صدر في طباعة أنيقة وفاخرة ومحترفة، مجلد مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، في أكثر من 800 صفحة من القطع الكبير، تحت عنوان «المغرب الذي عشته». وهي مذكرات حدث بكل المقاييس السياسية والتاريخية والإعلامية، اعتبارا لما تتضمنه من معلومات وتفاصيل تعرف لأول مرة، تعكس غنى تجربة الرجل، كواحد من قادة الحركة الطلابية والحركة النقابية والحركة السياسية الوطنية والتقدمية بالمغرب خلال 60 سنة الماضية. وأيضا كواحد من رجالات الدولة المغاربة الذي تحمل مسؤوليات وزارية متعددة، بعضها دقيق وحساس (مثل وزارة العدل)، وكذا ترؤسه مجلس النواب بالمغرب لأكثر من ولاية، قبل أن يفوز برئاسة البرلمان الدولي، مما منحه أفقا عالميا لم يسجل قط لأي شخصية مغربية مماثلة. هو الذي يعتبر أقدم برلماني بقي يحوز ثقة الناخبين بنفس دائرته الإنتخابية بالقصيبة بإقليم سيدي سليمان منذ 1963. إن قيمة مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، كامنة في أنها صادرة عن واحد من القادة السياسيين التقدميين للحركة الإتحادية، الذي كان دوما في قلب «السر السياسي» لصناعة القرارات الحزبية والسياسية بالمغرب، تأسيسا على ما حازه من ثقة راسخة عند كبار صناع تلك القرارات، من قيمة الملك الحسن الثاني والزعيمين الإتحاديين عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي. دون إغفال قوة علاقته بالزعيم علال الفاسي، الذي أطلقت عليه والدته اسم والد ذلك الزعيم التاريخي المغربي (عبد الواحد) تيمنا به وبقوته الرمزية حينها ضمن الحركة الوطنية الوليدة في الثلاثينات، ما جعل علال الفاسي دوما يناديه قائلا «أهلا باسميا العزيزة». مثلما أن قيمتها آتية، من طبيعة قصة حياته، هو الذي ذاق اليتم باكرا، وهو لما يزل طفلا يافعا، حين توفيت والدته ثم توفي والده بسبب مرض السكري. وهي قصة الحياة، التي تعتبر عنوانا للمقاومة من أجل البقاء والنجاح، وأنها قصة فرد صاعد من البادية المغربية وليس من العائلات المدينية البورجوازية. لأنه سليل عائلة فلاحية، راكم أبناؤها، أبا عن جد، علاقات راسخة مع السلطة المركزية، كون والده وجده كانا من قياد دار المخزن منذ أواسط القرن 18 (أحد أجداده كان قايد الرحى بمنطقة بني حسن بالغرب). بالتالي، فالرجل مختلف في تكوينه الحياتي، مغربيا، عن السائد خلال القرن العشرين، حيث ظلت الغلبة على مستوى النخبة لأبناء العائلات المدينية. هنا ربما يكمن واحد من أهم مرتكزات تميز قصة حياة الرجل، التي جعلته، ينتصر من أجل العلم والمعرفة (وهو أكاديمي رصين جدا وحجة في مجاله)، وأيضا أن ينتصر للإصلاح في معناه السياسي عبر الإنخراط ضمن تيار الحركة الوطنية والتقدمية، الذي شكلته الحركة الإتحادية. ويكاد المرء يجزم، أن بروفايل شخصيتين سياسيتين اتحاديتين، من قيمة كل من الأستاذ عبد الواحد الراضي والراحل الدكتور محمد جسوس، قد جعلت منهما أكثر النماذج الإتحادية التي حققت تواصلا سلسا مع أكثر الشرائح الإجتماعية المغربية، استنادا إلى ما نحتاه من شكل خطاب تواصلي، غير مغرق في النظرية، وغير نازل إلى البساطة التحليلية، لكنه ممتلك للقاموس الشعبي النافذ المؤثر الذي ينجح في تبليغ الرسالة السياسية برائحة الأرض والتراب، القريبة من الناس. وهذا عنصر قوة تواصلية نادر في تجربة رجالات السياسة المغاربة خلال 70 سنة الأخيرة. إن في تفاصيل مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، التي حررها باحترافية عالية، وبلغة تواصلية رفيعة، فيها حس قيمة تقنيات السرد والحكي، الأخ الشاعر حسن نجمي، الكثير من الجرأة الأدبية والسياسية والتاريخية، ما يجعلها ترتقي إلى مرتبة الشهادة بل إلى مرتبة الوثيقة التاريخية. بل، إننا سنكتشف من خلال قراءة فصول هذه المذكرات الغنية، (كما نبهني إلى ذلك الأخ نجمي)، أن الرجل قد تأطر قيميا من خلال احتكاكه ب 4 شخصيات مغربية وازنة، شكلت علامات فارقة في وجوده ووعيه وقناعاته، هي الملك الراحل الحسن الثاني والزعيم علال الفاسي والزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد والقائد الإتحادي الرمز الشهيد المهدي بنبركة. فهؤلاء هم من صنعوا، بشكل مباشر، القيم الرمزية التي أطرت شخصية عبد الواحد الراضي. بالتالي، فإن ما نقدمه هنا ضمن هذه المادة التعريفية والتواصلية على امتداد صفحتين، ليس سوى فتح شهية للإطلاع على هذه المذكرات الغنية، وأنها ليست سوى غيضا من فيض، لبحر من التفاصيل والمعلومات الغاية في الأهمية. دون إغفال التسطير على جرأة الرجل في الكلام وتسجيل مذكراته شهادة للتاريخ، لأنه للأسف قليلة هي مبادرات القادة السياسيين الوازنين في تاريخ المغرب في هذا الباب. من هنا التقدير الخاص للرجل، كونه كلم التاريخ وترك «وجهة نظره» للأحداث والوقائع. أي أنه كما قال مرة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قد قدم الحقيقة من الجهة التي كان ينظر إليها منها وكما كانت تتبدى له، وعلى الآخرين أن يكملوا باقي جهات النظر، مما سيمكن المؤرخ المحترف من مادة غنية للإشتغال على تاريخ المغرب المعاصر، الذي لا يزال طازجا، ساخنا وحيا. شكرا الأستاذ عبد الواحد الراضي على جرأة المبادرة. الزعيم علال الفاسي.. ما يمكن تذكره علال الفاسي! إنه الإسم الوحيد الذي لا ينتسب إلى العائلة