ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الواحد الراضي.. المغرب الذي عشته
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 10 - 02 - 2017

صدر في طباعة أنيقة وفاخرة ومحترفة، مجلد مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، في أكثر من 800 صفحة من القطع الكبير، تحت عنوان «المغرب الذي عشته». وهي مذكرات حدث بكل المقاييس السياسية والتاريخية والإعلامية، اعتبارا لما تتضمنه من معلومات وتفاصيل تعرف لأول مرة، تعكس غنى تجربة الرجل، كواحد من قادة الحركة الطلابية والحركة النقابية والحركة السياسية الوطنية والتقدمية بالمغرب خلال 60 سنة الماضية. وأيضا كواحد من رجالات الدولة المغاربة الذي تحمل مسؤوليات وزارية متعددة، بعضها دقيق وحساس (مثل وزارة العدل)، وكذا ترؤسه مجلس النواب بالمغرب لأكثر من ولاية، قبل أن يفوز برئاسة البرلمان الدولي، مما منحه أفقا عالميا لم يسجل قط لأي شخصية مغربية مماثلة. هو الذي يعتبر أقدم برلماني بقي يحوز ثقة الناخبين بنفس دائرته الإنتخابية بالقصيبة بإقليم سيدي سليمان منذ 1963.
إن قيمة مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، كامنة في أنها صادرة عن واحد من القادة السياسيين التقدميين للحركة الإتحادية، الذي كان دوما في قلب «السر السياسي» لصناعة القرارات الحزبية والسياسية بالمغرب، تأسيسا على ما حازه من ثقة راسخة عند كبار صناع تلك القرارات، من قيمة الملك الحسن الثاني والزعيمين الإتحاديين عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي. دون إغفال قوة علاقته بالزعيم علال الفاسي، الذي أطلقت عليه والدته اسم والد ذلك الزعيم التاريخي المغربي (عبد الواحد) تيمنا به وبقوته الرمزية حينها ضمن الحركة الوطنية الوليدة في الثلاثينات، ما جعل علال الفاسي دوما يناديه قائلا «أهلا باسميا العزيزة».
مثلما أن قيمتها آتية، من طبيعة قصة حياته، هو الذي ذاق اليتم باكرا، وهو لما يزل طفلا يافعا، حين توفيت والدته ثم توفي والده بسبب مرض السكري. وهي قصة الحياة، التي تعتبر عنوانا للمقاومة من أجل البقاء والنجاح، وأنها قصة فرد صاعد من البادية المغربية وليس من العائلات المدينية البورجوازية. لأنه سليل عائلة فلاحية، راكم أبناؤها، أبا عن جد، علاقات راسخة مع السلطة المركزية، كون والده وجده كانا من قياد دار المخزن منذ أواسط القرن 18 (أحد أجداده كان قايد الرحى بمنطقة بني حسن بالغرب). بالتالي، فالرجل مختلف في تكوينه الحياتي، مغربيا، عن السائد خلال القرن العشرين، حيث ظلت الغلبة على مستوى النخبة لأبناء العائلات المدينية. هنا ربما يكمن واحد من أهم مرتكزات تميز قصة حياة الرجل، التي جعلته، ينتصر من أجل العلم والمعرفة (وهو أكاديمي رصين جدا وحجة في مجاله)، وأيضا أن ينتصر للإصلاح في معناه السياسي عبر الإنخراط ضمن تيار الحركة الوطنية والتقدمية، الذي شكلته الحركة الإتحادية. ويكاد المرء يجزم، أن بروفايل شخصيتين سياسيتين اتحاديتين، من قيمة كل من الأستاذ عبد الواحد الراضي والراحل الدكتور محمد جسوس، قد جعلت منهما أكثر النماذج الإتحادية التي حققت تواصلا سلسا مع أكثر الشرائح الإجتماعية المغربية، استنادا إلى ما نحتاه من شكل خطاب تواصلي، غير مغرق في النظرية، وغير نازل إلى البساطة التحليلية، لكنه ممتلك للقاموس الشعبي النافذ المؤثر الذي ينجح في تبليغ الرسالة السياسية برائحة الأرض والتراب، القريبة من الناس. وهذا عنصر قوة تواصلية نادر في تجربة رجالات السياسة المغاربة خلال 70 سنة الأخيرة.
إن في تفاصيل مذكرات الأستاذ عبد الواحد الراضي، التي حررها باحترافية عالية، وبلغة تواصلية رفيعة، فيها حس قيمة تقنيات السرد والحكي، الأخ الشاعر حسن نجمي، الكثير من الجرأة الأدبية والسياسية والتاريخية، ما يجعلها ترتقي إلى مرتبة الشهادة بل إلى مرتبة الوثيقة التاريخية. بل، إننا سنكتشف من خلال قراءة فصول هذه المذكرات الغنية، (كما نبهني إلى ذلك الأخ نجمي)، أن الرجل قد تأطر قيميا من خلال احتكاكه ب 4 شخصيات مغربية وازنة، شكلت علامات فارقة في وجوده ووعيه وقناعاته، هي الملك الراحل الحسن الثاني والزعيم علال الفاسي والزعيم الإتحادي عبد الرحيم بوعبيد والقائد الإتحادي الرمز الشهيد المهدي بنبركة. فهؤلاء هم من صنعوا، بشكل مباشر، القيم الرمزية التي أطرت شخصية عبد الواحد الراضي.
