ثلاثة عوامل كبرى أدت إلي ولادته وانتشاره · بن لادن وغيره حصيلة السياسة التعليمية الخاطئة التي ينبغي تغييرها بشكل جذري وفوراً "" · الدول العربية سلمت التعليم الديني للشيوخ المحافظين والسلفيين المنغلقين علي العلم الحديث وهذا خطأ · القنابل الفكرية التي ستجيء من داخل العالم الإسلامي ستكون إضاءة للتراث بشكل لم يسبق له مثيل · الفقهاء المالكيون الأشداء انتصروا علي فلاسفة الأندلس وسحقوهم وأذلوا ابن رشد في أواخر أيامه في آخر تصريحاته ومقابلاته يري محمد أركون أن الإسلام الأصولي الذي يسيطر علي الساحة منذ السبعينات كان قد تشكل في الثلاثينات من القرن الماضي علي يد حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين. وهو نتيجة ثلاثة عوامل كبري تضافرت وأدت إلي ولادته وانتشاره. العامل الأول هو ضغط الحداثة الغربية في زمن الاستعمار. وهي حداثة لم يستطع الفكر العربي هضمها واستيعابها علي الرغم من كل المحاولات التي بذلها المفكرون العرب في عصر النهضة. فجاءت حركة الإخوان المسلمين كرد فعل علي هذا الفشل وأجبرت حتي الكتّاب النهضويين من أمثال طه حسين والعقاد علي تقديم تنازلات للتيار الأصولي عن طريق الانخراط في كتابة علي هامش السيرة فيما يخص الأول، و العبقريات فيما يخص الثاني، الخ.. : أي كتابة مؤلفات تندرج داخل نطاق ما ندعوه بالإسلاميات . وأما بعد السبعينات فقد حلت العولمة الأمريكية محل الاستعمار الكلاسيكي الانجليزي- الفرنسي. وكانت متوحشة وظالمة أكثر مما ينبغي لأنها لم تعبأ بجوع الملايين في العالم الإسلامي وسواه. وبالتالي فالحركات الأصولية من خمينية وسواها تعتبر جزئياً كرد فعل علي هذا التعجرف الطاغي للعولمة الرأسمالية والسياسة الخارجية الامريكية التي لم تعبأ ايضا بايجاد أي حل عادل اوحتي شبه عادل لمأساة فلسطين. أما العامل الثاني الذي أدي إلي ولادة الحركات الأصولية وصعودها المدوي علي مسرح التاريخ فيعود إلي سياسة التراجع الثقافي والاجتماعي التي اتبعتها الأنظمة العربية والإسلامية بعد الاستقلال. فبرامج التعليم التي فرضت في المدارس والجامعات كانت تقليدية جداً، بل وقروسطية ظلامية فيما يخص تعليم المواد الدينية. وكل ذلك بحجة استرجاع الهوية التي حاول الاستعمار طمسها. وبالتالي فبن لادن وسواه ما هو إلا حصيلة هذه السياسة التعليمية الخاطئة التي ينبغي تغييرها بشكل جذري وفورا. والحل الذي يقترحه أركون هو تعليم التراث الإسلامي بشكل مستنير، عقلاني، حديث. وذلك من خلال مناهج علوم الإنسان والمجتمع: كعلم اللغة والألسنيات، وعلم التاريخ الحديث، وعلم الاجتماع، وعلم الأنتروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الأديان المقارنة. وعندئذ يمكن أن نخرّج أجيالاً جديدة مستنيرة تعرف كيف توفّق بين الجوهر الأخلاقي والروحاني للدين الاسلامي الحنيف من جهة، وبين الروح العلمية والفلسفية الحديثة من جهة أخري. وهذا ما ينقص العالم الإسلامي كله بشكل موجع وليس فقط العالم العربي. وهذا يعني اغلاق المدارس المتزمتة التي خرجت الطالبان