يتوقع المفكر والمترجم السوري الدكتور هاشم صالح أن يشهد العالم العربي والإسلامي كله حالة عارمة من التغيير، تجعله "يخرج من حالة الجمود والعطالة التاريخية التي سقط فيها منذ الدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة تقريبا"، مؤكدا بأن "لحظة الانحدار بدأت وستكون سريعة بسبب تجربة الحكم للأصوليين والأخطاء التي سيرتكبونها لا محالة". وذهب الباحث السوري، المهتم بقضايا التجديد الديني وما بعد الحداثة ونقد الأصولية، في مقال خص به هسبريس، إلى أن العقلانية ستفرض نفسها على العرب والمسلمين جميعا، مثلما فرضت ذاتها على الشعوب المتقدمة، مشيرا إلى أن هؤلاء المسلمين سيتخلون عن "الفهم المتزمت لتراثهم وتبني الفهم المستنير المتصالح مع العصر"، لأنه لا يمكن أن يظلوا متشبثين بتراثهم بشكل عاطفي صرف. وحمَّل مؤلف كتاب "معضلة الأصولية الإسلامية"، الذي يقيم منذ فترة في المغرب، مسؤولية تشخيص الوضع القائم وإيجاد الحلول على المثقفين كأفراد أو كمؤسسات فكرية، لكونهم مطالبون بمواكبة "المتغيرات المتسارعة التي تحصل في العالم العربي منذ سنتين على الأقل". وفيما يلي مقال الدكتور هاشم صالح كما توصلت به جريدة هسبريس الإلكترونية: كل الدلائل تشير إلى أن العالم العربي والإسلامي كله لا يمكن أن يبقى على حاله إلى أبد الآبدين.عاجلا أو آجلا سوف يتغير، سوف يتحلحل، سوف يخرج من حالة الجمود والعطالة التاريخية التي سقط فيها منذ الدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة تقريبا.لا ريب في أنه حصلت محاولات للإصلاح منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم. ولكنها أجهضت بدليل أن الموجة الأصولية تلتها، وأكاد أقول غمرتها وغطت عليها، أقصد بالموجة الأصولية هنا ظهور حركة الاخوان المسلمين عام 1928 وتراجعها عن مواقف الإمام محمد عبده الاصلاحية وتبنيها لمواقف تلميذه رشيد رضا الانغلاقية. وأقصد أيضا انتشار السلفية بشكل هائل حتى في بلدان ما كانت تعرف معنى السلفية، وكل ذلك بفضل قوة البترودولار. بهذا المعنى فالإسلام كله غطس في السلفية والعودة إلى الوراء. فهل يمكن أن تستمر الموجة الأصولية إلى ما لا نهاية؟ أم أنها ككل موجة سوف تشهد حالة صعود، فوصول إلى القمة، فانحدار؟ والسؤال المطروح هو التالي: هل ابتدأ عصر الانحدار أم أنها لا تزال في القمة؟ أعتقد شخصيا أن لحظة الانحدار اقتربت أو ابتدأت، وسوف تسرّع منها تجربة الحكم لإخواننا الأصوليين والأخطاء التي سيرتكبونها لا محالة. ضمن هذا الجو تقع على كاهل المثقفين كأفراد أو كمؤسسات فكرية مسؤولية تشخيص الوضع القائم وإيجاد الحلول. تقع على كاهلهم مسؤولية مواكبة المتغيرات المتسارعة التي تحصل في العالم العربي منذ سنتين على الأقل. وهذا ما تحاول أن تفعله مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" التي عقدت مؤخرا ندوة ممتعة وغنية بالمداخلات والمناقشات في مراكش. وقد كان لي شرف حضورها والمشاركة فيها، وتميزت بالحرية والمناقشات الخلافية، وهذا دليل صحة وعافية. فنحن لا نجتمع لكي نوقع على بياض وإنما لكي يدلي كل باحث بدلوه بين الدلاء كما يقال. والحقيقة تنبثق من خلال الحوار التواصلي العقلاني الديمقراطي كما يقول الفيلسوف هابرماس. لا أحد يمتلك الحقيقة بشكل مسبق وإنما تتمخض عنها تفاعلات وجهات النظر المختلفة. أيا يكن من أمر فإن بيانات هذه المؤسسة الوليدة تشير إلى أنها ستسلك خط الإصلاح الديني بل التنوير الفلسفي أيضا. وهذا شيء يبشر بالخير، شيء واعد بالمستقبل. إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية وجدنا أن الإصلاح الديني سبق التنوير الفلسفي بقرن على الأقل أو حتى قرنين. فمارتن لوثر ظهر في القرن السادس عشر، وزعماء التنوير الفلسفي من أمثال فولتير وروسو وكانط وسواهم ظهروا في القرن الثامن عشر. لوثر نظف المسيحية من الشوائب والأخطاء والمفاسد بما فيها جشع رجال الدين وانحرافهم عن السراط المستقيم. وقد تجلى ذلك بشكل فاقع من خلال متاجرتهم بالإيمان وبيع صكوك الغفران للشعب البسيط الجاهل. فإذا كان الإيمان الذي هو قدس الأقداس قد أصبح سلعة تباع وتشترى بالفلوس فما بالك بما تبقى؟ هذا يعني أن الفساد عم المجتمع كله، فاذا ما فسد الدين، أو فسد فهم الدين، فسد كل شيء. ضد هذا الوضع الفاسد للمسيحية الأوروبية ثار مارتن لوثر وانتفض انتفاضة عارمة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور. وطهر المسيحية من شوائبها وتراكماتها وأسس دينا جديدا تقريبا هو: البروتستانتية. ولهذا السبب يعتبره الألمان أعظم شخصية في تاريخهم كله. ثم انتشرت أفكاره الاصلاحية في كل أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم. وهذا أكبر دليل على أن المسيحية كانت عطشى للتغيير وتنتظر قائدها المنقذ الذي يشعل الشرارة الأولى. فكان أن ظهر لوثر هذا حيث لا يتوقع أحد ظهوره لأن المسيحية في الشمال الألماني كانت الأقل فسادا. أصبح واضحا لكل ذي عينين أن العرب والمسلمين جميعا لا يمكن أن يظلوا متعلقين بتراثهم بشكل عاطفي محض. عاجلا أو آجلا سوف تفرض العقلانية نفسها عليهم كما فرضت ذاتها على الشعوب المتقدمة. عاجلا أو آجلا سوف يجدون أنفسهم مدعوين للتخلي عن الفهم المتزمت لتراثهم وتبني الفهم المستنير المتصالح مع العصر. والسبب هو أن الفهم القديم المنغلق أصبح عالة علينا ويسبب لنا مشكلة مع العالم أجمع. وبالتالي فنحن على أبواب حيرة كبرى أو طفرة كبرى لا نعرف كيف ستحصل بالضبط. كل ما نعرفه هو أنه سيحصل شيء ما قريبا وأن الأمور لن تبقى على حالها. لقد انتهى عهد الإيديولوجيا العربية الرثة التي حكمتنا طيلة العقود الماضية سواء على الهيئة القومجية الشوفينية أو الهيئة الأصولية الكارهة للآخرين أو المكفرة لهم. وبالتالي فقد حان أوان التغيير الجذري على مستوى الفكر العربي الاسلامي ذاته. السياسة تأتي لاحقا. التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي ويمهد له الطريق. نقول ذلك على الرغم من أن التغيير السياسي جار على قدم وساق حاليا، وسوف يطيح بأنظمة الاستبداد والحزب الواحد في كل مكان. هذا ما حصل في تونس ومصر وليبيا وما سيحصل في سوريا قريبا. ولكن ينبغي أن يرافق هذه المتغيرات السياسية الضخمة فكر على مستواها.فالتغيير السياسي بدون تغيير فكري قد يعود بنا الى الوراء بدلا من أن يتقدم بنا الى الأمام. من هنا التخبط والتعثر الذي نلاحظه في كل تجارب دول الربيع العربي.الربيع السياسي ينقصه ربيع فكري كما نرى وبشكل موجع. لإيضاح كل ذلك سوف نطرح هذا السؤال: هل ينبغي علينا نحن العرب أن نقوم بالإصلاح الديني أم بالتنوير الفلسفي؟ أعتقد شخصيا أنه ينبغي القيام بهما معا دفعة واحدة. لماذا؟ لأن جماهير الشعب متدينة في غالبيتها ولا تستطيع فهم التنوير الفلسفي. ولكنها تستطيع فهم الاصلاح الديني اذا ما شرح لها بشكل تبسيطي معقول.أما التنوير الفلسفي فسيظل محصورا بالنخب العربية المثقفة والمتعلمة جدا حتى يكون الشعب قد تثقف وتعلم أيضا. وهكذا نكون قد أشبعنا حاجيات كلتا الشريحتين الكبيرتين للمجتمع العربي: أي الشريحة الشعبية، والشريحة النخبوية. وهذه الأخيرة لا ينبغي الاستهانة بها. صحيح أنها لا تزال أقلية من حيث العدد ولكنها في حالة تزايد مطرد بفضل انتشار التعليم الحديث والجامعات ، ثم بالأخص بفضل ظهور الثورة المعلوماتية. فالمعرفة أصبحت تحت تصرف الجميع بفضل الانترنيت والحاسوب الإلكتروني الذي يقدم لك المعلومات عن أي موضوع تشاء وفي كل لغات العالم. وهذه ثورة هائلة لا تقل خطورة عن اختراع المطبعة في عصر لوثر. ومعلوم أنه لولا المطبعة التي نشرت أفكار الإصلاح الديني على أوسع نطاق لما نجح هذا الاصلاح وترسخ. لهذا السبب قال بعضهم: لولا غوتنبرغ لما كان لوثر! أعتقد شخصيا أن