بالتالي، فإن ما نقدمه هنا ضمن هذه المادة التعريفية والتواصلية على امتداد صفحتين، ليس سوى فتح شهية للإطلاع على هذه المذكرات الغنية، وأنها ليست سوى غيضا من فيض، لبحر من التفاصيل والمعلومات الغاية في الأهمية. دون إغفال التسطير على جرأة الرجل في الكلام وتسجيل مذكراته شهادة للتاريخ، لأنه للأسف قليلة هي مبادرات القادة السياسيين الوازنين في تاريخ المغرب في هذا الباب. من هنا التقدير الخاص للرجل، كونه كلم التاريخ وترك «وجهة نظره» للأحداث والوقائع. أي أنه كما قال مرة الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قد قدم الحقيقة من الجهة التي كان ينظر إليها منها وكما كانت تتبدى له، وعلى الآخرين أن يكملوا باقي جهات النظر، مما سيمكن المؤرخ المحترف من مادة غنية للإشتغال على تاريخ المغرب المعاصر، الذي لا يزال طازجا، ساخنا وحيا. شكرا الأستاذ عبد الواحد الراضي على جرأة المبادرة.
لماذا هذه المذكرات؟!
يتمنى المرء دائما لو أن فعله وحده ينوب عنه فيقول من هو، ومن كان طوال حياته. ولكن ذلك، فيما يظهر، لا يكفي ليتعرف المرء نفسه.. أو ليتعرف عليه الآخرون.
معنى ذلك، ببساطة، أن على المرء أن يحكي مسار حياته،
(كيف عاش حياته؟ أين ومع من عاشها؟ ماذا فعل خلال هذا المسار؟ ولماذا فعل ما فعل بل وكيف فعل ما فعل؟ والأساس، أين أصاب وأين أخفق أو أخطأ؟ كيف أسهم في فعل جماعي أو في رصيد جماعي؟ وما حصته في منجز جماعي؟...).
وإذ أتأمل، اليوم، مساري، أرى أن ما قمت به، وما قدمته، وما أنجزته، وما تحملت فيه المسؤولية (فرديا أو بصورة جماعية)، قمت به بحس وطني، وبإرادة حرة، وبصدق فاعل سياسي انضوى مبكرا في الأفق الوطني التقدمي والديمقراطي. أسعفته الظروف بعد أن اختبرته، وتشكل نظره ضمن سيرورة شخصية وعائلية واجتماعية صوب هذا الاتجاه.
والحق أن المغرب كان، على الدوام، نصب عيني (...).
كيف يمكن للمرء أن يسكت حين يرى الأخطاء تقال وتكتب وتنشر، والأخطر حين يراها تُكرر؟ والواقع أن الواجب الأخلاقي والتاريخي والفكري يقتضي أن نحلل الأخطاء الجماعية بما هي أخطاء تاريخية، سواء تعلق الأمر بأخطاء تهم البلاد أو أخطاء تهم حياتنا الحزبية. ومن هنا فحسب تخلق البدائل، وتتحقق «فائدة الاقتداء» التي تحدث عنها ابن خلدون في «المقدمة»، ويتم التأسيس للمستقبل.
يعيش المرء حياة مكثفة إلى الحد الذي لا يمكنه أبدا أن يقولها من جديد، كما عاشها.. أو إلى الحد الذي يمكنه أن يختزلها في جملة واحدة، مفيدة وقوية، قد يقولها ويمضي. ولكنه في سن معينة، يكتشف كم كانت حياته ممتلئة وغنية بفيض من الذكريات والأحداث والوجوه واللقاءات والعطاءات والتضحيات والتفاصيل واللحظات والأمكنة إلى الحد الذي قد يحتاج إلى حياة كاملة أخرى كي يحكيها.
في كل الأحوال، يصعب أن يحكي المرء حياته. إنه يحكي فقط ما هو ممكن، أي ما يستطيع أن يستعيده حين تسعفه الذاكرة وتسنده الوثائق (...)
ولا أدعي - هنا مطلقا - أنني أكتب التاريخ فلست مؤرخا، ولا أزعم أنني أمتلك الحقيقة، وإنما أحاول أن أعرض جوانب مما عشته كمغربي وكفاعل سياسي، وكشاهد على عصري وعلى مسار بلادي، وبالخصوص على أحداث عشتها، سواء اقتربت منها أو ساهمت فيها، بجوانبها الموضوعية والذاتية.
فطيلة مساري، لم أكن أدون يوميات. ومن ثم، ولتحرير هذا الكتاب اعتمدت أساسا على ذاكرتي باستثناء بعض الحالات المعينة التي دونت فيها بعض النقط المعزولة، وحررتها عقب بعض اللقاءات التي اعتبرتها هامة مع شخصيات سامية.
ولهذه الاعتبارات، ينبغي على شبابنا، في هذا الوقت الذي أصبحنا نفقد فيه تدريجيا مصداقية السياسة وبعض السياسيين، أن يعرفوا، عكس الانطباع الشائع، أن ممارسة السياسة الحقيقية مسؤولية جدية، خطيرة ونبيلة، لا تستحق لا الابتذال، ولا تتحمل الخمول وانعدام الكفاءة.
