يتنوعون بين مختلف شرائح المجتمع المغربي، غير أنهم يشتركون في اختيار واحد، هو الخروج طواعية من دائرة الإسلام وهجر الدين بشكل تام، غير معتقدين لا في حساب الآخرة ولا في مسألة الأجر والثواب، أعدادهم قد لا تكون بالكثيرة، لكنها قد لا تكون كذلك بالقليلة، خاصة في غياب إحصائيات دقيقة متعلقة بالحالة الدينية للمغاربة، فأن تكون مغربيا، فأنت مسلم بالضرورة، تلك هي العادة التي تربى عليها الكثير منا دون أن يدرك أن هناك في الجانب الآخر، مغاربة دون إسلام.. من الصعب جدا الحديث إليهم، وحتى إن تحدثوا إليك فمن الصعب عليهم إخبارك بكل التفاصيل..وحتى عندما يخبرونك بها يطلبون منك عدم نشر أسمائهم الحقيقية..سبب كل هذا التردد هو الخوف من ردة فعل المجتمع المغربي الذي لا يتسامح بشكل عام مع مغربي تحول إلى اللا دينية..خوف تعززه الفتوى الأخيرة من المجلس العلمي الأعلى التي أكدت الحكم الشرعي الموجود في الكثير من كتب الفقه وهي أن من يرتد عن الإسلام بعد اعتناقه يجوز فيه القتل.. هسبريس تحاور ثلاث مغاربة ممن اختاروا اللادينية..اثنان منهم قرروا الحديث دون خوف بوجوه مكشوفة ماداموا قد اعترفوا سابقا بأفكارهم متحملين في ذلك وزر الانتقادات ونيران اللعنات..وواحد آخر تحفظ على ذكر هويته خوفا من عواقب قد تصل إلى قتله..وهو الذي يتواجد في حي شعبي بإحدى المدن المغربية.. قاسم الغزالي..الملحد الذي هاجر إلى سويسرا.. "نعم وُلدت مسلما وكنت أصلي في بطن أمي، وأصبحت إماما حينما أذّن لي أبي في أذني، هل يبدو هذا الجواب منطقيا بالنسبة لأحد؟ إذا كان كذلك، فأقترح على هؤلاء أن يستعينوا بخدمة طبيب نفساني." هكذا يبدأ قاسم الغزالي حديثه إلينا، فهذا الطالب المغربي بإحدى الجامعات السويسرية، اشتهر منذ سنوات بإلحاده، قصة بدأت منذ أن كان في مسقط رأسه بالحاجب، عندما عرف المغاربة تلميذا يكتب على مدونته المعنونة "بهموت" مقالات رأي ينتقد فيها الإسلام ويعلن من خلالها كفره به. يتذكر قاسم في سنوات إدراكه الأولى كيف كان يسمع الآذان ويرى الناس تتوافد على المساجد، ومثل أغلب الأطفال المغاربة، حفظ سورة الفاتحة وتعلم الركوع والسجود، بل أنه التحق بدار للقرآن في مكناس برغبة من والده، حيث كان يقرأ هناك ما تيسر من كتاب الله، ويدرس فقه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتدريجيا بدأت أفكار القلق تدب إلى عقله، فبدأ قراءة بعض الكتب "الكافرة" ، التي جعلته يصلي بدون وضوء ويصوم ظاهريا أمام زملائه. الفكر اللاديني تمّكن من قاسم تقريبا في المرحلة الثانوية، خاصة مع انضمامه إلى الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع الحاجب، وبدأت ساكنة مدينته الصغيرة تعرف أفكاره وتصوراته، حيث يتحدث هنا عن تعرضه لبعض المضايقات بعد فتحه لمدونته، وصلت لحد تهديده بالقتل، وهو ما عبَّر عنه في اتصال له مع قناة فرانس 24 سنة 2010. "عائلتي كانت تؤمن بحرية أبناءها، لكني والدي كان خائفا على حياتي، فحاول إجباري على الوقوف أمام المصلين بمسجد القرية من أجل اعتذار يتم تسجيله بالصوت والصورة" يقول قاسم الذي رفض أن يعتذر، وهاجر إلى الدارالبيضاء، من تم إلى سويسرا التي قدمت له اللجوء باعتباره مضطهدا في بلاده، حيث صار هناك واحدا من