وأشباههم وتأسيس مدارس جديدة منفتحة علي العلم والحرية الفكرية التي صنعت مجد الحضارة العربية الاسلامية في عصورها الذهبية من عباسية وبويهية وفاطمية واندلسية. . ولكن بالطبع فان الحرية التي نحتاجها اليوم اكبر بكثير من السابق. وأما العامل الثالث الذي أدي إلي انفجار الحركات الأصولية بمثل هذه القوة والضخامة والعنف فهو ديمغرافي سكاني. بمعني أن البلدان العربية والإسلامية شهدت زيادة سكانية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً من قبل. فقد تضاعف عدد سكانها خلال الثلاثين سنة التي تلت الاستقلال عام 1950 أو 1960م. بل وربما كانت الزيادة بنسبة ثلاثة أضعاف أو حتي أربعة! فعدد سكان المغرب مثلاً أو الجزائر لم يكن يتجاوز الستة أو سبعة ملايين عام 1950 فأصبح الآن أكثر من ثلاثين مليوناً. وأما مصر فقد أصبحت سبعين مليوناً، وقس علي ذلك.. ولا توجد أطر اجتماعية واقتصادية وتوظيفية قادرة علي استيعاب هذه الزيادة الهائلة في عدد السكان. ولا يستطيع أي نظام سياسي مهما كان صادقا ان يؤمن لهم حاجياتهم الاساسية. فما بالك إذا كانت الانظمة في معظمها مبتلاة بالفساد والرشوي والمحسوبية وسوء الحكم والادارة؟ وهكذا امتلأت الشوارع العربية بالشباب العاطلين عن العمل. اذهب إلي مدن العرب من المشرق إلي المغرب تجدهم يملأون الشوارع والمقاهي والساحات ويسندون ظهورهم علي الجدران وهم يحملقون في الفراغ وينتظرون شيئا لا يجييء. . وقد كانوا فريسة سهلة للحركات الأصولية التي جنَّدتهم واستخدمتهم، وشكلت أفق الأمل الوحيد بالنسبة لهم لأن الدولة تخلَّت عنهم ولم تستطع أن تفعل أي شيء من أجلهم. وينبغي الاعتراف هنا بالدور الايجابي لهذه الحركات الاسلامية التي قدمت للجماهير الجائعة الحد الأدني من الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والصحية. . وبالتالي فليس كل شيء سلبيا في الحركات الاصولية. وينبغي التمييز هنا بين الجناح المتطرف والجناح المعتدل فيها. فالاخوان المسلمون انقسموا إلي قسمين: قسم لا يؤمن إلا بالعنف والقتل والضرب علي طريقة القاعدة، وقسم انتهج التغيير عن طريق صناديق الاقتراع كاخوان تركيا الذين غيروا حتي اسمهم فأصبح: حزب العدالة والتنمية. ويمكن ان نلحق بهم اخوان مصر وسوريا والمغرب وسواهم. فهؤلاء اكتشفوا ان طريق العنف خاطئ ولا يؤدي إلي أي نتيجة ايجابية بل علي العكس يدمر المجتمع ويفتته ويثير فيه الحروب الاهلية. ولكن لا يزال اخوان تركيا هم الاكثر جرأة علي التجديد ومحاولة التصالح مع الحداثة ومفاهيمها وتشريعاتها. والسؤال المطروح هنا هو التالي: هل سيلحق بهم الاخوان العرب؟ هذا شيء غير مستبعد. وعلي أي حال فسوف ينتج عنه الخير العميم إذا ما تحقق يوما ما. اذن هناك عدة عوامل أدت إلي انتشار وتوسع حركات الإسلام السياسي وليس عاملاً واحداً. وهي خارجية وداخلية كما رأينا، كما أنها ثقافية واقتصادية أو اجتماعية في آن معاً. ونضيف بأنها سياسية أيضاً لأن قمع المعارضة في الجامعة أو الاماكن المدنية العامة أدي إلي ظهورها في الجامع والاماكن الدينية. وبالتالي فمسؤولية الانظمة الحاكمة عن هذا الوضع المتفجر لا تنكر. فهي لم تستطع تحديث المجتمعات العربية بعد الاستقلال ولا تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية علي الرغم من تشدقها بالليبرالية والقومية أو حتي بالتقدمية والماركسية. . ولذلك انصرفت الجماهير عن هذه الايديولوجيات الحديثة المستوردة بعد ان فقدت مصداقيتها وعادت إلي أصولها وتراثها القديم بقوة. فهو الشيء الوحيد الراسخ الجذور والذي تفهمه الجماهير الشعبية بسهولة. وهذا شيء مشروع ضمن حالة الضياع والاهتزاز التي تعيشها معظم المجتمعات العربية والاسلامية اليوم. فالانسان المحروم من كل شيء يريد الاستعصام بشيء ما. ثم يضيف محمد أركون قائلاً: ينبغي العلم بأن الحداثة دخلت بشكل جزئي ومتقطع ومتبعثر إلي العالم العربي أثناء عصر النهضة الممتد من عام 1800 إلي عام 1950م. ولم يكن التيار النهضوي من القوة الكافية لكي يستطيع مواجهة التيار الأصولي الراسخ الجذور في العقلية الجماعية منذ مئات السنين. ولهذا السبب سيطر الإخوان المسلمون علي الشارع في عهد طه حسين والعقاد وعلي عبد الرازق وسلامة موسي وآخرين عديدين. ثم عادوا للسيطرة عليه بعد موت جمال عبد الناصر وانهيار القومية العربية وهزيمة 5 حزيران 1967م. فالفكر النقدي الحر ظل ضعيفاً ومحدوداً ومحصوراً ببعض البيئات الجامعية والثقافية الضيقة. وذلك علي عكس ما حصل في أوروبا بدءاً من ديكارت وسبينوزا ومالبرانش وحتي فلاسفة التنوير كفولتير وروسو وديدرو وكانط وهيغل وعشرات غيرهم. فهؤلاء استطاعوا أن ينتزعوا المشروعية الفكرية من أيدي رجال الدين والاخوان المسيحيين في حين أن التنويريين العرب عجزوا عن ذلك. بل ولم يستطيعوا أن يشكلوا تياراً فكرياً عريضاً يتغلغل إلي المدارس والجامعات والشوارع كما فعل فلاسفة أوروبا. يضاف إلي ذلك أنه لم تظهر طبقة بورجوازية قوية في العالم العربي لكي تحمل أفكار التنوير هذه وتسندها كما حصل في الغرب. ومعلوم أن الفكر إذا لم تتبنّاه طبقة اجتماعية قوية لا يمكن أن يُترجَم علي أرض الواقع أو أن يتغلغل إلي أعماق الفئات الشعبية وشرائحها العريضة. ولذلك ظل الفكر النهضوي محصوراً عندنا في بعض الصالونات الراقية لكبار المثقفين والأرستقراطيين في العواصم الكبري كالقاهرة والإسكندرية وبيروت وسواها. لقد ظل حكرا علي الطبقات العليا من المجتمع والتي لا تشكل اكثر من خمسة بالمائة من عدد السكان. هذا في حين أن الفكر الأصولي السلفي ظل الغذاء اليومي لجماهير الشعب أو لعامة الناس. . ولم يتجرأ أحد علي تقديم صورة أخري عن الدين غير تلك التي يقدمها السلفيون والأصوليون. وكل المثقفين خضعوا للأمر الواقع بل واضطروا إلي مجاراة التيار العارم كما ذكرنا فيما يخص طه حسين والعقاد. الجميع يريدون ان ينجوا بجلودهم والا يتعرضوا للعقاب الصارم أو حتي للتصفية الجسدية.. انظر اغتيال المثقفين في مصر أو سوريا أو الجزائر أو ايران أو الباكستان أو السودان أو سواها من البلدان علي أيدي الجناح المتطرف في الحركات الاصولية. ويفرق