كل ذلك، يبرز أن الديمقراطية ليست فقط نظاما سياسيا يتوفر على دستور وقوانين، وإنما هي طراز حياة لمجتمع بكامله (...).
طفولتي الأولى من المدينة إلى البادية
لا أعرف منذ متى تلبستني هذه الحالة الصباحية، أنني حين أستفيق، لا أريد أن يكلمني أحد أو أكلم أحدا، وبالأخص تلك المكالمات الهاتفية المبكرة، على الريق.
أفضل هذا الصمت الصغير، ولو للحظة أو للحظات، كي أستجمع نفسي وأرتب الافكار والمهام والمواعيد في رأسي.
بعد ذلك، يمكنني أن أتناول فطوري، ثم أغادر البيت إلى التزام صغير أو كبير، في الرباط أو خارجها، في المغرب أو خارجه.
الالتزامات، لم تتوقف أبدا. كانت دائما تملأ حياتي (...)
وإذن، لأبدأ من حيث بدأت.
ولدت في مدينة سلا في سابع رمضان 1354 (دجنبر 1935)، وكان بيتنا في سانية معنينو. كانت الأحياء القديمة داخل السور تسمى السواني، سانية الصابونجي - سانية الصبيحي - سانية معنينو، وهي عبارة عن حدائق (عراصي) تنتج الخضر والفواكه، والتي تم إنشاؤها تدريجيا. وكما في المدن العتيقة المغربية، كان هناك مزيج سكني بين العائلات الميسورة والعائلات المتواضعة والفقيرة. وكان ذلك واضحا في شكل وحجم البيوت التي تتمايز بين بيوت فخمة وبيوت صغيرة أو واطئة، بيوت الأثرياء والميسورين، والأعيان من جهة، و بيوت الحرفيين والصناع من جهة أخرى.
كانت الوالدة، زينب بنت الحاج المختار املاس (اسم احدى العائلات الفاسية العتيقة ويدل على أصلها الريفي الأمازيغي) قد أنجبت طفلا قبلي، لكنه لم يكتب له أن يعيش فأصبحت طفلها البكر، علما بأن والدي كان قد تزوج من قبل. ولذا، فإن لدي إخوة وأخوات غير أشقاء. أما الأشقاء فكنا ثلاثة، عبد العزيز (أستاذ في كلية الطب مختص في الغدد)، أخي الأصغر وأختي نفيسة وأنا. وعلي أن أشير إلى أن والدي سليل منطقة بني احسن الغرب (سيدي سليمان)، كان قد تزوج والدتي المنحدرة من مدينة فاس، ولذلك حكاية ينبغي أن أستحضرها في هذا السياق.
المعروف أن أعيان البوادي والذين كان لهم ارتباط بالإدارة أو بدار المخزن، كانوا يحرصون على أن يتزوجوا امرأة حضرية. ولأن الوالد كان يمتلك الخيول وله شغف بها، كان يتردد على مدينة فاس لاقتناء السروج واللجامات ومقومات الفروسية، وما إلى ذلك من الحاجيات. وكانت فاس، كعاصمة آنذاك، شهيرة بصناعة هذه المقومات، ولذلك يتردد عليها أهل البوادي كثيرا. ومعروف أن ظاهرة الفنادق بالمعنى الحديث لم تكن سارية كما هو الأمر اليوم، فقد كان البدو البسطاء يترددون على »الفنادق« التقليدية التي كان ينزل فيها الناس والدواب في الآن نفسه، بينما كان أعيان البادية ينزلون ضيوفا على أقربائهم أو أصدقائهم أو يتوفرون على بيت خاص بهم عند الضرورة.
ونظرا للمهام المدنية والعسكرية التي كان يتحملها أسلافي لدى سلطات البلاد، قبل الحماية، كانت عائلتنا كثيرة التردد والارتباط مع مدينة فاس عاصمة المملكة.
وهكذا، كان والدي - حين يتردد على مدينة فاس - ينزل ضيفا على صديق له، كان هو أمين السرايجية الحاج المكي السقاط. ومنه كان يقتني كل مقتنياته ومخصوصاته من مصنعات الفروسية بل وحتى مخصوصات أبناء قبيلته أيضا. وصادف أن الحاج المكي كانت له ابنة اخت، شابة في مقتبل العمر، فطلب والدي يدها. ونظرا للصداقة المتبادلة، والثقة بين الرجلين، تم الاتفاق على الزواج، ورغم أن العائلة اشترطت أن تظل البنت مقيمة في فاس، لكن الشرط سيصبح حبرا على ورق. ففي النهاية، ستضطر الشابة، زينب، أي والدتي، إلى الالتحاق بزوجها في البادية، وبالطبع، بعد ولادتي بثلاثة أشهر في سلا أخذت - أنا أيضا - إلى البادية. وهناك، سأقضي السنوات الأولى من حياتي.
ولدت في مدينة سلا لأن والدتي رحمها الله حين كانت قد فقدت طفلها الأول اثناء ولادته في البادية، أصرت أثناء حملها الثاني أن تتم الولادة في المدينة (...).