أشهر الملحدين العرب المعاصرين، ومناصرا قويا للعلمانية، وهو الذي لم يتجاوز من عمره الربيع الثالث والعشرين. قاسم يتواصل أحيانا مع عائلته بأسئلة عن الحال والأحوال دون الدخول في تفاصيل حياته، فالمغرب، صفحة طُويت بالنسبة إليه، لأسباب يؤكد أنها تتعلق بسلامته الشخصية، خاصة مع الفتوى الأخيرة للمجلس العلمي التي توضح حسب رأيه، نفاق الدولة المغربية وعدم صدق ادعاءاتها بالعهد الجديد وضمان حقوق الإنسان. عماد الدين حبيب..الناقم على الإسلام يحمل اسما مسلما رغم إلحاده، في نفس عمر الغزالي، أي أنه من مواليد سنة 1990، طالب بالدارالبيضاء، المدينة الذي ازداد فيها مسلما، ثم تخلى فيها عن إسلامه، من أسرة متدينة محافظة من نسب شريف كما يقول، ومِثل الجميع، تعلم الصلاة وحفظ آيات من القرآن الكريم، لكنه لم يستمر مثلهم، عندما بدأت أفكار غريبة حول ماهية هذا الدين تعتصر دماغه، لتتنامى بشكل كبير، إلى أن اقتنع بضرورة خروجه عن الإسلام، لأنه لم يعد ينتمي إليه حسب تصريحاته. هذا التحول صدم الكثير من أصدقاء وأقرباء الفتى، فاعتبره الكثير منهم سحابة صيف ومراهقة فكرية ستنتهي يوما، إلا أن تمسكه بقناعاته، أبعد عنه الكثير من أصدقاء الأمس، وجعله تقريبا شبه منبوذ في وسطه، وهي الوضعية التي لم تزده سوى إصرارا على إتمام المسير..مسيره في طريق الإلحاد بما يقول إنها براهين وحجج منطقية، مستعد أن يتحدى بها أكثر المقتنعين بسماحة الدين الإسلامي.. "يكفي أن تقرأ القرآن بموضوعية لتعلم أن هذا الكتاب، مجرد مجلد من الخرافات ألفها البشر"، هكذا يبرر عماد موقفه من الإسلام، فعلى طول نقاشاته في الفايسبوك أو مع أصدقاءه، ينتقد هذا الشاب رسالة النبي محمد (ص)، ويراها شمولية وإقصائية، كما أنه كان من أكبر زعماء حركة "ما صايمينش" التي نادت بالإفطار العلني خلال رمضان، لدرجة أن نشر صورة له وهو يتناول طبقا غذائيا في عز نهار قال إنه يوم من أيام رمضان، زيادة على أنه قام في الأيام الأخيرة بنشر صورته عاري الصدر ك"تضامن" مع حركة فيمين. أسس عماد، رفقة زملاء له في الفكر، صفحة على الفايسبوك أسماها ب : "مسلمون سابقون"، يعرض فيها لتصوراته حول ضرورة إدراج مبدأ حرية المعتقد في الدستور المغربي، وينتقد من خلالها الفتوى الأخيرة للمجلس العلمي الأعلى التي قال إنها تزيد من عزلة اللادينيين المغاربة، فهذه الصفحة في نظره، تعتبر لبنة أساسية من أجل بناء مجلس المسلمين السابقين في المغرب، المجلس الذي سيكون، حسب تعريف الصفحة، أول منظمة إلحادية و لادينية علنية في دولة يُمَثل فيها الإسلام، الدين الرسمي. يوسف..مسلم ثقافيا وليس عقديا.. عكس قاسم وعماد ممن اختاروا الجهر بخروجهم عن الإسلام، يوجد في الجانب الآخر مغاربة لا يبدون أي شيء يعبر عن تغييرهم لمعتقدهم الديني، كيوسف، واحد من المدونين المغاربة، الذي قَبل الحديث إلى هسبريس، شريطة عدم الكشف عن هويته، لأسباب عديدة من بينها أنه لا يريد جدلا حول شيء يخص أعماقه، ولا أن يتحول إلى هدف سهل للسب والشتم والتهديد أحيانا.. كان يوسف، الطالب الجامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، قريبا جدا من التيار السلفي في بدايات إدراكه الديني، بعدما كان متعمقا في فهم وتطبيق الإسلام، ساعده في