أركون هنا بين الحداثة المادية/والحداثة العقلية. فالمجتمعات العربية الغنية استوردت أحدث أنواع الأجهزة والمخترعات الحديثة من الغرب بسهولة بفضل السيولة المادية التي تمتلكها. ولكنها رفضت استيراد النظريات العلمية والفلسفية الحديثة بحجة أنها تمثل غزواً فكرياً أو تشكل خطراً علي ثوابت الأمة وهويتها ومعتقداتها. ولذلك جاءت الحداثة العربية عرجاء تقف علي رجل واحدة لا رجلين. فالحداثة المادية بدون حداثة فكرية تبدو ناقصة ومبتورة إن لم نقل مشوهة. نقول ذلك وبخاصة أنه لا يمكن الفصل بين الحداثة التكنولوجية من جهة والحداثة العلمية أو الفلسفية من جهة أخري كما يتوهم المحافظون أو المتزمتون في العالم العربي. فالواقع أنهما مرتبطتان ببعضهما بشكل وثيق لا ينفصم وما الأولي إلا نتيجة مباشرة للثانية. ولكن ينبغي الاعتراف بان الحداثة الفكرية ابتدأت تدخل مؤخرا إلي بلدان الخليج العربي. وأخذت هذه البلدان تضطلع بالدور الذي كانت تقوم به بيروت والقاهرة سابقا من حيث نشر الفكر الحديث وترجمته وصرف الاموال علي العمل الثقافي العربي وتشجيعه. وبالتالي فربما كانت النهضة التنويرية العربية ستطل علينا هذه المرة من هناك. ثم يعيب صاحب نقد العقل الإسلامي علي الدول العربية تسليم التعليم الديني في المدارس والجامعات للشيوخ المحافظين والسلفيين المنغلقين كلياً علي العلم الحديث بما فيه علم الأديان، وتاريخ الأديان، وفلسفة الأديان. وهو ينصح للخروج من هذا المأزق الكبير والمخيف بفتح أقسام جديدة في الجامعات العربية لتعليم التراث الإسلامي كما يفعل هو في السوربون: أي من خلال تطبيق المنهج التاريخي النقدي عليه كما فعل علماء أوروبا وفلاسفتها بالنسبة لتراثهم المسيحي بدءاً من القرن السابع عشر. ففي رأيه أن الوعي الإسلامي الذي يعيش الآن أزمة حادة بل وخطيرة جداً مع نفسه ومع الآخرين لا يمكن أن يخرج من الورطة التي يتخبط فيها حالياً إلا إذا قبل بتطبيق المناهج العلمية علي تراثه الممتد منذ أربعة عشر قرناً من الزمن وحتي اليوم. فالتحرير الفكري ينبغي أن يكون في العمق، بل وفي عمق العمق إذا ما أردنا أن نصل إلي نتيجة. فهذا الوعي الاسلامي التقليدي مفعم حتي الآن بالتصورات الأسطورية أو المثالية العذبة عن تاريخه القديم وتراثه. انه خاضع للتاريخ الاسطوري لا للتاريخ الواقعي الحقيقي. كما أنه مفعم بالتصورات الإيديولوجية الخاطئة عن الحداثة والغرب وعن العالم ككل. انظر الايديولوجيا القومجية- الاصولية بكل مقولاتها وشعاراتها الحامية وضوضائها. . لاحظ كيف تسيطر علي الشارع العربي أو الايراني حاليا. وبالتالي فينبغي تفكيك هذه التصورات الأسطورية والإيديولوجية المنتشرة من أقصي العالم الإسلامي إلي أقصاه والتي تملأ علي المسلمين أقطار وعيهم فلا تتركهم يفهمون أنفسهم والعالم بشكل علمي، عقلاني، موضوعي. لا يستطيع المسلم التقليدي أن يقيم أي مسافة نقدية بينه وبين التصورات الخيالية أو الأسطورية التي تربّي عليها منذ نعومة أظفاره وتلقاها وكأنها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش. وما