الملك الحسن الثاني عن قرب
في الفترة التي كنت فيها أمينا عاما للاتحاد العربي الإفريقي، تقوت علاقتي بالمرحوم الحسن الثاني. سيلاحظ الملك أن كثيرا من الوقت كان يضيع في المسافة بين أدائي للمهام الموكولة إليَّ وإحاطته بها علما، فقد كنت حريصا على المرور عبر المسالك البروتوكولية المعتادة(عبر مستشاره السيد أحمد رضا اكديرة أو غيره). وحين أدركت أن أنواعا من التأخر في التواصل مع الملك أضحت تؤثر سلبا على سير العمل ووتيرة الأداء، سألت الملك عن الكيفية التي علي اتباعها لتجنب ذلك.
والواقع أن أحد العاملين في القصر الملكي، خلال حديث جانبي بيننا، نبهني إلى أن الأمور تتأخر بسبب هذا الاعتماد على وسطاء من أمثال اكديرة. وكما لو كان ينصحني أو يقترح علي صيغة مختلفة، قال لي: »أخبر الملك بذلك، وهو سيجد الطريقة الفعالة لتواصلك معه«. وعلق الرجل قائلا: إن الوسيط حين يتاح له لقاء الملك، يبدأ بطرح ملفاته هو أولا قبل أن يتذكر ملفاتك! وفعلا، قال الملك إنني لست في حاجة إلى أن أتواصل معه رسميا، عبر وسطاء الدولة، سواء كانوا من داخل القصر أو من خارجه. وطلب مني أن أتصل به مباشرة، وأن أتفادى تماما اللجوء إلى أعضاء الديوان الملكي أو التشريفات. وإمعانا في الحرص على تسهيل وتفعيل التواصل، عين لي شخصا مقربا جدا من حياته اليومية داخل القصر لصيقا ببرنامج التنقلات الملكية. وهكذا، أصبحت على اتصال مباشر بجلالة الملك. كلما دعت مهامي إلى الاتصال به، أتصل وأعرف مكان وجوده، في الرباط أو الصخيرات أو فاس أو مراكش أو الدارالبيضاء فألتحق به حاملا ملفاتي.
لابد أن أؤكد أن هذا التقارب، وهذه الثقة، كانا دائما مطبوعين بالاحترام والتوقير الواجبين من جنبي. وليس من قبيل ادعاء الفضائل إن قلت إنني كنت عفيفا في تعاملي مع الملك.
لا أتجرؤ، ولا أتحدث إلا إذا طلب مني الملك أن أبدي رأيا أو كان الواجب يقتضي أن أقول ما ينبغي أن يقال. وطبعا، كان هناك دائما من يملك جرأة التحدث أمام الملك في كل شيء، والتعليق حول كل شيء حد المبالغة أحيانا. لم يكن ذلك من طبعي على كل حال.
مرة في قصر الصخيرات (ناحية الرباط)، كنت هناك لأقدم إلى الملك بعض الملفات الخاصة بالاتحاد العربي الإفريقي قصد توقيعه عليها. ولاحظت بل كان واضحا أن الملك كان منشرحا، ويتحرك أمام الجميع في لباس صيفي خفيف (الشورت وقميص صيفي خفيف أبيض). دعاني لأقترب منه، ثم تحرك في مشية خفيفة، متباطئة الخطو، مشية المائة خطوة كما يقال، بمحاذاة المنتجع البحري (لامارينا) داخل القصر. كنت أنصت إليه وأبادله الحديث، حين توقف قليلا والتفت صوبي قائلا: ?أنت لا تعرف مكانتك عندي. فأنا أقدرك وأحترمك ?«.
شكرته وأبديت نحو جلالته مشاعر الاحترام الواجب. ثم واصلت بالمشي إلى جانبه بكيفية عادية.
بقيت العلاقة منتظمة هكذا، أرى الملك باستمرار كلما كان هناك داع من دواعي عملي على رأس الأمانة العامة للاتحاد العربي الإفريقي إلى سنة 1987، حين توقف قطار هذا الاتحاد كما أشرت إلى ذلك من قبل. هيأت الحصيلة الشاملة لهذه التجربة في شكل مجموعة من التقارير والملفات والوثائق، وذهبت لأرى الملك كي أقدمها إليه، نْحُطْ السْوَارَتْ (لأضع المفاتيح)، كما يقال. سألته عما سأفعله بالأرشيف فاقترح علي أن أسلمه إلى مديرية الوثائق الملكية. ووضعته في صورة التفاصيل الخاصة بالمصاريف والحسابات، ورأيته يبتسم ابتسامة عميقة حين أخبرته بأنني أديت واجبات كراء مقر الاتحاد العربي الإفريقي (عمارة السعادة في الرباط) من الفوائد البنكية التي جنيناها من مال الأمانة العامة التي كانت في الحساب البنكي. كان المرحوم مولاي أحمد العلوي واقفا يتابع هذا اللقاء فالتفت إليه الملك وتبادلا معا الابتسامة والنظر وعيناي عليهما معا (...).
التقيت أحد العاملين في القصر من الذين اعتدت ملاقاته بالقرب من حياة الملك اليومية. تبادلنا التحية، وقلت له أبلغ سلامي إلى صاحب الجلالة. هكذا بكيفية تلقائية دون أن أتوقع شيئا.
