الظنون في أتون الظلام أحسبه نورا يهدي إلى صراط مستقيم؟ من مفاسد النظر الفكري الذهول عن المنطلقات الكبرى والتي تمثل مصادرات axioms النسق كما في علم الرياضيات ولا يمكن من هذا الوجه الحديث عن مفردات الإيمان وأصول الاعتقاد إلا بالتسليم بجملة من مصادرات الإيمان بحيث لا يستقيم أود النظر ولا عوده إلا من خلال الإيمان بها وإلا فإن عدم الإيمان بها يخرج الباحث فيها عن النسق المقول فيه إلى نسق آخر يقتضي لزوما أدوات مباينة ومنهجا مختلفا. لنتفق مع الإستاذ بوهندي أن الحديث هنا عن الأنبياء ومعناه أن الجدال في عصمتهم مع الإيمان بنبوتهم يختلف حين النظر عن الجدال في عصمتهم مع عدم ذلك الإيمان. ولهذا فالحديث عن العصمة هنا حديث بين مؤمنين مسلمين بالنبوة وهو ما يلزم بالتسليم بمقام النبوة وخصائصها. النبوة اصفاء إلاهي واختيار رباني بموجبه يوقع رب العالمين في روع أصفيائه وحيا بفرادتهم إعدادا لهم لتحمل القول الثقيل لإخراج الناس من حضيض التيه إلى يفاع الإيمان. وبموجب هذا الاصطفاء يتنزهون عن نقائص البشر ويتحلون بكمالات النبوة وإلا فما هو الفرق بين النبي وغيره ؟ ولماذا النبوة في الأصل؟ والعصمة نوعان: - عصمة خلقية - وعصمة جبلية فأما الأولى فهي التي بموجبها يكون الاصطفاء الأول بحيث يكون النبي مهيأ لاستقبال الوحي الرباني فلا يتصور أن ينزل الوحي على كذاب أو منافق أو جبان. فالنبي إنسان معصوم من الدناءات مترفع عن صغائر الذنوب وكبائرها. وشبيه بالأنبياء العظماء والمصلحون على مر التاريخ ارأيت عظيما أو مصلحا يكذب أو ينافق أو يخاف على مصلحة زائلة أو يطمع في مغنم حائل؟ وكيف يكون مصلحا من الأصل إن نزل في درك الدناءة وتلطخ ثوبه بمثلب من مثالب المروءة؟ وإذا كان هذا كذلك فلا يتصور في النبي إلا أن يكون معصوما وإلا لما كان الاصطفاء. يقول الله عز وجل في عصمة نبيه الخلقية: " وإنك لعلى خلق عظيم" وإذا كان كثير من الناس متخلقين بالخلق العظيم كان الحبيب المصطفى على هذا الخلق أي فوقه بمراحل تجعل رسول الله مثالا للكمال البشري لا تقوم القدوة إلا به ولا يستقيم الدين بدونه. و "على" هنا وهي من حروف المعاني تؤدي معنى الفوقية فمهما تحليت بخلق عظيم فالنبي الكريم فوق ذلك لا تستطيع اللحاق به في ميدان الكمالات صلى الله على حبيبي محمد وسلم. وأما العصمة الجبلية فمفادها أن الله يرعى حبيبه على عينه ويعينه ويهديه ومن هنا فقول الله تعالى " ووجدك ضالا فهدى" يحتاج إلى قلب منور بألإيمان ليفهم هذا الكلام الجميل. فما هو ضلال سيدنا محمد قبل النبوة؟ إنه الصادق الصدوق والأمين المؤتمن في قومه، وهو المتحنث في غار حراء بحثا عن ربه وإنكارا لما يعبد دونه. ألا ترى أن ضلال سيدنا محمد هنا هو من جنس هدايتنا نحن البسطاء ؟ ولهذا فهداية الله له لا يمكن ان تكون من جنس هدايتنا نحن إنها هداية من نوع آخر إنها هداية إكمال الكامل وإنارة المنير وزيادة الزائد نور على نور. ومن ظن ان الحبيب كان ضالا من جنس ضلالنا نحن فإنه لم يفهم بلاغة القرآن ولم يعرف مقام الأنبياء. ومن ظن أن هداية النبي من جنس هدايته فقد ترقى المرتقى الصعب وتجشم المركب الوعر وحق له أن يتواضع لأن هداية النبي مستحيلة على من هم دونه وإلا كان المؤمنون على صعيد واحد مع الأنبياء. ومع هذا فقد شدد القرآن الكريم على بشرية النبي لأن النبي لا يمكن أن يصل إلى مقام الألوهية. والقرآن الكريم حين اكد على هذا فإن هذا لا يسمح أن نطيل ألسنتنا على نبينا فنقول قول الجاهلين: هذا هو القرآن يقول ببشرية النبي فهو إذن مثلنا. كلا وألف كلا ليس مثلنا إنه قدوتنا في طلب الكمال. فلو قال لك شخص تقتدي به إنه مثلك تواضعا منه ونبلا فهل هذا يعني أنه مثلك حقيقة وواقعا؟ أتجيب على تواضعه النبيل بالتطاول عليه ولاعتقاد بانك مثله؟ وإنك إن فعلت لم تزد على أن أثبت بالدليل أنه أرفع منك مكانا بتواضعه النبيل وأنك ادنى منزلة بالتمرد ونكران الجميل. وأما علماء المسلمين فقد فهموا العصمة على هذا الوجه فقسم بعضهم سنة النبي إلى سنة تشريع وسنة من غير تشريع. وقسموا أعماله إلى أعمال بالنبوة وأعمال بالقضاء وأعمال بالإمامة ليقولوا لنا هذه هي العصمة المقصودة إنها عصمة الأنبياء وأما أعمال الأنبياء في غير مقام النبوة فهي تقديرات بشرية تتحول بدورها إلى مجال للعبرة والاستفادة. والخلاصة أن النبي معصوم والقول بغير ذلك سببه عدم فهم مقام النبوة وقياسها على مقام البشرية. صلى الله على الحبيب المصطفى وعلى أنبيائه أجمعين وجمعنا بهم في العلليين ومنحنا ولو نزرا من أخلاقهم وسموهم وعظمتهم. ورحمنا وغفرلنا ولأخينا بوهندي والسلام.. * الجامعة الكندية – دبي