ولا يمثل شخصا قريبا من معارف العائلة مع أنه الإسم الذي سمعته يتداول كثيرا منذ طفولتي. كان هذا الإسم يمثل بالنسبة إلي شخصية أسطورية، ثم شيئا فشيئا بدأ يتخذ له ملامح وجه أصبح تدريجيا أكثر ألفة، وذلك إلى اليوم الذي سأمر من صورته إلى صوته عبر الأثير، وقبل أن ألتقيه مباشرة بلحمه ودمه، كما يقال، غداة عودته من منفاه إلى المغرب. أتذكر أنني حضرت الاحتفاليات التي نظمت بمناسبة عودته الرسمية إلى الرباط قادما إليها من طنجة سنة 1958، وما أثار انتباهي لأول وهلة هو العدد المثير من المناضلين والمواطنين الذين جاؤوا لاستقباله في حماسة منقطعة النظير، وهتافات لم تنقطع طوال الطريق الذي قطعه في اتجاه مقر إقامته. والأكيد أن الكثيرين مثلي ممن كانوا يشكلون هذه الحشود لم يُتح لهم أن شاهدوه من قبل. كان كل واحد يحاول أن يقترب منه بل وأن يمسه، إذ لم يكن متاحا في ذلك الازدحام التقدم للسلام عليه كما كان ينبغي. وأول نشاط أشرف عليه الزعيم علال في مقر حزب الاستقلال، في باب الحد بالرباط، وحضرته شخصيا، كان حول الوحدة الترابية للمغرب. وكنت ضمن مجموعة من الشباب والطلبة الاستقلاليين الذين قدموا من مختلف جهات المغرب لمتابعة دورة تكوينية أشرف على تنظيمها المهدي بن بركة. كان سي علال يعطي الانطباع تماما شأن المهدي وعبد الرحيم بأنه، من بين قياديي الحزب، الأقرب إلينا، نحن الشباب. وسيتواصل هذا النوع من العلاقة إلى أن غادرت المغرب في اتجاه باريس لمتابعة دراستي العليا. وجاء حدث الانفصال الذي سيعرفه حزب الاستقلال سنة 1959، فاخترت معسكري الطبيعي. ولكنني أسفت لهذا الانفصال السياسي عن أشخاص وقادة كنت أحترمهم وأحبهم، خصوصا من أمثال سي علال الفاسي، سي بوبكر القادري وسي امحمد بوستة وآخرين، وذلك بدون أن تنقطع الصلة الروحية والعلائق الإنسانية في كثير من الحالات (....) كان لدى سي علال فائض من روح الدعابة. كما كانت له فصاحة وقدرة كبيرة على الارتجال. وبالنظر إلى الدور الذي كنت أقوم به إلى جانب سي عبد اللطيف بن جلون، رئيس الفريق النيابي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كانت لي عدة مناسبات للاقتراب أكثر من سي علال وتبادل الحوار والنقاش معه، وكذا مع سي عبد الخالق الطريس رئيس الفريق النيابي لحزب الاستقلال ونائبه سي عبد الرحمن بادّو. ولكوننا شكلنا سويا جبهة المعارضة، سهل علينا ذلك الاتصالات والتنسيق في جملة من القضايا. ومع الزمن، وبعد تدخلاتي اللافتة للانتباه داخل مجلس النواب، سواء في اللجن أو في الجلسات العامة، بدأ سي علال يبدي تجاهي بعضا من الاهتمام أو التثمين، كما بدأ يناديني ب «السمية العزيزة» في إشارة إلى الاسم الشخصي لوالده وابنه اللذين حملا معا اسم (عبد الواحد). وكنت، طوال تلك الأشهر التي قضيناها معا في مجلس النواب، أطرح على نفسي السؤال: ما الذي وقع؟ هل كان ما حدث ويحدث لي مع الزعيم علال مجرد مصادفة؟ فهذا الرجل الشهير الذي كان المغرب كله يلهج باسمه ويحترمه ويُعجب به، بل كانت عائلتي تحديدا تحبه من بعيد إلي حد أنها منحتني اسم والده، ها أنا أتوفر على بعض من الحظ مبدئيا لأقترب منه، فإلى حدود استقلال المغرب كان سي علال يجهل وجودي تماما، ثم فجأة ها أنا أجد نفسي أقرب إليه، إلى الرجل الأسطوري الذي كان مستقرا في خيالي وذاكرتي، أتبادل معه الحديث وأشاركه العمل في البرلمان، داخل اللجن والجلسات، وألتقيه في الممرات والقاعات هنا وهناك، بل وأشعر أن التيار جرى بيننا على أفضل نحو ممكن. وبعد الإعلان عن حالة الاستثناء سنة 1965، عاد كل منا إلى عمله الجامعي، هو إلى كلية الحقوق وأنا إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية مثلما عاد كل منا أيضا إلى نشاط حزبه. وكان علال، كما نذكر، قد استعاد قيادته لحزب الاستقلال خلال المؤتمر الوطني الخامس للحزب في يناير 1960، بعد أن ظل شبه مُبعد عنها شاعرا بالمضاضة (....) الملك محمد السادس.. أنصفنا وأخرس دستوريا أصواتا ضدنا عَلِمتُ بخبر ميلاد ولي العهد سيدي محمد خلال إِقامتي القسرية في زنازن كوميسارية درب مولاي الشريف بالدارالبيضاء، في إثر الاعتقالات الجماعية التي شملت القيادة الاتحادية ضمن ما سُمِّي آنذاك ب «مؤامرة يوليوز 1963 «، وذلك غداة عملية تعذيب وحشية تعرضتُ لها طوال الليالي التي سبقت ميلاد الأَمير. كان الجَلاَّدون الذين يُقيمون في ذلك المكان الرهيب يَرفَعُون صَوْتَ الراديو إِلى حَدِّه الأقصى، ولا أعرف لماذا؛ هل كان لمجرد الاستماع فحسب أم كان للتَّغطية على أصوات المعتقلين الذين كانوا يتعرضون لأقسى صُوَر التعذيب؟ وبالنظر إلى الوضعية التي يُرثى لها التي كُنْتُ أُوجَدُ فيها، تَلقَّيتُ ذلك الخَبَر بتفاؤل وسكينة دون أن أعرف سبب ذلك الإِحساس. أَذْكُرُ أَنني رَجَوْتُ أَنْ يَشْهَدَ المغرب مستقبَلاً جيداً مع ولادة الأمير الجديد، ولي العهد، ملك المستقبل. لاحقاً، عِشْتُ مثل جميع المغاربة المراحل المختلفة التي عَرفَها ولي العهد، وكذا الأصداء التي كانت تَصِلُنا عنه والتي كانت إِيجابية وتقريظية (élogieuse) تَصِفُه لنا كشاب متشبع بمغربيته، يقتسم مع الشباب من أبناء جيله الرغبة في أن يرى المغرب بلداً حرّاً ديمقراطياً حديثاً حيث تسود العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، وبالخصوص بين النساء والرجال. كما كان يقتسم تطلعات جميع المغاربة من أَقْرَانِهِ. وظَلَّ يطمح إلى مغرب غَنِيّ مُرَفَّهٍ يضمن الحياة الكريمة وكرامة المواطنين. كان سيدي محمد منخرطاً بقوة في الأَنشطة الملكية بِصَبْرٍ وانضباطٍ وحِسّ عالٍ بالواجب. وكنتُ أعلم بأنه يتَابعُ باهتمام الحياة السياسية الوطنية وأنشطة الأحزاب والنقابات وما يمور في قلب المجتمع المغربي. كما كان يواكب النقاشات الرائجة في البرلمان. وله دراية جيدة بشؤون البلاد. كانت له اختياراته الشخصية واقتناعاته الخاصة. ابتداءً من بداية الثمانينيات، منذ أن التحقتُ بمعية أخينا عبد الرحيم بوعبيد، بالحكومة، أصبحتُ أرى أكثر، وعن قرب، سمو الأمير ولي العهد الذي كان دائم الحضور إِلى جانب والده الملك الحسن الثاني في مختلف المناسبات الكبرى. وقد صادَفَ تعييني كأمين عام للاتحاد العربي الأَفريقي الفترةَ التي كان يهيء فيها سمو الأمير بحثه الجامعي لنيل الإِجازة في الحقوق، إِذ اختار كموضوع لبحثه تجربة الاتحاد العربي الأَفريقي. وقد أَشرتُ إلى أنني استقبلت لهذا الغرض، بمقر وزارة التعاون، السيد رشدي الشرَايْبي الذي جاء بِاسْمِ سمو الأمير يبحث لديَّ عن الوثائق اللازمة التي كنتُ أَتوفر عليها لإنجاز هذا العمل الجامعي، وكانت الابتسامة تعلو وَجْهَ سي رشدي مُبْدياً قَدْراً ملحوظاً من التهذيب والعناية والامتنان. (...) كان سمو ولي العهد، خلال جميع أَسفاره الرسمية، يُبْدِي جانباً إِنسانياً تُجَاهَ مرافِقِيه جميعاً، ويهتم بظروف سفرهم وراحتهم. ونفس الشيء كنتُ ألْمسُه أيضاً لدى صِنْوِهِ سمو الأمير مولاي رشيد، ما يَدُلُّ على أنهما معاً تخَرَّجا من المدرسة نَفْسِها. قبل أن أصبح رئيساً لمجلس النواب، وأَثناء تلك المرحلة، كنتُ في أحيان كثيرة وفي مختلف المناسبات الرسمية، أُدْعَى إِلى مائدة ولي العهد. وخلال الوجبات، كان يتخذ المبادرة لفتح النقاشات حول بعض المواضيع الهامة والمختلفة مثل التعليم، الاقتصاد، الفلاحة، وكذا حول بعض القضايا الدولية مراعياً طبيعة واهتمامات جلسائه في المائدة. ولاحظتُ أن تحليلات سُمُوه كانت متلائمة. كما كانت أسئلته الدقيقة تَبِينُ عن معرفة بالمواضيع التي كان يتحدث فيها والاهتمام الذي كان يُبْديهِ تُجَاهَ كُلِّ ما كان يَهُمُّ المغرب داخلياً وخارجياً. (...) كنتُ أُدْعَى بانتظام من طرف جلالة الملك الحسن الثاني لحضور مختلف الاحتفاليات الخاصة بسمو الأمير، نهاراً في الاحتفالات الرسمية ومساء في الاحتفالات المحدودة. وبما أن ميلاد سمو الأمير كان قد تَمَّ في شهر غشت 1963، فغالباً ما كانت تنظم تلك الاحتفاليات في القصر الملكي بالصخيرات. كما شاركتُ في حملات الصيد الملكية إِلى جانب الملك الحسن الثاني، كما سَبَقَتِ الإِشارة إِلى ذلك، وكنتُ دائماً - عند الاصطفاف في مسارب الصيد - أَحظى بمكانٍ مُحاذٍ لأمكنة الأميرَيْن سيدي محمد ومولاي رشيد اللذين كانا يرميان في اتجاه الطرائد التي كانت تَعْبُر أولاً من جانبهما من حيث لم يكونا يتركان لها الحظ كي تصل ناحيتي، حيث كنت أُوجَد. (...) كنتُ في باريس حين بلغني خبر رحيل الملك الحسن الثاني. كنت هناك لأسباب صحية بأَمر من جلالة الملك نَفْسِهِ، ولذلك عُدْتُ إِلى المغرب على وجه الاستعجال، وأسرعتُ مباشرة للالتحاق بالقصر الملكي بالرباط للمشاركة في التوقيع على كِتَابِ البَيْعة، حيث لم أغادر القصر عمليّاً إِلاَّ بعد انتهاء مراسيم الدَّفْن. وقدمتُ التعازي على الفور للملك الجديد في الفسحة التي كانت متاحة لي في ذلك الظرف العصيب. وسأَعُودُ إِلى القصر، أياماً بعد ذلك لأقدم التعازي الرسمية إِلى جلالة الملك محمد السادس. وقد تأثرتُ لمرْأَى التأثر البالغ العميق الذي كان بادياً على جلالة الملك بسبب فقدان والده المرحوم. وتحدَّثَ إِليَّ عن ظروف الوفاة غير المتوقَّعة لوالده. وحين خاطبتُ جلالته قائلاً: « جئتُ أتقدم إلى جلالتكم بالتعازي الصادقة في وفاة والدكم». تفضل فأجابني قائلاً: « وأنا بدوري أقدم إليك التعازي، فقد كنتُ أعرف العلاقات الخاصة التي كانت تَرْبطُكَ بوالدي رحمه الله «. ورغم الطابع الخاص للظروف التي أحاطت بوفاة الملك الحسن، تبادلنا مع ذلك بعض العبارات حول سَيْرِ البرلمان. وذلك قبل أن يُحدِّدَ لي موعداً لكي أعود في أقرب الآجال إِلى لقائه من أجل جلسة عمل حول الموضوع. وهو ما قمنا به فعلاً. وسأعود أَيضاً، يوم 30 يوليوز 1999 بعد مرور أسبوع على رحيل الملك الحسن، ضمن قلة من المدعوين، معظمهم كانوا رؤساء المؤسسات الدستورية، وذلك لأَحضر اللقاء المخصص لإِلقاء خطاب العرش، وهي المرة الوحيدة في ظني التي تَمَّ فيها ذلك. (...) استنتجت شخصياً، بكل ارتياح، بأن معجم وقيم جلالة الملك محمد السادس، المتضمنة في خُطَبِه، هي نفْسُها القيم والمفاهيم التي نجد أنْفُسَنا فيها تماماً. (...) ينبغي أن لا أَنْسَى هُنا أَيضاً، في تلك الأيام، حين التمستُ من جلالة الملك أن يستقبل رئيس الكورتيس الإسباني السيد تْرِيُّو فيگيُروَا مارتينيز-كوندي فديريكو (Trillo – Figueroa Martinez Conde Federico) الذي كان في زيارة رسمية إلى المغرب بدعوة كنتُ وجهتُها إليه. وفعلاً، خصَّنا جلالة الملك محمد السادس باستقبال في القصر الملكي في مراكش. وفي آخر الحفل، وفي اللحظة التي كنتُ على