يومان بعد ذلك، اتصل بي الرجل نفسه هاتفيا وأبلغني أن جلالة الملك يطلب مني أن ألتحق به في قصر الصخيرات. أبلغت سي عبد الرحيم بذلك، وذهبت. وهناك، وجدت الجمع المعتاد في حضرة الملك من وزراء ومستشارين وأصدقاء. دخلت وسلمت على الملك فبادرني بالسؤال: آسي الراضي، فينْ هاذْ الغَيْبَة؟ وطلب مني أن أحرص على أن أحضر بين يديه على الأقل مرة كل أسبوعين. أضاف قائلا: »وإذا لم تأت، سأرسل في طلبك بالقوة!« وبدا واضحا أن التهديد كان بنبرة مداعبة حميمية يعرفها من اعتادوا الاقتراب من الملك الحسن الثاني. وكان الحاضرون، وبينهم الجنرال حسني بنسليمان والجنرال عبد الحق القادري وإدريس البصري، يستمعون ويضفون على مداعبات الملك التجاوب بالايماءات والابتسامات المشاركة. وكنت أدرك في روح المداعبة غير قليل من التقدير والاعتبار الخاصين. ولم أكن أخفي الامتنان بدوري.
حين غادرت القصر الملكي، توجهت رأسا إلى بيت عبد الرحيم بوعبيد، حكيت للكاتب الأول للحزب تفاصيل ما جرى مع الملك، خصوصا إلحاحه علي بانتظام التردد على القصر. ولم ير سي عبد الرحيم ما يمنع من أن أستجيب للملك كلما دعاني إلى لقائه (...).
في لحظة جمعتني بجلالة الملك الحسن الثاني على متن الباخرة، صعدنا معا إلى سطح الباخرة. وتجاذبنا أطراف الحديث عن الحزب وعن سي عبد الرحيم. وفجأة طلب مني جلالة الملك أن أتصل هاتفيا من الباخرة بسي عبد الرحيم بوعبيد لوضعه في صورة ما كان يجري، من أشغال ونقاشات تخص قضية الوحدة الترابية، والعلاقات مع ليبيا، والعلاقات الخارجية للمغرب، وفورا، أعطى التعليمات لطاقم الباخرة. إذ لم يكن متاحا لأي كان أن يستعمل أجهزة التواصل التي تتوفر عليها الباخرة، بدون إذن الملك شخصيا.
وعلى ذكر سي عبد الرحيم، فقد أخذ الملك يحدثني عن ذكرياته مع عبد الرحيم خلال فترة الحركة الوطنية وبدايات الاستقلال، وقال لي: أنا أعرف عبد الرحيم أكثر منك وأكثر منكم جميعا، وما عشته معه لم تعيشوه أنتم.
وفي سياق ذلك التقريض لشخص عبد الرحيم، قال لي: كان عبد الرحيم متشائم التفكير. وأضاف : هل ترى هذه السماء، كم هي زرقاء صافية تماما؟ لو كان معنا سي عبد الرحيم لوجدناه يستخرج غيمة (كَيْطلَّعْ شي غَمامَة. غادِي يَبْقَى يقَلَّبْ حتى يَجبرْها!.
وفعلا، بعد هذا الحوار مع جلالة الملك الراحل، اتصلت بسي عبد الرحيم وأبلغته تحيات جلالة الملك، ووضعته في صورة حديث الملك، وكذا في صورة ما كان يجري على متن الباخرة من اجتماعات ومحادثات واتصالات (...).
مرة طوقني الملك بالسؤال تلو السؤال، فيما بدا أنه غاضب ويحاول أن يكتم غيضه (ماذا يحدث؟ كيف جرى أنكم تمارسون الخلط؟.)
وكان علي أن نصت أكثر لأستوعب عما كان يتحدث.فقد تعودت على الكيفية التي كان يفضي بها الملك الحسن الثاني، عادة، بأفكاره وملاحظاته حول الاتحاديين. دائما، كان في أحاديثه عنا إحساس شخصي خاص لا يخفى على من يعرفونه يتداخل فيه العام بالخاص، الآني بالتاريخي، حتى إنني حين أذكر ذلك اليوم، أذكر أيضا ولا أعرف من قال أن السياسة هي التعبير العام عن العواطف الخاصة. وهذا صحيح إلى حد ما، فما من سياسة عامة بدون أن يشوبها قدر من المشاعر الشخصية للفاعلين. والميكيافيلية فهمت ذلك مبكرا جدا حين أوصت بالحزم والصلابة.
قال لي جلالة الملك:
ماذا يحدث؟ كيف جرى أنكم تمارسون الخلط؟ هناك مسألتان مختلفتان: مسألة الإصلاحات الدستورية والانتخابات من جهة، ومسألة الحكومة مع الأموي هي مسألة أخرى.
بخصوص الإصلاحات الدستورية والانتخابية، فقد اخترت طريقا هو طريق الحوار والاتفاق، لكن إذا كان ضروريا سأختار طريقا آخر.
