قصة قصيرة واقعية كنت طفلا صغيرا لا يتجاوز عمره سبع سنوات حين وجدت نفسي مع جمع غفير من الناس (قرابة ستين أو سبعين شخصا)، كانوا يهرجون ويمرجون داخل صالة بمنزل جدتي من الوالد "ممّا فطوم" رحمها الله بمدينة القصر الكبيرمسقط رأس الوالد، وكانت المناسبة هي انخراط الوالد في الحملة الانتخابية التشريعية المغربية خلال سنة 1983 بصفته مرشحا فيها باسم حزب الاستقلال في عهد الراحل "امحمد بوستة"، في مواجهة مرشح من حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كان يسمى "محمد الطويل" حسب ما أذكر، وقد كانت المنافسة بين الاستقلاليين والاتحاديين في تلك الفترة أكثر من حامية الوطيس، لكنني لم أكن أفهم ما كان يجري حينها، كل ما فهمته من كلام الناس في الصالة وهم يرددون كثيرا كلمة "الطويل" وبعض العبارات الأخرى التي راجت على ألسنتهم، هو أن الأمر يتعلق بنوع من الصراع أو المعركة التي يشارك فيها رجلان، أحدهما تصورت في ذهني أنه طويل في بنيته الجسمانية ورجل آخر لم أكن أتصور أنه هو الوالد، إذ أنني لم أكن أفهم ما معنى السياسة والانتخابات في الأصل بحكم صغري ومحدودية تفكيري آنذاك. ورغم أنني كنت خجولا جدا في تلك الفترة إلا أنني لم أشعر كيف وقفت دون أن أتمالك نفسي وسط ذلك الجمع الغفير من الناس الحاضرين، بمن فيهم بعض أفراد العائلة ومناضلين استقلاليين من العرائشوالقصر الكبير والرباط وغيرها، ثم صرخت بأعلى صوتي قائلا: الطويل هو لي عيربح.! عمّ في الصالة صمت رهيب أثار شكي في محتوى ما قلته، وزاد من ذلك نظرة الوالد المبهورة والساخطة تجاهي وتحركه نحوي ربما لعزمه إعطائي واحدة من "سلخاته" الناذرة لي ب"السمطة" حتى أن الدماء كادت تتجمد في عروقي لولا تدخل الوالدة في الوقت المناسب، إذ وفرت لي الحماية واستطاعت أن تقنع الوالد أنني كنت أتكلم ببراءة الأطفال ليس إلا، وبأنني -وهذا صحيح- لم أكن أفهم مغزى قولي ذلك قبل أن أكتشف في ما بعد أنه لم يكن في محلّه من "الناحية السياسية". ولعل تلك الحادثة كانت هي أول اتصال لي بالسياسة أو لنقل: هي أول نبش قمت به في حياتي لاكتشاف السياسة ومعناها، وقد ترك ذلك في نفسي أثرا لم أنسه ولم تنسه حتى الأسرة وخصوصا الوالدة التي كثيرا ما نضحك معا ونحن نستحضرها في لقاءاتنا. الغريب في الأمر هو أن المرشح الاتحادي "الطويل" رحمه الله هو الذي انتصر فعلا في تلك الانتخابات المباشرة -كما تنبأت دون أن أدري- في حين انتصر الوالد في ما بعد لطموحه بتمثيل ساكنة المنطقة في البرلمان خلال نفس الولاية، بعد اختياره من طرف الحزب عن طريق الانتخابات غير المباشرة أو ما كان يسمى في تلك الفترة ب"الثلث الناجي"، وأعتقد جازما أنه حاول ما بوسعه تمثيلها أحسن تمثيل وتوفّق في ذلك بنسبة محترمة، أقله أنه خرج من السياسة تاركا خلفه صفحات جميلة يغمرها بياض اللون.