دام الأمر علي هذا النحو فلا حل ولا خلاص. ويري أركون في آخر تصريحاته أن بن لادن هو عبارة عن فقاعة إيديولوجية كبري. وما كان بالإمكان أن يشغل الناس أو أن يلقي تجاوباً لدي قطاعات واسعة من الرأي العام الإسلامي أو الشارع العربي لولا الانحطاط الفكري المزمن والمتواصل منذ سقوط الحضارة الكلاسيكية علي يد المغول عام 1258م. وبالتالي فالقنابل الأمريكية الملقاة علي أفغانستان أو العراق ليست هي التي ستحل مشكلة بن لادن، وإنما القنابل الفكرية التي ستجيء من داخل العالم الإسلامي بالذات. والمقصود بالقنابل الفكرية هنا إضاءة التراث الإسلامي بشكل لم يسبق له مثيل من خلال تطبيق المناهج التاريخية والنقدية عليه كما يفعل المستشرق الألماني الكبير جوزيف فان ايس مثلاً. فقد أصدر مؤلّفاً ضخماً عن علم الكلام والمجتمع في القرون الهجرية الأولي وبين كيفية انبثاق العقائد والفرق الإسلامية بشكل تاريخي وسوسيولوجي دقيق. وهكذا أعطي صورة واقعية عن التراث الإسلامي لا صورة تبجيلية أو غيبية أو طائفية أو مذهبية كما نفعل نحن في مدارسنا وجامعاتنا وكليات الشريعة وكل المعاهد التقليدية التي اصبحت عالة علي نفسها وعلي العصر. ويمكن ان نذكر ايضا بالاضافة إلي أبحاثه الرائدة ما تفعله الموسوعة القرآنية التي صدرت تباعاً في هولندا والتي تضيء النص الأعظم بشكل لم يسبق له مثيل أيضاً من خلال دراسة كل كلمة من كلمات القرآن علي ضوء علم فقه اللغة، والألسنيات، والتاريخ، والاجتماع، وعلم الأديان المقارنة، ودراسة المعجم اللفظي الأجنبي في القرآن وعلاقته بعصره وظروفه التاريخية في شبه الجزيرة العربية، وعلاقته أيضاً بالنصوص السابقة له. وبالتالي فينبغي تجديد الفكر العربي-الإسلامي من أساساته وينبغي تجديد برامج التعليم كلها من الابتدائي وحتي الجامعي علي ضوء النتائج التي توصل إليها العلم الحديث فيما يخص تراثنا الإسلامي العريق. لا ينبغي لتعليم القرون الوسطي أو فقه القرون الوسطي أن يستمر إلي الأبد. نحن بحاجة إلي فقه جديد ايها السادة: فقه يليق بالقرن الواحد والعشرين. فالشريعة ينبغي ان ترافق تطور الحياة والمجتمع والمستجدات. . ولكن إذا ما استمر الأمر علي هذا النحو في العالم العربي فإن تفريخ الإرهابيين وذوي العقليات المغلقة والظلامية سوف يستمر. ويري أركون أن بن لادن وأشكاله ما هم إلا نتيجة منطقية لقطيعتين كبيرتين يعاني منهما الفكر العربي: الأولي داخلية، والثانية خارجية. أما القطيعة الداخلية فتخص نسيان العرب والمسلمين بشكل عام للفترة المبدعة والمضيئة من حضارتهم الكلاسيكية. وهي الفترة الممتدة منذ ظهور الإسلام وحتي موت ابن رشد عام 1198 أي في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. في تلك الفترة حصل تفاعل خصب وخلاق بين الفكر الإسلامي من جهة والفلسفة الإغريقية من جهة أخري. وعن هذا التفاعل نشأ تيار النزعة الإنسانية والعقلانية العربية التي تجسدت في شخصيات فكرية كبري كالجاحظ، والتوحيدي، ومسكويه، وابن سينا، والمعري، وابن رشد، وعشرات