أهبة مغادرة قاعة الاستقبال، اسْتَبقَاني جلالة الملك لحظةً ليُخْبِرني بتعويض السيد إِدريس البصري بوزير داخلية جديد، هو السيد أحمد الميداوي، وبوزير مُنْتَدب في الداخلية، هو السيد فؤاد عالي الهمة. ولم يَفُت جلالة الملك أن يقول لي: « لقد أَخْبَرتُ سي عبد الرحمن بذلك «. سيطبع الملِكُ، خلالَ أسابيع أو بعضِ أَشْهُرٍ، عهدَهُ الجديد بطابَعِهِ الخاص، في الخطاب والسلوك والإِشارات، وذلك في ظل ارتياح واضح وتجاوب ملموس من عموم المواطنات والمواطنين ولدى الطبقة السياسية والملاحظين النزهاء داخل وخارج المغرب. بَدَتْ معالم شخصية الملك الجديد تتضح من خلال قرارات قوية وشجاعة ومتلاحقة، الواحد بعد الآخر. انفرجتِ الأَجواءُ العامة أكثر فأكثر، وجرى التأكيد على صيانة الحريات العامة، وتَمَّ إِقرار مدونة متقدمة جدّاً، بالنظر إِلى ما كان قائماً، تهم الوضع الاعتباري للمرأة والأُسْرة، ثم صدر قانون جديد للجنسية يمنح الأَولاد الجنسية المغربية باعتماد صلتهم بأُمهم المغربية، وهو ما اعتُبِر إِنجازاً مُهمّاً على طريق تحقيق المناصَفَة بين الجنْسَيْن. كما تم تشكيل لجنة وطنية للإنصاف والمصالحة لتصفية ملفات حقوق الإِنسان العالقة والسعي إِلى طيِّ صَفْحَةِ ما سُمِّي بسنواتِ الرصاص الكريهة، تلك السنوات التي كان فيها لليسار المغربي، وبالخصوص للمناضلين والمناضلات الاتحاديين، النصيب الأَوْفَر على مستوى الآلام والتضحيات والآثار الجسدية والنَّفْسية الجَارحَة. (...) كنا ندرك، بعد تجربة الحكومة التي ترأسها سي عبد الرحمن، أَن المغرب بَاتَ في حاجة مَاسَّة إِلى المرور من ملكية تنفيذية وُرِثَتْ عن عهد الحسن الثاني رحمه الله إِلى ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية برلمانية تتلاءم مع روح وتوجهات جلالة الملك محمد السادس. كان واضحاً أَن على الحكومة أن تتمكن من الوسائل والإِمكانيات لتنفيذ الاختيارات القوية للملك، والتي تتجاوب مع تطلعات الشعب المغربي، خصوصاً منه الشباب والنُّخَب الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية والنسائية. وبهذا المَعْنَى عبَّرْنا عن رأينا، بكلِّ وضوح ومسؤولية، في مؤتمرنا الوطني الثامن للاتحاد الاشتراكي في نونبر 2008 في بوزنيقة، وضمن البيان الختامي للمؤتمر(...). وانسجاماً مع رؤية جلالة الملك محمد السادس أَيضاً، واستجابةً لإِرادة وتطلعات القاعدة الاتحادية من خلال المؤتمر الوطني الثامن، بَعَثْتُ شخصياً - باسم قيادة الحزب - بمذكرةٍ إِلى جلالة الملك تتضمن المقترحات الخاصة بالإصلاح الدستوري المنشود، وذلك في 8 ماي 2009. والواقع، كان أَملي أن أَنجح في إِقناع مكونات سياسية أخرى، خصوصاً مكونات الكتلة الديموقراطية، في توجيه مذكرة مشتركة، لكننا لم نجد التجاوب المطلوب بل اطَّلَعْنا في تلك الفترة على كتابات صُحفية متسرعة تنال من حزبنا وإِرادتنا في الإِصلاح الدستوري، لكننا لم نُولِها أَدنى اهتمام ومضَيْنا قُدُماً في خيارنا، فكانت المذكرة التي رفعناها إِلى جلالة الملك. كان مطلب المرور إِلى ملكية دستورية ديموقراطية اجتماعية برلمانية يُقَوِّي إِرادة الملك ويعطيها عمقها وامتدادها المجتمعي. فقد كنا نعتقد أن اعتماد صيغة حكم قادرة على تفعيل الاختيارات الأَساسية الجديدة تتجاوب مع تطلعات شعبنا المغربي، وأَننا بالنضال الديموقراطي، بالمواظَبَة، بالتضحيات، بالصَّبْر والإِيمان بالقضية الديموقراطية، نستطيع التوصل إِلى تحقيق أَهداف ونتائج قد تبدو مستحيلة للبعض من قِصَار النظر أو ضِعَافِ النفوس. صحيح، لم نَتلَقَّ جواباً مَلَكيّاً في حينه عن مذكرتنا، ولكنَّه سيظهر لنا وللعَالَم في الخطاب الملكي بتاريخ 9 مارس 2011. لم ننتظر طويلاً، ففي ظل التحولات المتسارعة لما سُمِّي بالربيع العربي والدينامية التي عَبَّر عنها حِرَاكُ الشارع في المغرب وحركة شباب 20 فبراير، وضمنهم شبيبتُنا الاتحادية، تلقينا الجواب الذي أَردناه. وقد اعتبرنا أَن الشعارات الجدِّية الموضوعية لحركة 20 فبراير كانت في العمق منبثقة من مطالبنا وبياننا العام لمؤتمرنا الوطني الثامن، إِذْ لم تتَخَطَّ هذه الشعارات على العموم ما كنا تقَدَّمْنا به وَحْدَنا إِلى جلالة الملك. لقد أبرز الشارع أن المغاربة كانوا في حاجة إِلى إصلاحات جوهرية هي نفسها التي طالب بها الاتحاديون في مؤتمرهم ومذكرتهم. بَدَا واضحاً، كما كنا نُؤكد دائماً، أن المغرب لم يكن في حاجة إِلى ثورة بل كان في حاجة إِلى إِصلاحات، إِلى المزيد من الإصلاحات العميقة لطريقة الحكم وتجاوز كل ما يمكنه أَن يعرقل تحقيق الانتقال الديموقراطي. منطقُ الإِصلاح إِذن لا منطق الثورة، هذا اقتناع المغاربة. وهذا ما أَدركه جلالة الملك محمد السادس فاختار باقتناع وتجاوب وإِدراك أَن يستبق الشارع إِلى الأفق المطلوب، ومنْ ثَمَّ دعا إلى إِصلاح دستوري متقدم، شامل، عميق وجريء في خطابه يوم 9 مارس 2011، حوالي عشرة أَشهر فقط على تقديم مذكرتنا. وتقريباً، فإن هندسة الخطاب الملكي ورؤيته لمرتكزات الإصلاح الدستوري كانتا أقرب ما يكون إِلى هندسة مذكرتنا المرفوعة إِلى جلالة الملك. كان جلالة المَلِك في مستوى تَوقُّعاتنا بل أَنْصَفَنا بينما أُخْرِسَت تلك الأصوات الإعلامية التي قالت عنا سنة 2008 إِننا فقط « نُعَلِّقُ فَشَلَنا الانتخابي