في ذلك اليوم.. حين أسندت رأسي إلى وسادتي، اجتاحتني نشوة سرت في أطرافي. شعرت بفرح "طفولي" لم أعرف مأتاه ولا منبعه. أسكرتني النشوة فهمست لنفسي: لئن كان هؤلاء الذين يزعمون أنهم سعداء يشعرون كما أشعر الآن فإنهم لفي عيش طيب ! خف جسمي حتى خيل إلى أني لو فتحت النافذة وهب نسيم الفجر لحملني الأُثير حيث يشاء. غمرتني فكرة من رأسي حتى أخمص قدمي. استولت علي فسمعتني أحدث نفسي هامسا، على غير عادتي، وي ! كأني سعيد. ويح نفسي، هذه التي طالما قرأت عنها باتت ملك يميني الآن. لماذا الآن؟ لا أعرف. فتحت النافذة، مُحاذرا أن أطير، ورحت أملأ رئتي من الهواء البارد. رأيت هناك في الأفق البعيد المظلم خيوط ضوء تتراقص. جمح بي الخيال فرأيتني أطل على الناس ممتطيا صهوة نجمة صغيرة. وفي لحظة مجنونة، مرت في لمح البصر، شعرت كأني أضع الدنيا، وما فيها، في جيب سترتي ! كنت أحكم ضلوعي على فرحتي أخشى أن تتسلل من خلل الضلوع. خشيت أن تتفلت عبر مسام جلدي فانجمعت على ذاتي. أمعنت النظر في نجيماتي البعيدة ورحت أستلذ بذلك الخدر الناعم الذي يسري في الأوصال في أويقات الحلم العابرة.. عابرة؟؟ من قال إن السعادة لحظات عابرة تختلس اختلاسا.. في هذه الحياة المائرة الفائرة؟ من قال إن تسارع وتيرة الحياة لم يعد يترك للمرء فرصة أن يحك أرنبة أنفه فبالأحرى أن يحلق، بلا أجنحة، في عوالم الحلم الآسرة واللانهائية؟.. ودون أن أرهق ذهني، فكرت أن المشهد يحتاج خلفية موسيقية. امتدت يدي إلى آلة التسجيل فانطلق صوت فيروز يكسر هدوء ذاك الفجر الرائق الجميل: هل اتخذت الغاب مثلي.. منزلا دون القصور فتتبعت السواقي.. وتسلقت الصخور هل تحممت بعطر.. وتنشقت بنور وشربت الفجر خمرا.. في كؤوس من أثير كنت أتساءل، وصوت فيروز يصعد بي إلى حيث لا أرض ولا سماء، كيف أمكنني أن أضيع عمري ألاحق سراب هذه الواقعية المادية المقيتة الملتصقة بالأرض، الغائصة في الوحل، الخاضعة لإكراهات الزمان والمكان وشروط العرض والطلب !؟ ما كان أتعسني وأشقاني ! كانت شاشة مخيلتي تعرض تلك الصور السابحة في اللامتناهي حين أوقفت آلة التسجيل وأغلقت النافذة ولذت بركن قصي في غرفتي.. لمعت في ذهني، وقتئذ، فكرة كأنها البرق وأومضت وميضا شديدا كاد يطيش معه عقلي: ماذا لو سامحت نفسي الآن ودفنت زمامها في أرض بعيدة فلا أقودها بعد اليوم ولا تقودني؟ ماذا لو صدقت نفسي وصادقتها..؟ انساب سيل الأسئلة لا يقف في طريقه شيء. كانت مشاعر التردد والشك والارتياب والحيرة تأخذ بمجامع نفسي وترجني رجا ثم لا ترسلني. وددت لو خلصني النوم من هذه المشاعر الطارئة الغالبة.. أسندت رأسي إلى وسادتي راجيا أن تعاود تلك النشوة اجتياح أطرافي.. أرهفت سمعي لنحنحة بعيدة كأنها آتية من وراء مكبر صوت عملاق.. كان المؤذن يستعد لينادي الناس إلى الصلاة.. رجني السؤال من جديد: هل تطيق؟ ابتسمت، وأنا أبسط سجادتي، لن أسامح نفسي فحسب.. إني قد سامحت كل الناس.. الذين أساؤوا إلي وآذوني قبل كل الناس..