لقد فضلت التهدئة، ولو كنت شخصيا راغبا في اعتقال الأموي، ففي الاستجواب مع ? »حرية المواطن ما يكفي من العبارات ليُحكم بثلاثين سنة.(على الملك أن يسود ولا يحكم؟) « وماذا ستفعلون بالبَيْعَة؟ أستطيع أن أعتمد فتوى لأحاكمه. ولكنني لم أفعل ذلك. لأنني اخترت بأن أقوم بالإصلاحات والانتخابات في جو من الهدوء.
وإذن، بالنسبة إلى ما يهمني شخصيا فأنا، حتى الآن، أغلقت عيني. أما فيما يخص اتهام أعضاء الحكومة باللصوص، فإن عليه أن يدلي بالحجج عما يقوله. وأنا لا أتدخل في هذه القضية.
في سنة 1972، لم أتردد في تقديم خمسة وزراء إلى القضاء، حوكموا بالحبس النافذ، من بينهم الأزرق الذي كان مرتبطا بأوفقير الذي حاول إسقاط البْوِينْغ. أنا لا أحمي الفاشلين (...).
عبد الرحيم بوعبيد.. يوم قرر ترأس جيش التحرير المغربي
منذ البدايات، كان شخص عبد الرحيم بوعبيد حاضرا في طريقي، وفي أفقي.
كان أول لقاء لي معه قد تم، في مدرسة السور بمدينة سلا. وكان قد التحق بها كمعلم حيث حظيت بأن كنت أحد تلامذته، وأن أتتلمذ على يديه في عدة مواد باللغة الفرنسية، كالتاريخ والجغرافيا والرياضيات.. وطبعا اللغة الفرنسية في حد ذاتها.
تخرج بوعبيد من مدرسة المعلمين، بعد حصوله علي شهادة «البروڤي» في ثانوية مولاي يوسف، وعين معلما في مدرسة اللمطيين بفاس. وسيقضي هناك سنتين، قبل أن يطلب الانتقال إلى سلا، مسقط رأسه. وذلك في سنة 1942، سنتين قبل حدث 11 يناير 1944 التاريخي وما ستتبعه من تطورات. وإذن، تعرفت عليه حين كنت في سن السابعة تقريبا.
وأحتفظ في ذاكرتي، إلى الآن، بصورة المعلم الصارم داخل القسم، و الصارم خصوصا مع أقربائه، ومع أخيه بالأخص الذي كان تلميذا معنا. صرامة كانت آنذاك تميز المعلمين المغاربة عموما، وتتخطى الحدة اللفظية إلى الضرب أحيانا بالمسطرة على الأيدي الصغيرة لفرض الانضباط والانتباه والجدية وحفظ الدروس. كان متطلبا يتطلع، من وراء تلك القسوة ربما، إلى أن نجد ونجتهد و ننجح في الطريق إلى بناء المجتمع الذي كان يحلم به هو وأبناء جيله من الشباب الوطني المتحمس.
ومن تلك الفترة، كان عبد الرحيم يبدو أنيقا. وسواء كان يرتدي اللباس التقليدي المغربي أو اللباس الأوروبي، كان له حرص واضح على أناقته. ولكنه كان يلبس اللباس العصري أكثر. أنذاك لم يكن يعتمر باستمرار، كما أذكر، الطربوش الذي سيظهر به لاحقا في مواقع المسؤولية الوطنية مثلما يمكن أن نراه في بعض الصور التي تعود إلى تلك المرحلة. وعموما كان يعتمر الطربوش عندما كان يرتدي الزي المغربي. ومازالت صورته أيضا ماثلة في ذاكرتي، حين كنا نخرج إلى الاستراحة داخل ساحة المدرسة، وهو يتمشى مع بعض زملائه من معلمي مدرستنا في تبادل للحديث فيما بينهم، وقد ارتدى «بلوزة» رمادية ذاكنة (...)
قد لا أحتاج إلى استحضار جميع التفاصيل والأحداث التي اقتسمناها مع عبد الرحيم بوعبيد في نهايات الستينيات وبدايات السعينيات من القرن العشرين. كان القائد الاتحادي الأبرز والأهم في هذه المرحلة، يقود ويوجه ويرشد ويدعم إخوانه في المحن والمحاكمات.
واذكر ما عشناه عقب أحداث الصخيرات والمحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليوز 1971، وما قاله لي سي عبد الرحيم في أول رد فعل له، «لقد نجا المغرب من الكارثة».
وسبق لي أن أشرت إلى الضغوط التي كان يمارسها عدد من إخواننا في الداخل والخارج على سي عبد الرحيم. فقد انفرزت وجتها نظر وسط الاتحاديين، إن في الداخل أو في الخارج. وجهة نظر تعتبر أن علينا أن نترك التناقض يتعمق داخل الأوساط الحاكمة، «خليوهم بيناتهم» وأن علينا ألا «ننقذ الحكم» وألا نتفاوض معه! ووجهة نظر أخرى كانت نابعة أساسا من رؤية عبد الرحيم وتبصره وحسه الوطني العالي، إذ كان يرى أن علينا أن ننقذ البلاد من الكارثة، فقد استشعر درجة الخطر المحدق بالمغرب، واعتبر أن على الاتحاديين أن يتصرفوا بوحي من التاريخ لا من نزعة الانتقام والضغينة ورد الحساب إلى النظام الذي طالما فتك بالاتحاديين وأساء معاملتهم.