على مشجب المطالبة بإِصلاحات دستورية «، فلم نَسْمَعْها تقول شيئاً للإِنصاف أو تراجع تَسَرُّعها في إِصدار الأحكام الجاهزة. (...) الحسن الثاني وقضية مطبعة دار النشر وقضية آيت قدور والفقيه البصري أذْكُر تلك الفترة جَيِّداً حين طُرِح علينا في الحزب مشكل مطبعة دار النشر المغربية (مطبعة في ملكية الحزب منذ سنة 1963) الذي عَرفَ تعقيداً مالياً، فحاولت مصالح الدولة أن تستهدف مِنْ خلاله قيادة الحزب في شَخْصِ الأخوين محمد اليازغي ومحمد منصور. وكان السيد أحمد عصمان، رئيس البرلمان آنذاك، قد أَخبرنا في فريق الاتحاد الاشتراكي داخل المجلس بأَن طلباً برفْع الحصانة البرلمانية عن الأخ اليازغي في طريقه إِلى المجلس. كما كانت مصالح الشرطة قد استدعت الأَخَوَيْن محمد منصور ومحمد اليازغي، عضْوَيْ المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، واستمعت إِليهما، كُلّ على حِدَة، في ملف هذه المطبعة. وأَمام هذا المشكل الذي تم افتعاله بين الدولة والحزب، حاولتُ إِثارة الانتباه فَكَلَّمتُ السيد إِدريس البصري (وزير الدولة في الداخلية آنذاك) بنَبْرة التحذير، على هامش أحد اللقاءات داخل القصر الملكي بالصخيرات، ونبَّهْتُه إلى انزعاجنا من هذا التصرف غير المحسوب تجاه الاتحاد الاشتراكي، وأَنه من الأَفضل عدم الزّج بالبلاد في أَزمة كهذه بلا معنى، وفي توتر قد تكون له عواقب يبدو لي أَن المغرب في غِنًى عنها. لم يَتَردَّد البَصْرِي لحظةً، فيما يبدو، ليُبْلِغَ الملك بِفَحْوَى ما جرى بيننا من حديث. وأَجابَهُ الملك: «على الرَّاضي أن يقول ذلك لي - أَنَا - مباشرةً» ، فأَعاد البصري الاتصال بي وأَخبرني برغبة الملك. وهكذا، توجهتُ إِلى الملك وأَبلَغْتُهُ برأْينا في الاتحاد الاشتراكي فيما يخص موضوع المطبعة، وأن كُلَّ ما هناك هو سوء تدبير إِداري» من طرف المكلف بالتسيير الإداري، وأن لا وجود لأَي اختلاسات أو أخطاء مقصودة أو نوايا سيئة في استعمال مالية المطبعة كما قد يظن البعض ! كما أَوضحتُ للملك طبيعة سير العمل في المطبعة، وككل الشركات طلبنا سلفاً من البنك، وعلينا ديون، ونحتاج إِلى تأمين شروط أَداء الأَقساط الشهرية، ونحن نؤديها وإِن بغَيْرِ قليلٍ من الصعوبات. وما نحن في حاجة إِليه فعلاً، ليس هو المتابعات والتوترات بل مساعدتنا بكيفية موضوعية على الجدولة وإعادة الجدولة في أَداء ديون المطبعة، وفي إِعادة هيكلة المؤسسة في اتجاه تحسين أَدائها ومردودها. بَدَا الملك متفهماً لما كنْتُ أُخْبِرهُ به، بكل صراحة وموضوعية وتَجرُّد. وفعلاً، طلَبَ مني أن أعود إِلى لقائه في اليوم المُوَالي (السادسة مساءً)، في قصر الصْخَيْرات. وما إِن وصَلْتُ حتى التقيتُ السيد محمد برادة (وزير المالية آنذاك) فدخلنا معاً حيث استقبلنا الملك، وكان بمفرده أمام العَرَبة (Wagon) المفتوحة على خيمةٍ كبرى مُشْرَعَةٍ الجَنَبات، المألوفة في الصُّوَر والتغطيات التلفزيونية للأَنشطة الرسمية الملكية. لخَّصَ الملك ملف ديون دار النشر المغربية أَمام وزيره في المالية، وأَعطاه توجيهاته بالعمل على إِيجاد حَلٍّ مُرْضيٍّ، وذلك بإجراء الاتصالات الضرورية مع الأَبناك وإِنهاء هذا الموضوع طبقاً للتقاليد المتَّبَعَة في هذا الإِطار، وبالتسهيلات التي تنظمها وترعاها القوانين. وبالفعل، انتهى المشكل الذي كان مطروحاً. كما توقفت إِجراءات المتابعة القضائية التي كان يُرَادُ بها المساس بسمعة ومكانة الحزب. وكنتُ تابعتُ هذا الملف مع وزير المالية، وعقدنا اجتماعاً، بمقر وزارة المالية، بحضور المرحوم الأخ مصطفى القرشاوي (عن دار النَّشر المغربية) وبعض مدراء الأَبناك من الذين كانت لهم صلة بهذا الملف، وقد لاحظتُ أنهم كانوا يعرفون طبيعته. وفعلاً، نجحت الخطوات التي اتفقنا على اتباعها من حيث إِعادة الجدولة وكيفية الأَداء المنتظم. كما نجحنا في وضع المطبعة على السكة، وأمكنها أن تقف على قدميها من جديد. ونجحنا بالخصوص، وهو الأَهم، في تفادي أزمة سياسية كانت ستكتسي طابع الخطورة. عَليَّ هُنَا تحديداً أن أُوضّح أَمراً دقيقاً، رفعاً لأَيِّ التباس. وهو أَن مفاتحة السيد إِدريس البصري آنذاك في هذا الموضوع كانت بمبادرة شخصية من جانبي. لم يطلُبْه مني أَحد مطلقاً، لا أخونا عبد الرحيم بوعبيد ولا غَيْرُه. ولم أكن أرى ما يمنَعُني من أن أُعبِّر عن رأيي وعن شعوري الخاص بأَن المشكل يُرَادُ تضخِيمُه، ومن شأنه إِلحاق الضرر بالعلاقة الموضوعية بين الدولة والحزب. وقد يقودنا إلى ما لا تُحمَد عُقْبَاه في ظرف كنَّا فيه ما أحوجنا جميعاً وأحوج بلادنا إلى رَصِّ الصفوف وتقوية الجبهة الداخلية لمجابهة التحديات المطروحة وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية. كان إِحساسي أَن الجَوَّ العام قد غَدَا مطبوعاً بالهدوء، وكان تضخيم مشكل المطبعة، على ذلك النَّحْو الذي كُيِّفَ بِهِ، سيعود بنا إِلى مرحلة كنت موقناً بأَننا خَرجْنَا منها وتَجَاوَزْنَاهَا. ومن ثَمَّ بادرتُ تلك المبادرة الشخصية، ولم أُخْبِرْ بها الأخ عبد الرحيم بوعبيد، وحتى الأَخ محمد اليازغي، إِلاَّ حين كان لها ما يستَتْبِعُها من رد فعل الملك. * وهكذا، استجابة لرغبة الملك الحسن الثاني، وباتفاق مع سي عبد الرحيم بوعبيد، أَصبحتُ أَتردد على القصر الملكي مرةً كل أُسبوعَيْن، وأَحياناً