ذلك الانترنت وما أتاحه من إمكانيات هائلة للبحث والتنقيب، لدرجة أن وصل إلى تذوق السكينة والاطمئنان كما يقول، إلا أن هذا "المخزون العاطفي" بدأ بالتراجع بسبب شكوك راودت ذهنه اليافع في الأشهر الأخيرة من دراسته الثانوية، حاول مقاومتها بكل قوة، فسهر في البحث والتقصي، وجفاه النوم لليال، إلا أن صلاته التي صارت بدون معنى، وعدم قدرته على استحضار معاني الركوع والسجود، عجلت بخروجه من الإسلام، ولو أنه لا زال يحترمه بشكل كبير، ويرى فيه منهجا روحيا يتبعه من يريد الاستنارة الروحية وليس العقلية. حتى عائلة يوسف لا تدري عن معتقداته، وقلة قليلة من أصدقائه من تعرف حقيقة أفكاره، وحتى حسابه على الفايسوك لا يحتوي على أي منشور يؤشر لفكره القريب جدا من ما يعرف ب"إسلام الثقافة"، أي ذلك النوع من اللادينية الشخصية الذي تبقى مضمرة، بحيث يظهر الشخص كما لو أنه مسلم بسبب الخلفيات الثقافية والحضارية والاجتماعية. يرى يوسف بأن الفتوى الأخيرة للمجلس العلمي الأعلى تخالف الدستور وتنافي أبسط حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، إلا أنه انتقد كذلك من يحرض على الردة وتبديل الدين، ويستفز الآخرين في معتقداتهم الشخصية، "بعض المتطرفين في صفوف اللادينيين يختلقون صراعات مع المتدنين، في حين أن التدين من عدمه يبقى مجالا شخصيا لا يجب أن يصل حد التهديد بقطع الرؤوس" يقول يوسف. الارتداد عن الإسلام..هل يستجوب القتل؟ "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة". هكذا تقول المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو الإعلان الذي يتحفظ عليه الكثير من المسلمين ويرون أن المسلم لا يحق له تغيير ديانته وإلا جاز فيه القتل، مستشهدين في ذلك بحديث للرسول (ص) يقول فيه:" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " إضافة لحديث آخر:" من بدل دينه فاقتلوه"، ويؤكد الشيخ القرضاوي هذه الحدود بقوله: لولا حد الردة، لانقرض الإسلام من زمان. فتوى المجلس العلمي الأعلى التي تنهل من الفقه المالكي ترى هي الأخرى أن "الارتداد عن الإسلام يعتبر كفرا ، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة ويقتضي دعوة المرتد للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه"، وهي الفتوى التي لاقت تأييدا سلفيا واسعا. غير أن الباحث في العلوم الإنسانية، عبد الرحيم العلام، يرى عكس ذلك، ويرى أن حد الردة صناعة سياسية ولا علاقة له بالدين، مبررا ذلك بعدم وجود أي ذكر لهذا الحد في القرآن الكريم، بل أن هناك آيات تُظهر عكس ذلك كما هو الشأن في ﴿مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، متحدثا عن أن الحديث الأول الذي ذكرناه سابقا، يشترط ترك الجماعة لإقامة الحد، أي مناصبة العداء للوطن والتعاون مع العدو، وهو ما يسمى بالخيانة العظمى، أما الحديث الثاني، فهو حديث موضوع ضعيف السند ومخالف لأحكام القرآن الكريم، مضيفا أن وضعه تم لتبرير ممارسات سياسية معينة. لماذا لا يتقبل المجتمع المغربي مواطنا ملحدا؟ بالنظر إلى مجموعة من التصنيفات، فالإلحاد ينقسم إلى قسمين، الأول يتعلق بالملحدين المنكرين لوجود الله، وهو تيار لا يؤمن أبدا بالغيبيات، ويرى أن التطور الطبيعي هو السبب في ظهور الكائنات، وأن الطبيعة لم تحتج لخالق معين كي تتكون، ويمكن الحديث عن أن قاسم وعماد ينتميان إلى هذا التيار، أما القسم الثاني، فهو ما يعرف باللا أدريين، وهم فئة لا تنكر وجود الله ولا تؤكده كذلك، يعتقدون أن الإنسان صنع الأديان لكي يرتاح نفسانيا، وأنه ليست هناك أية التزامات أو مسؤوليات بموجبها قد يحاسب الإنسان في الحياة الأخروية، وهو تيار قريب جدا من أفكار يوسف. وحسب رشيد الجرموني، الباحث في سوسيولوجيا الدين، فالتيار الأول يسير إلى الاندثار، وصار إنكار وجود الله بشكل تام أمرا نادرا في الكثير من المجتمعات، أما التيار الثاني، فهو متكاثر بشكل كبير في جل أقطار العالم خاصة تلك التي تأثرت بفكرة سارتر:"الوجود يسبق الماهية"، أي الحياة دون أي التزامات قبلية. وبالعودة إلى تصريحات جل اللادينيين الذين التقينا بهم، فإن غالبيتهم تعاني من المضايقات، وهو ما يرجعه الجرموني إلى الضعف في التربية والتوعية، والرغبة في رؤية المجتمع على نمط واحد دون قبول الاختلاف، لاقيا باللوم على الأسرة التي تشجع على الإسلام الوراثي وليس ذلك المتعلق بالتدبر وإعمال المنطق، وكذلك على المنظومة التعليمية التي لم تنجح في تبني ثقافة التسامح الذي يبديه الأميون أكثر من المتعلمين، حسب رأيه. وبعيدا عن الأسباب الدينية والثقافية التي تؤدي ببعض المغاربة إلى اللادينية، فالجرموني يرى أن هناك أسبابا سياسية وراء هذا الاختيار، كبعض التوجهات القانونية والتدبيرية للدولة، من قبيل استغلال الدين في ميادين معينة واستبعاده في أخرى بمبررات لا تقنع في الكثير من الأحيان، وهناك أسباب أسرية تعود إلى التربية التقليدية التي تشجع على الانصياع للأوامر الإلهية دون تمكين الأبناء من النقاش وإبداء الرأي خاصة وأن العديد من الملحدين ترعرعوا في عائلات متدينة، زيادة على أسباب متعلقة بنمط العصر الحالي المتسم من جهة بالانفتاح وبسهولة إيجاد ونشر المعلومة بشكل أثر على الكثير من العقول لتنطلق في اتجاهات مختلفة عقديا، ومن جهة أخرى يتسم بالتحولات السريعة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية، وهي التحولات التي أنتجت حسب رأي الباحث ما يُعرف ب"ضياع المرجعات". لكي نعيش بجميع اختلافاتنا.. نص القرآن الكريم على قاعدة "لا إكراه في الدين" وحث على الحديث بالموعظة الحسنة، وكذلك نادت العلمانية (التي يؤمن بها أغلب اللادينيين) على حرية المعتقد واعتبار الدين مسألة شخصية تحميها عن طريق الدستور والقوانين، ولو كان الانتماء إلى وطن ما باعتبار الدين، لتلونت العديد من مساحات هذا الكون بلون الدم، ولأعيد تشكيل الدول من جديد على ضوء الدين، ولصارت الأقليات، في أي بلد تدين أغلبته بدين معين، عرضة للاضطهاد والتضييق. ثقافة قبول الآخر لم تعد اختيارا، ولا ترفا، ولكنها صارت نوعا من الواقع الذي لا مفر من العيش في ظله، وإلا خرجنا جميعا إلى حواشي وهوامش هذا الزمان، ثقافة يتحملها المتدين فيحترم معتقدات الآخرين حتى ولو كان يراها ضلالا وكفرا، ويتحملها كذلك من اختار الخروج عن هذا الدين حتى ولو كان الإسلام بالنسبة إليه خرافة وصناعة بشرية، وإلا فسيقتل بعضنا بعضا، وستنطفئ الإنسانية في أعماقنا، وسنعيد اجترار أخطاء كلفتنا الكثير من الأرواح..