وكان رأي عبد الرحيم واضحا، إنقاذ البلاد بالمؤسسات، ودعم الشرعية بالإصلاح الدستوري والسياسي، وبخوض التجربة الديموقراطية وتجاوز أخطاء الماضي (ما كان يسميه رحمه الله بتصحيح المغالطات). وفي هذا الأفق، لم يكن يقبل بالتردد.
كانت الديمقراطية بالنسبة للسي عبد الرحيم هي صمام الأمان (...).
كان واضحا أن على الملك أن يواجه محيطه الرافض للانفتاح على اليسار، وعلى الاتحاد بالخصوص.
في ذلك المحيط، كان كل فرد من الحاشية يقاوم التغيير بطريقته. في سنة 1965، كان واضحا أن الجنرال أو فقير يناصب العداء للاتحاديين ويقف حجر عثرة في وجه لحظة التغيير التي كانت ملامحها ومقدماتها قد بدأت تلوح أمامه، وذلك بالإشراف المباشر على اختطاف واغتيال أخينا المهدي. ومعلوم أننا لو كنا اتفقنا آنذاك مع الحسن الثاني، لكان أوفقير سيفقد سلطته أو سطوته التي كانت له. وبالتالي، كان هناك في محيط الملك من كان يأبي أن ينفتح النظام، وينخرط في توجه ديمقراطي، ويتيح الإمكانية لحكم المؤسسات. والمؤسسات كانت تعني أن لا يدخلها أي كان إلا عبر العملية الانتخابية، أي عبر الشرعية الديمقراطية. وفي أفق كهذا، ما كان هؤلاء ليضمنوا لأنفسهم الاستمرار في مواقعهم. ومن ثم كانوا يدركون أن ليس في صالحهم أن تكون الأحزاب قوية، وأن تكون المؤسسات قائمة وحقيقية وتتمتع بلسطاتها الفعلية المستقلة والمتوازنة (...)
وأذكر مرة، خلال زيارة لي إلى القصر الملكي بمراكش، وأثناء محادثة مع جلالة الملك الحسن الثاني استرجع فيها ذكريات منفى العائلة الملكية إلى مدغشقر، وبصفة عامة العلاقات بين القصر والحركة الوطنية. ثم جاء في السياق حديث عن عبد الرحيم بوعبيد. ونحن نعرف أنه بعد لقاء إيكس ليبان، توجه ممثلو الحركة الوطنية عبد الرحيم بوعبيد، عمر بن عبد الجليل عن حزب الاستقلال، عبد القادر بن جلون وعبد الهادي بوطالب عن حزب الشورى والاستقلال، إلى مدغشقر - كما سبقت الزرشارة، و ذلك من بين الوفود التي ترددت على السلطان محمد بن يوسف لوضعه في صورة التطورات وإحاطته بالخصوص بما جرى في إيكس ليبان والمحادثات مع السلطات الفرنسية. وكذا لرحاطة سلطان البلاد بالوضع في المغرب والمعنويات المرتفعة للشعب المغربي ومدى ارتباطه بالسلطان الشرعي وإصراره على مواصلة الكفاح إلى أن تتحقق عودة السلطان إلى عرشه.
وقد تذكر جلالة الملك الحسن الثاني أنه في آخر تلك الزيارة الى مدغشقر، استفرد به عبد الرحيم ليخبره بكونه يفكر في أن يتحمل المسؤولية على رأس جيش التحرير الذي كان آنذاك قيد التأسيس في شمال المغرب. ولكن الأمير لم ينصح عبد الرحيم بذلك، إذ أقنعه قائلا: «عبد الرحيم، أنت تعرف أن حل المشكل مع فرنسا لن يكون عسكريا، وإنما سيكون سياسيا. وعندما تحين اللحظة، سنكون في حاجة إليك في المفاوضات. لهذا، عليك أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار». وهو ما سيحدث تماما كما خمن الأمير الحسن.
وعندما عدت إلى الرباط، توجهت إلى الأخ عبد الرحيم كالعادة في أعقاب كل لقاء مع جلالة الملك. وفاجأته بأن طرحت عليه السؤال: لماذا لم تقل لنا أبدا بأنك كنت تريد أن تصبح قائدا لجيش التحرير؟ فسألني بدوره: من قال لك ذلك؟ أوضحت له بأن جلالة الملك الحسن الثاني هو من حدثني عما جرى بينكما في أنتسيرابي. واكتفى سي عبد الرحيم بأن ابتسم مؤكدا لي ما قله جلالة الملك، وذلك بدون أي تعليق (...)=
قصتي مع اختطاف المهدي بنبركة ..
كنت أول من بلغه الخبرفي المغرب، خارج الرسميين، ذلك اليوم الرهيب.
اتصلت بنا عبر هاتف البيت، وكنت أسكن وقتئذ في حي حسان في الرباط، زوجة الدكتور عبدالسلام التازي. والدكتور التازي كان من أبرز أطباء أمراض القلب ومن أساتذة هذا التخصص، كلية الطب في الرباط، كانت زوجته مواطنة نرويجية. كما كانت زوجة الشاب التهامي الأزموري نرويجية كذلك. وبالتالي، كانت السيدتان النرويجيتان صديقتين. كما كانت كل من أسرتي التازي والأزموري صديقتين لي ولأسرتي الصغيرة، فكنا نتعرف بعضنا بعض.