مرةً كلَّ شهر، حسب الدعوة التي كنتُ أَتوصَّلُ بها، وحسب السيَّاق المطروح. فكانت العلاقات مع الملك، بِفِعل هذا التردد والحضور المضطرد، تتعزز وتتَقَوَّى. وفي نهاية تلك السنة، 31 ديسمبر 1987، استجبت لدعوة كريمة قصد حُضُورِ احتفالات نهاية السنة التي قررها الملك في القصر الملكي بإِيفران. أَبْلَغَني بالدعوة الكاتب الخاص للملك سي عبد الكريم بنَّاني. وفي غضون تلك الأيام كان قد توفي الأَمير مولاي علي رحمه الله، فكان الحفل عاديّاً جدّاً، ولم يكن مغموراً بمظاهر الاحتفال والابتهاج والموسيقى. تقريباً كان حفل عشاء لا أكثر. وسينتظم هذا الحضور في كُلِّ المناسبات الملكية. انتظمت الدعواتُ الرسمية، وانتظم حضوري في كل الحفلات: أعياد الميلاد، حفلات الزفاف والختان، الأعياد الدينية والوطنية... في إِحدى المرات، قَرَّرَ الملك أن يتوجَّهَ إِلى حملة الصيد التي اعتادها. كنا جلوساً حوالي الملك حين التفَتَ إِليَّ وسأَلني، آالرَّاضي.. هل تجيد الصيد؟ فأجبته: «نعم سيدي، شي شوِيا «. وتَدخَّلَ بعض الحضور ليؤكدوا له بأَنني أُجيدُ الصيد فعلاً . وعقَّبَ بالقول: «غَداً سنتوجه إِلى حملة صيد وإذن، تعالَ مصحوباً ببندقيتك». في الغَدِ، حَضَرْتُ مصحوباً بلوازم الصيد، ورَافَقْتُ جلالة الملك الحسن إِلى إِحدى المَحْمِيات ناحية عين عودة (شرق مدينة الرباط). وهناك قضينا نهاراً من الاستمتاع بهوايتنا بكُلِّ ما تتميز به من بُعْدٍ إِنساني وطبيعي ورياضي. فاصطدنا عدداً من الطرائد، من الطيور أو الخنازير. وكما هو معروف، فإِن تلك الخنازير التي كنا نصطادُها، كانت تُحْمَل إِلى حديقة الحيوانات في الرباط لتقديمها كوجبات إِلى مختلف الحيوانات الضارية. أَما الطيور، فكان يحرص الملك على أَن يُرسِلَ إِليَّ حِصَّةً منها. وكانت تصلني وقد تم تَرْييشُها وتوضيبُها وأَصبحت جاهزة للطبخ. ومنذ تلك المناسبة، انتظمت مشاركتي في حملات الصيد برفقة الملك الحسن الثاني إِلى أَن تولاَّهُ الله برحمته في يوليوز 1999. فقد رافقته في الصيد في عدة مناطق، في نواحي عين عودة أو إِيفران أو مراكش، وظل حريصاً على دعوتي إِلى الصيد وإِشراكي في هذا الطقس بدون انقطاع. كان يحضر حملات الصيد إِلى جانب جلالته وليُّ العهد آنذاك سيدي محمد (جلالة الملك محمد السادس)، والأمير مولاي رشيد. كما كنتُ أحضر ضمن شخصيات أخرى أَذْكُر من بينها السادة: أحمد السنوسي، إِدريس البصري، الجنرال لُوبَاريسْ، وأَحياناً كانت تحضر شخصيات من ضيوف المغرب. وأَذْكُر أن الرئيس الفرنسي الأسبق السيد ڤاليري جيسكار ديستان كان قد شاركنا مرة إِحدى حملات الصيد. وعموماً، لم يكن يتجاوز عدد الذين يشاركون الملك رياضة الصيد العَشْرَة أشخاص. وعلى سبيل الاستعادة الطريفة، كنا في مَحْميَّةِ عين عودة، نتَنَقَّل بحثاً عن الطرائد، وكُلُّ صياد كان يتبع مَسْرَباً خاصّاً به. أَمامه وفرةٌ من الطرائد، إِذْ كان فضاء المحمية الطبيعي مُهَيَّاً لممارسة طقوس الصيد. أما لصيد الخنزير، واعتباراً لخطورة اندفاعاته، فقد كنا نقف عند مرتفع من الأَرض، بينما يتحرك الحِيَّاحَة لدفع الخنزير صَوْبَنا. وحين كان يَتَّجه نحونا، كان ينبغي أن نبقى مَحْميِّين حتى لا يصدمنا. وأَحتفظ ببعض الصُّوَر من هذه اللحظات التي كنا نرافق فيها الملك في حملات الصيد. إِحدى هذه الصور التُقِطَتْ لنا ونحن نقف أَمام الطرائد التي اصطدناها، ثم صورة أُخرى التقطت لنا مع الملك بينما كان هو يسألني، كم اصطدتُ ذلك اليوم (في عين عودة)، فأجبتُه على الفور: «سَبْعَة + جُوجْ 7+2 « ! فضحك ضحكةً عميقةً متسائلة عن معنى هذا الجواب (7 و2) وليس 9 كما كان يمكنني القول؟ فأَجَبْتُه: «نعم سيدي، 7 طرائد ضربتُها وسقطَتْ أَمامي، وإِثنتان ضربتهما فَحَمَلاَ الضَّرْبَة ودخلا إِلى عمق الغابة فلم يَسْقُطا أَمامي». وستظل هذه الدردشة مع جلالته مَحَطَّ مداعبة بيننا، تُسْتَعَادُ داخل دائرة الحاشية المُقَرَّبة وبين زملاء الصيد. (...) لكنَّ الصيد في حضرة ملك البلاد لم يكن يمرّ أَخْرسَ بدون تبادل الأَفكار والآراء، وبالخصوص تبادل الرسائل، فكَمْ كان يكلفني المرحوم الحسن الثاني بأَن أَنقل بعض الرسائل (les messages) إِلى سي عبد الرحيم بوعبيد. وبَدَا أَنَّ حَملاَتِ الصيد كانت غَدَتْ صِلَةَ وَصْلٍ فَعَّالَةً، وبعيداً عن أَيِّ طابع رسمي أو علني. كما كان عبد الرحيم حريصاً على تحميلي بعضَ الرسائل، كنتُ أَتَولَّى أيضاً نَقْلَها بأَمانة إلى الملك، خصوصاً حين كان يتعلق الأَمر ببعض لحظات التأزم التي لم يكن الطرفان يرغبان فيها أو في تضخيمها. مثلاً مشكلة مُحمَّد أيت قدور على هامش المؤتمر الوطني الخامس للحزب في مارس 1989 بالرباط، حين قرر العودة من باريس، بعد سنوات المنفى، لكي يحضر أشغال المؤتمر، كما قيل، فتم اعتقاله في المطار. ومرت فترة طويلة وإِخواننا يجعلون من هذا الاعتقال مشجباً يعلقون عليه كُلَّ شيء ! وهكذا، اغتنمتُ فرصة مشاركتي في إِحدى حملات الصيد لأخبر الملك بأن سي عبد الرحيم يرغب في لقاء جلالته. وأبدى الترحيب متسائلاً عما إِذا ما كنتُ أعرف سبب هذا اللقاء. قلتُ «إِن لدى سي عبد الرحيم ما يتداوله مع سيدنا، وهناك مشكل أَيت قدور بدون شك سيُثيره مع جلالتكم». تم اللقاء فعلاً بعد أَن اتصلت مصالح التشريفات بالأَخ عبد الرحيم