غيرهم. . وكنا قد تعرضنا إلي ذلك سابقا. هذه الفترة المبدعة والمضيئة نسيها المسلمون بعد القرن الثالث عشر، أي بعد الدخول في عصر الانحطاط وإغلاق المرحلة الذهبية من تاريخهم. ولم يعودوا يتذكرون من الإسلام إلا التيار الفقهي الضيق المعادي للعلوم الدخيلة كما كان يقول ابن قتيبة (أي الغزو الفكري في لغتنا المعاصرة). بمعني آخر، فإن التيار الأصولي، أي تيار الإخوان المسلمين وبن لادن والطالبان والخميني منتصر في الساحة الإسلامية منذ سبعمائة سنة علي الأقل وليس منذ الأمس أو البارحة! فبعد أن قام الغزالي يرد فعل عنيف علي الفلسفة وأوقفها عند حدها في المشرق لم تقم للفكر العقلاني قائمة في أرض الإسلام. صحيح أنها انتقلت بعدئذ إلي المغرب والأندلس وازدهرت علي يد ابن الطفيل وابن باجة وابن رشد وسواهم. ولكن ابن رشد فشل في مواجهته مع الغزالي. فكتاب تهافت التهافت الذي ألَّفه لم يستطع أن يوقف الآثار السلبية المدمرة لكتاب تهافت التهافت للغزالي. نقول ذلك علي الرغم من عظمة الغزالي وأهميته علي أصعدة اخري. ولكنه وجه ضربة موجعة للفكر العقلاني الفلسفي السببي. ثم جاء بعده ابن تيمية لكي يكمل العملية ويجهز علي ما تبقي من عقلانية وانفتاح في الفكر العربي الاسلامي. ومعلوم ان كل الحركات الاصولية المعاصرة تنسب نفسها اليه وتعتبره مرجعيتها العليا. هل سمعتم بتيار أصولي ينسب نفسه إلي الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد أو حتي المعتزلة؟ مستحيل. ولكن ربما كان هذا الحكم قاسيا ومجحفا في حق شيخ الاسلام أحمد ابن تيمية. فالواقع ان فكره كان اكثر تعقيدا وخصوبة باعتراف اركون نفسه. فالرجل له باع طويل في كافة العلوم النقلية كما العقلية. صحيح انه هاجم الفلسفة بعنف ولكن عن معرفة لا عن جهل علي عكس قادة الاصوليين اليوم. وبالتالي فلا يمكن مقارنتهم به وبعظمته الفكرية. ولا ريب في انهم فهموه خطأ وبالتالي فلا يحق لهم ان يصادروه أو ينسبوا أنفسهم اليه. مهما يكن من أمر فان المعركة انتهت بهزيمة الفلسفة والفكر العقلاني في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. وذلك لان الفقهاء المالكيين الأشداء انتصروا علي فلاسفة الاندلس وسحقوهم سحقا بل وأذلوا ابن رشد في أواخر أيامه عندما كان ذاهبا مع ابنه للصلاة في المسجد. وهي هزيمة لا نزال ندفع ثمنها حتي هذه اللحظة. ولولاها لما كان التيار الأصولي يسيطر علي الشارع حالياً. ولا ينبغي ان ننسي سحق الحنابلة للمعتزلة بدءا من أيام المتوكل الذي انقلب علي سياسة المأمون العقلانية وانتهاء بالقادر بالله الذي أباح دمهم في نص شهير قرئ علي رؤوس الأشهاد في جوامع بغداد. . وبالتالي فالقصة قديمة جداً وليست حديثة العهد. وهزيمة الفكر عمرها ألف سنة في العالم العربي. ولولا ذلك لسهلت مواجهتها. فأنت لا تواجه فقط قرنا أو قرنين من الجمود والانحطاط وانما عشرة قرون أو حتي اكثر. من هنا صعوبة المواجهة وتعقيدها وحقيقة انها سوف تستغرق زمنا طويلا. أما القطيعة الثانية التي يعاني منها الفكر العربي والتي أدت أيضاً إلي توسع