ماذا حدث؟ لما «»ألقي القبض على المهدي« « هكذا وصلتنا صيغة الخبر في البداية)، اضطر التهامي الأزموري أن يختفي تماما مخافة اعتقاله. وطبعا أخطر زوجته بالأمر، وطلب منها أن تتصل بعبد الواحد الراضي. وجرى بينهما تفكير سريع في كيفية إخبار الراضي بدون إثارة انتباه بعض الأجهزة الأمنية التي قد تكون وضعت هاتف الراضي تحت آليات التنصت! فانبثقت لديهما فكرة الاتصال بزوجة الدكتور التازي. وفعلا، جاءت السيدة التازي على الفور إلى بيتي وحكمت ما جرى للمهدي في باريس بالصيغة الأولى التي توصلت بها.
وعلى الفور، جريت جريا قاصدا الأخ عبد الرحيم بوعبيد لأطلعه على الخبر. وكما نعرف المرحوم عبد الرحيم الذي كان أحد أقرب رفاق المهدي وأكثرهم وفاء به وصداقة أخوية معه، بادرني بالقول: »آشْ دارْ؟ آشْ دارْ بَاشْ يقَبْطهْ؟«. وكان رد فعل عبد الرحيم الأول أن علينا إجراء الاتصالات مع السلطات الفرنسية لنعرف طبيعة وأسباب هذا الاعتقال. التحق بنا سي عبد الرحمان اليوسفي ومولاي المهدي العلوي، وتحركنا كحزب مغربي محاولين استثمار جميع علاقاتنا في الأوساط الفرنسية، الحزبية والسياسية والإعلامية. وأظن أن الأخ عبد الرحيم اتصل بعدد من الشخصيات الفرنسية البارزة، خصوصا بصديقيه جان لاكوتير الكاتب والصحافي الفرنسي الكبير، والذي اشتهر لدينا بكتابه عن المغرب وبالمحامية والناشطة الفرنسية جيزيل حليمي. كما تحرك إخواننا في التنظيمات الاتحادية في باريس، وفي مقدمتهم محمد الطاهري، محمد الحبيب سيناصر، المسؤول الطلابي الاتحاد آنذاك، وبالطبع سي عبد القادر بن بركة شقيق المهدي.
ثم اتضح أن السلطات الفرنسية من المستويات العليا لاعلاقة لها باعتقال المهدي، ولم يثبت لديها أي أمر بالاعتقال أو المتابعة في حق المهدي بن بركة. وعندئذ، أدركنا أن الأمر كان أخطر من مجرد توقيف بل كان يتعلق باختطاف تم فوق التراب الفرنسي.
ومع فرضية الاختطاف، يمكن للمرء أن ينتظر أي شيء.
هكذا بتنا نخشى أن يحدث الأسوأ، فسارعنا إلى تعبئة وسائل الإعلام وإثارة الضجة في محاولة لحماية المهدي. فغدا الخبر معروفا وشائعا في اليوم نفسه. ولكن الضجة الإعلامية الواسعة التي اندلعت منذ يوم 30 أكتوبر لم تنفع، فيما يبدو، لأن القتلة كانوا قد أنجزوا جريمتهم وانصرفوا.
كانت الأيام تمر ولا تجود بالأخبار التي تريح النفس.
وكلما مرت الأيام شحيحة هكذا، كان قلقنا يكبر. كنا نعتبر أن حياة المهدي في خطر. وإلى بداية يناير 1966، كنا لانزال نعيش على أمل أن يظهر أثر للمهدي، وأمل أن يعود حيا. ثم فجأة، نزل إلى السوق، صباح يوم 10 يناير 1966، العدد الجديد من مجلة الإكسبريس الفرنسية وعلى غلافها حوار مع المسمى جورج فيغون، أنجزه الصحافيان جاك دروجي وجان فرانسوا كان وجورج فيغون هذا كان يقدم نفسه ككاتب أو كمثقف يخالط الأوساط الأدبية والفنية، بينما عرف عنه أيضا غموض علاقاته بأوساط اليسار بل شبهة صلاته بالأوساط الأمنية وحتى بالمافيا الإيطالية.
كان عنوان الملف الذي كرس له الغلاف و 18 صفحة كاملة من العدد، هو (رأيتهم يقتلون بن بركة).
عندئذ، لم نعد فقط أمام فرضية اختطاف بل أمام جريمة اختطاف واغتيال. وإذن، لقد قتلوا أخانا المهدي.
بسرعة، كبرت القضية. اتخذت بعدا إعلاميا كونيا، وأصبحت بالخصوص موضوع الأغلفة والصفحات الأولى لكبريات المجلات والجرائد الفرنسية والدولية. فبدأنا نتابع تطورات الملف من خلال التحريات القضائية والأمنية الفرنسية، من خلال المتابعة الإعلامية الواسعة والمتنوعة والاحترافية في جل الحالات والعناوين.
طبعا، الحزب انتدب على وجه الاستعجال الأخوين عبد الرحمان اليوسفي ومولاي المهدي العلوي للسفر إلى باريس والمكوث هناك لما يكفي من وقت، قصد متابعة الملف وتنسيق دفاع الطرف المدني (...).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.