وحددت له موعداً. وحَكَى لي عبد الرحيم عقب اللقاء أنه بمجرد ما سلم على الملك بَادَرَهُ هذا الأَخير بقوله، «دع مشكلة أيت قدور جانباً فإِنه سيغادر السجن فوراً، ولنَتحدَّثْ عن شيءٍ آخر». وكانت للملك الحسن الثاني رحمه الله هذه اللمسات حين كان يريد تلطيف الأَجواء. أذكُرُ هُنَا قضية عودة الفقيه محمد البصري في سنة 1987، وذلك حين كان لا يزال في المنفى، وحين بعث إِليه الملك الحسن وزيره في الداخلية إِدريس البصري ليبلغه رغبةَ الملك في رجوعه إِلى بلاده. ونعرف ما راج خلال لقاء الرَّجُلين في أحد فنادق باريس، بين البصري والبصري، وخصوصاً ما أَبداهُ سي محمد البصري من شروط لعودته وفي مقدمتها ضرورة إِطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين.. وما إِلى ذلك. بعد ذلك اللقاء وما جرى فيه، وما كُتبَ عنه في الصحافة، خصوصاً ما كتَبَه محمد باهي في مجلة «اليوم السابع» وحميد برادة في مجلة «جون أفْريك». كنتُ في ضيافة الملك بالقصر الملكي في إِيفران، في إِحدى تلك الاستضافات التي قلتُ إنها غَدتْ منتظمةً ومعتادةً. دعانا الملك إِلى الخروج معه خَرْجَة استرواح في الغابة، فقطعنا المسافة على متن السيارات أولاً، ثم تَرَجَّلْنا وأَخذنا نَتَمشَّى. وحين كنا بصدد ركوب السيارات من جديد، طلب مني الملك أن أَرْكَبَ السيارة في رفقته وبمعيَّة السيدين أَحمد عصمان ومولاي أحمد العلوي. وفي الطريق، ونحن في السيارة، فَتَحَ الملكُ موضوعَ الفقيه البصري. قال لي: «ينبغي أَن تعرف موقفي. فقد كنتُ فكرتُ في أَن لهذا السيد علاقات مع الجزائر، وأَنَّ له علاقات مع البوليزاريو. كما أَن هذا السيد بَدأَ حياته كمقاوم، فأردتُ أن أُعْطيَهُ الفرصة لكي يُنْهيَ حياته كمقاوم لصالح بلاده. ولكي يستغل علاقاته مع هؤلاء الناس ونفوذه الشخصي لديهم في خدمة قضية الصحراء والعلاقات الثنائية بين المغرب والجزائر. ولذلك أَرسلتُ إِليه مرسولاً خاصّاً، وعوض أَن يستجيب فيغتنم هذه الفرصة ويدخل إِلى المغرب لكي نطويَ هذه الصفحة، أَخَذَ يشترطُ عليَّ ويُجيبُني بالمقالات وبالصحف. وأَرى أن هذا السيد لم يفهم المبادرة بل لا يفهم شيئاً. لذلك، لا حاجة إِلى أن يدخل. وإِذا دَخَل سَيُلْقَى عليه القَبْض». وكان يحدثني بكل هدوء ووضوح، ولَعلَّه فَضَّل أن يقول لي ذلك أمام شهود. وكعادتي دائماً عَقِبَ أَيِّ لقاء لي مع الملك، ما إِن عدتُ إِلى الرباط قادماً من إِيفران، حتَّى ذَهَبْتُ إِلى زيارة الأخ عبد الرحيم بوعبيد لأقدم تقريري الشفوي إِليه. وعندئذ، اتصل عبد الرحيم بالفْقيه ليقترح عليه تأجيل التفكير في العودة إِلى المغرب في تلك المرحلة، وأن علينا الانتظار إِلى أن تنضج الظروف. وكما نعرف، فإِن هذه العودة ستتأخر طويلاً، ولن تتحقق إِلاَّ سنة 1995 بعد انصرام ثَمانِ سنوات. عبد الرحمان اليوسفي.. الرجل لا يتواطئ ضد أحد أبدا اقتربت من سي عبد الرحمن، لأول مرة، خلال الفترة التي تم فيها الانفصال عن حزب الاستقلال وإنشاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سنة 1959. ومنذ هذا الانشقاق الفاصل المدوي في تلك السنوات الأولى من عهد الاستقلال، سيتبدى الرجل في عيني كأحد المحركين الكبار لهذه الحركة الرافضة في قلب الحزب الوطني الكبير، والتي كانت تطالب بإصلاح الحزب وإعادة بنائه الفكري والايديولوجي والتنظيمي. كما لمع اسمه وصيته كأحد الصناع الحقيقيين لحركة اليسار الاشتراكي في المغرب، الى جانب وجوه مؤثرة اخرى من أبرزها المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله ابراهيم، الفقيه محمد البصري والمحجوب بن الصديق. وإذن، فإن دينامية التصحيح التي انبثقت داخل حزب الاستقلال هي التي جعلت بعض الوجوه تتقدم الى المشهد فنراها بوضوح اكبر، ومن ثم غدا اليوسفي وجها بارزا في حركة المطالبة بالإصلاح الحزبي والوطني والتجديد الفكري. كان في الثلاثينات من عمره، في الواحدة او الثانية والثلاثين تحديدا، وكان أفقه واضحا بل كان يعرف ما عليه ان يفعل، والى أين يريد ان يمضي. وكنت اشرت الى أنه هو نفسه سيقول لي لاحقا جدا، في سياق شخصي كنا نستعيد فيه الماضي البعيد: »انه لم ينتظر حدث الانفصال عن حزب الاستقلال في سنة 1959، وانما قرر تطليق الحزب منذ 1956«. ربما علي أن استحضر، قبل أي قراءة للتجربة الحكومية التي شرف سي عبد الرحمن بقيادتها كما شرفت باسمه ورمزيته ورصيده، ان اتوقف قليلا عند الرجل الذي قاد هذه التجربة. لم ألمس مطلقا اي تغير في سلوك اليوسفي، وفي عاداته، وفي بساطته وفي تلقائيته، وفي نقائه، وفي نزاهته، وفي روحه القتالية على مستوىا لعمل والأداء والموقف والدقة، فخلال المرحلة الحكومية، ظل كما عرفته دائما طوال مسارنا بل اكتشفت في الوقت نفسه، وعبر تضافر الظروف والاحداث، ان سي عبد الرحمن رجل يشتغل، يجتهد، يهيء خطبه شخصيا. يكتبها هو نفسه وبخط يده بل حتى ارتجاله يهيؤه. يفكر اليوسفي جيدا ومطولا قبل أي مناقضات ولقاءات. وهو رجل منهجي، منظم ودقيق جدا. رجل استراتيجي اكثر منه رجل تاكتيكات، وله حس عال بالمسؤولية. حذر واستباقي، وله حرص دائم على أن يترك خط الرجعة، له دائما حلوله البديلة ويترك الباب مفتوحا. وعند الضرورة، يفضل ان يتفادى لكي لا يحرج نفسه او يحرج الآخرين. لا يتقول او يقول عيبا في أحد، والنميمة ليست من