التيار الأصولي السلفي في كلا العالمين العربي والاسلامي فهي أشد خطورة في الواقع. إنها تتمثل في انقطاعنا عن الحداثة الأوروبية لمدة قرون عديدة. فهذه الحداثة التي ابتدأت في القرن السادس عشر وتواصلت متصاعدة وفاتحة حتي القرن العشرين لم نبتدئ بالتعرف عليها إلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر أيام عهد التنظيمات العثمانية أو الثورة الاصلاحية لمحمد علي الكبير بالاضافة إلي الثورة الفكرية لبطرس البستاني وغيره من الاعلام اللبنانيين والسوريين. وبالتالي فالسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذاكان يفعل شيوخنا في عهد الأمبراطورية العثمانية طيلة القرون التالية: السادس عشر فالسابع عشر فالثامن عشر؟ ولماذا لم يسمعوا باسم غاليليو ، أو ديكارت، أو فولتير، أو نيوتن، أو كانط، أو روسو، أو بقية العلماء والفلاسفة الذين صنعوا الحداثة في أوروبا؟ ولماذا لم يُترجَم كتاب واحد لهؤلاء قبل القرن التاسع عشر وأحياناً قبل القرن العشرين؟ أين كان العقل العربي آنذاك؟ وأين كان العقل الإسلامي؟ ولماذا كان يغط في نوم عميق؟ ولماذا كل هذا الانقطاع عن ركب الحضارة والإنتاج والإبداع؟! وكيف يمكن ان نلحق بالركب بعد ان سبقنا بسنوات ضوئية؟ الآخرون يصنعون العلم والفكر والحضارة ويحققون الاكتشافات تلو الاكتشافات ونحن ننام علي التاريخ نومة أهل الكهف.. هذا هو سبب ما يحصل لنا الآن. وبالتالي فلا يستغربنَّ أحد سيطرة المتطرفين والجهلة علي الساحة العربية والإسلامية أو علي الشارع الباكستاني والايراني والمغربي والمشرقي. . فهناك أسباب عميقة لذلك، بل وأكثر عمقاً مما نظن. . ثم يختتم أركون كلامه قائلاً: ما دام الشيوخ السلفيون يسيطرون علي وعي الملايين من خلال فتاواهم ومواعظهم وبرامجهم الأسبوعية علي الفضائيات المتزايدة اكثر فاكثر، فإن الفكر العقلاني سوف يظل مهمّشاً ومحصوراً ببعض البيئات الضيقة للمثقفين الطليعيين المطاردين في الداخل والخارج (معظمهم يعيش في المنافي الأوروبية أو الأمريكية حالياً). وأما من بقي في الداخل فلا يستطيع ان يتنفس إلا بشق النفس. . وبالتالي فالبحث العلمي والنقدي الحر عن التراث الإسلامي سوف يظل معطَّلاً إلي أجل غير مسمَّي. ولا أحد يتجرأ علي فتح كلية لعلم الاجتماع الديني أو لتاريخ الأديان المقارنة أو لفلسفة الدين. نقول ذلك علي الرغم من ان هذه الكليات هي وحدها القادرة علي تقديم صورة أخري عن التراث الديني غير تلك التي تقدمها كليات الشريعة والمعاهد التقليدية والفضائيات التلفزيونية وحتي صفحة التراث في الجرائد الكبري. نعم إن معركة التنوير العربي الإسلامي قد اندلعت علي مصراعيها أو أوشكت أن تندلع. ولن تكون بأقل خطورة وصعوبة من المعركة التي خاضها فلاسفة أوروبا ضد الأصولية المسيحية في نسختها الكاثوليكية البابوية الرومانية المتعصبة. ومن يعش يري. ولكن ذلك لا يعني اطلاقا القضاء علي الدين كما يزعم بعضهم وانما القضاء علي الفهم المتعصب للدين وتقديم صورة اخري اكثر اشراقا وتسامحا عن تراث الاسلام العظيم.