المشايخ الذين يصولون ويجولون على شاشات الفضائيات ويحتكرون فهم الدين ويسيطرون على الجماهير الشعبية المؤمنة المتدينة قد بلغوا ذروة التفاقم في الآونة الأخيرة. ولكن احتكارهم للدين أو بالأحرى لفهم الدين لن يدوم الى الأبد. سوف أقول كلمة أخيرة ومختصرة عن هذه المؤسسة الجديدة مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث التي تطمح إلى إصلاح الوعي الإسلامي؛ أقول ذلك وبخاصة أنها ستعقد مؤتمرها التدشيني الكبير بتاريخ (25-26 ماي) في مدينة "المحمدية" الجميلة إسما وهيئة، شكلا ومضمونا، وذلك بحضور مائتي شخصية من كبار المثقفين العرب والمسلمين التجديديين. وهو حدث يستحق التنويه. يبدو من رسالة هذه المؤسسة وبياناتها أنها عقدت العزم على تجديد الفكر العربي الإسلامي ومواكبة المتغيرات الضخمة الجارية حاليا. أعتقد شخصيا أنها لن تنجح في مهمتها إذا ما اكتفت بعطاءات المثقفين العرب فقط حتى ولو كانوا مجددين ومجتهدين. ينبغي أن تضيف إليهم عطاءات المستشرقين الكبار من جهة، وفتوحات الفكر العالمي من جهة أخرى. ينبغي أن نخرج من تلك المجادلة الإيديولوجية العقيمة حول الاستشراق ونفرق بين الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى/ والاستشراق السطحي المسيس. لا ينبغي أن نخلط كل شيء بكل شيء، أو أن "نرمي الطفل مع الغسيل الوسخ" كما يقول المثل الفرنسي. لماذا ألح على هذا الاستشراق الكبير؟ لأنه هو الذي طبق المنهجية التاريخية النقدية على التراث الإسلامي لأول مرة مثلما طبقها علماء أوروبا الآخرون على التراث المسيحي وأتت بنتائج باهرة ومفيدة جدا. هذا لا يعني أننا سنأخذ أبحاثهم وكأنها كلام معصوم وانما يعني أنه ينبغي الاطلاع عليها ومناقشتها لأنها تخصنا وتخص تراثنا بالدرجة الأولى. هل يعقل أن نظل جاهلين بما فعله جوزيف فان آيس مثلا عن كيفية تشكل الفكر الديني في بدايات الاسلام الأولى؟ هل يعقل أن تظل الأبحاث الاستشراقية المدعوة بالدراسات القرآنية مجهولة من قبلنا؟ نقول ذلك ونحن نعلم أنها شهدت تطورا هائلا في العقود الأخيرة. وكانت نقطة الانطلاق الأولى هي المدرسة الفيلولوجية الألمانية وأبحاث نولدكه الرائدة عن "تاريخ القرآن". ولكن ظهرت بعده وعلى أثره أبحاث مستجدة عديدة لمستشرقين كبار وينبغي أن نعرفها أو نتعرف عليها.نفس الشيء يقال عن أبحاث البروفيسور وائل حلاق الأستاذ في جامعة كولومبيا بنيويورك عن كيفية تشكل الشريعة والفقه الاسلامي. وقس على ذلك كثير. ينبغي أن نعرف التمييز بين الرؤيا التبجيلية للتراث/ والرؤيا التاريخية التي يقدمها لنا الاستشراق الأكاديمي. باختصار ينبغي أن ننتقل من مرحلة القصور العقلي الى مرحلة النضج وسن الرشد كما يقول كانط في تعريفه للتنوير. هناك شيء آخر مهم يمكن أن تفعله غير الاستشراق: ألا وهو تعريف القارئ بالنظريات العلمية والفتوحات الفلسفية والدينية التي تعاقبت على أوروبا منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. ينبغي أن ننقل إلى اللغة العربية كل الفتوحات المعرفية التي توصلت اليها البشرية. فهذه هي الطريقة الوحيدة لتقليص الهوة السحيقة بين الفكر العربي والفكر العالمي. يضاف الى ذلك أن عملية النقل هذه إذا ما نجحت فسوف تنقذ اللغة العربية من خطر التهميش الذي يتهددها. سوف يساعدها على أن تعود لغة علم وفلسفة تماما كما كانت عليه إبان العصر الذهبي حيث كانت لغة الحضارة الأولى على المستوى العالمي تماما كالإنكليزية اليوم. وبالتالي فهناك أشياء كثيرة يمكن لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" أن تفعلها عن طريق تجييش طاقات الباحثين العرب في المشرق والمغرب على حد سواء. لن ينجح الاصلاح الديني ولا التنوير الفلسفي إذا لم ننجز هذه الطفرة المعرفية الكبرى.. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن أن نتجاوز الحيرة الكبرى التي نتخبط فيها حاليا.