طبعه. كما انه لا يتآمر على أحد، ولا يتواطأ ضد أحد، ولا سبيل الى الحلقية الحزبية في سلوكه كقائد وطني وكمناضل. ان اليوسفي ديموقراطي حقيقي، يبحث دائما عن إمكانيات الاقناع بالحجج و المنطق دون ان يستعمل سلطته الرمزية او موقعه القيادي، ولا يفرض رأيه ابدا. والى جانب الوفاء، هناك واجب التضامن مع رفاقه. بقي دائما وفيا ومتضامنا لا يتخلى. وهو منسجم مع نفسه، متوافق في خطواته وقراراته ومبادئه وخياراته. ولكن اليوسفي كتوم، قلما يتحدث عن نفسه او عن منجزه حتى عندما يتألق ويتوفق وينتصر. يتكلم قليلا دائما، ولكنه كثيرا ما يكون أفضل وأكثر تأثيرا. وما يقوله يفعله، وهذا هو الأساس. لقد خالطته طويلا اذن، وعن قرب. ويمكنني القول انني اعتبرته باستمرار معلمة مرجعية في ممارستنا السياسية والنضالية (...) يمكنني أن أسجل، بخصوص الحكومة التي شكلها سي عبد الرحمن، ان الذين واللائي تحملوا وتحملن فيها المسؤوليات الوزارية كانوا من ذوي السمعة الطيبة. كانت هناك كفاءات وطنية حقيقية. كان هناك حضور مميز ومشرف للمرأة. وكانت هناك سرعة في تفعيل البرنامج الحكومي والتفاعل مع المشروع المجتمعي الذي كان متوفرا. كما كانت الرؤية واضحة، ولذلك تحققت نتائج هامة تمنيت لو كنا عرفنا كيف نقدمها كحصيلة وبصيغة قابلة للتداول والتواصل. صحيح، لقد انجزت حصيلة في شكل وثيقة، لكنها كانت تقنية جداو لم يصل مضمونها الايجابي الى عموم المواطنين. لا يمكن ان يتجاهل اي قارئ موضوعي حجم الاصلاحات التي تمت، خلال تلك المرحلة الحكومية، وحجم ونوعية القوانين التي أنجزت، وعددا من القضايا و الملفات التي كانت عالقة وتنتظر حلولا، وتم حلها. ولقد تم ما تم بدون تغيير على مستوى الموارد البشرية او الإمكانيات المادية المتاحة. لقد تحدثوا ويتحدثون عن حكومة تناوب. ابدا، لم تكن هناك حكومة تناوب. كنت اقول دائما: لم يكن هناك تناوب بل كانت مشاركة الاتحاد الاشتراكي التي كانت ممنوعة منذ 1960. منذ تلك السنة والى سنة 1998، لم تكن هناك رغبة في ان يشارك الاتحاد. وأكثر من ذلك، كانت ثمة مخططات لإقصائه بل لحظره في بعض الظروف. ان الملاحظين النزهاء يعرفون ان الديموقراطية لا تستطيع معالجة أخطاء وسلبيات المجتمعات الا بالطرائق الشرعية، اي بالقوانين و الإصلاحات الدستورية والسياسية واحترام حقوق الانسان، وهي افعال بنيوية عميقة واستراتيجية، لكنها تتأخر عن ان تظهر نتائجها. لا أريد هنا أن أبرز أننا لم نحقق رهاننا كاملا أو أننا اخفقنا او ما شابه ذلك، ولكن المؤكد ان اليوسفي كان شجاعا حين ابدى نقدا ذاتيا يغني عن كل تعليق، من حيث قيمته الاخلاقية والنضالية والتاريخية، وذلك حين لمس حدود تلك التجربة الرائدة، خصوصا ما يتعلق منها بالرهان الكبير العميق على الديموقراطية في سيرورتها التاريخية في المغرب. ومع ذلك، فقد ترك باب الأمل مفتوحا على ما كان متوقعا حدوثه من تطورات (في الفترة التي تلت محاضرته في بروكسيل، سنة 2003). وفعلا، لم تكذب الايام ت بصره ونظرته النفاذة، فسرعان ما عادت الاشياء الى مجراها، واصبح الالتزام بالمنهجية الديموقراطية ممكنا في ظل مستنجدات الواقع السياسي في المغرب وفي العالم العربي والنظرة الاستباقية للملك محمد السادس الذي سارع، في سنة 2011، الى الاستجابة لأصوات شعبه وأجياله الجديدة بالخصوص. وذلك ما كان سي عبد الرحمن ورفاقه قد مهدوا له، حتى وان كانت الضريبة مكلفة جدا بالنسبة الينا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. المهم هو التاريخ، وتلك النظرة الفائضة بالامل والحياة ونحن نرى مع اليوسفي إمكانية تحقق الحلم ببداية انتقال هادئ وسلس نحو ديمقراطية أشمل وأعمق وأقوى يستحقها المغاربة جميعا، بملكهم وقادتهم ورموزهم ونخبهم، ذكورا وإناثا، شبابا وشيبا. اذكر في بداية نونبر 2003، كلمني سي عبد الرحمن في الهاتف ليتأكد من وجودي في بيتي، وأخبرني باني سيوزرني في الحين. وبعد لحظات، وصل الى البيت فتبادلنا عبارات الترحيب، ثم اخرج من جيبه ورقة مكتوبة بخط يده. وكانت تلك الورقة هي التي أعلن فيها استقالته من موقعه ككاتب اول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعن قراره بمغادرة الحياة السياسية. طلب مني أن أقدم هذه الورقة الى أعضاء المكتب السياسي للحزب بالطريقة التي أراها ملائمة. ولا أخفي شعوري بأن رسالة سي عبد الرحمن تلك كاتن بالنسبة الي صدمة كبيرة، ذلك لأن الحزب لم يكن مؤهلا ليفقد حضور وإسهام قائد كبير في ظروف كان، ولا يزال فيها، في حاجة الى مكانته ورؤيته و ديناميته بكل تأكيد، والى رجل بهذا الحجم وبهذا الرصيد التاريخي والرمزي الكبير. كان تأثري قويا حين أدركت ان قرار اليوسفي لارجعة فيه، ولا سيما انه سبق له أن قدم استقالة من قيادةالحزب. اما هذه المرة، فقد كانت استقالة من الكتابة الاولى للحزب بل اعتزالا من الحياة السياسية ككل. سنوات بعد هذا الحديث اذكر انني كنت في زيارة لاخينا سي عبد الرحمن في بيته في الدارالبيضاء، واثناء تبادل الحديث حول حزبنا، اغتنم المناسبة ليوضح لي معنى تلك الإشارة التي جسدها اختياره لي ليسلم الى رسالة استقالته تاركا لي الصيغة الملائمة لعرضها على الإخوان في قيادة الحزب. قال لي بأنه كان يتمنى بتلك الاشارة ان أتولى مسؤولية الكاتب الاول بعده مباشرة. وتلك مسألة أخرى.