صرخة ولادة، زعرودة رنانة، تخترقان أجواء البيت المتواضع. تردد صداهما جوانب العما رة الآهلة. تخرج النسوة من جحورهن. يتكئن على الشرفات المطلة على الساحة الخلفية، فضاء الأفراح والأحزان والحكايات اليومية. تمتد آذانهن نحو مصدر الصوت. تنطلق الزغاريد في تناغم عجيب. يخرج الأطفال الصغار كالفئران. تتدحرج نسوة الطوابق العليا. تمتلئ الساحة حركة وضجيجا. تتسمر العيون على مصدر الصوت. يفتح الباب. تخرج الجارة متهللة الأسارير. يُحطن بها. تخبرهن أن "عائشة" قد وضعت أنثى بعد سلسلة من الذكور، اعتمادا على خبرتها الذاتية، ودون إزعاج للمصالح الطبية. تنطلق الأفراح. تدق الطبول والدفوف. يبدأ الإعداد للاحتفال الجماعي. تتسرب نسوة إلى بيت عائشة. يتناوبن على تقبيل المولودة. يبدين الإعجاب الموروث بجمالها وصحتها. يؤكدن على شدة شبهها بأبويها. تنتهي المجاملات إلى البحث عن اسم للطفلة. تبادر إحداهن، وهي معروفة بالتهامها اليومي للأفلام التركية: " الجمال لا يكتمل إلا باسم جميل. "لميس" مثلا أو "هيام" أو "إيناس". وأنا أفضل اسم إيناس" . ترد مدمنةُ الدراما المكسيكية: " أين هذه الأسماء من "مارغاريتا" أو "استريلا" أو "مانويلا"". تحاول الجدة الملقاة في الغرفة المقابلة عبثا أن تفرض اسم "فاضمة" تخليدا لذكرى أمها. تستجمع عائشة قواها. تتناسى آلامها. تصرخ لتضع حدا للجدل القائم " اسمعن. إني وضعتها أنثى، وإني سميتها "أزمة"'. تصيح النسوة في استغراب وإنكار"أزمة؟". ترد عائشة: " نعم. أزمة. اسم رائع، أطلقته على ابنتي قبل الولادة. كلما سمعت حملة الحقائب، أو المتسابقين نحوها، أومن يدور في فلكهم، يرددون اسم "أزمة" بإحساس جميل، يتسلل إلى أعماقي في إيقاع غريب، فيهتز الجنين متراقصا. ينادونه فيلبي النداء. ألا يحق لي أن أقترض اسما لابنتي من كلام الكبار، وهم لا ينطقون عن الهوى؟." تضحك المعلمة المتقاعدة بمرارة. تسترجع جديتها. تتساءل: " اسم رومنسي بالفعل؟. هل تعرفين ما يقصد هؤلاء الناس حين يستعملونه؟" تستمر دون أن تنتظر جوابا. " إنهم يدقون ناقوس الخطر. إنها تعني أنهم وصلوا إلى الطريق المسدود، أن لا شيء يسير كما يجبون ويشتهون. إنهم يهيئوننا لقبول الأمر الواقع, لأن نجوع ونتعرى ونتألم ونموت في صمت. الأزمة تعني العجز عن الفعل، تعني الفشل الحتمي. إنهم يتنصلون من وعودهم المعسولة بضمان العيش الكريم بالتواري خلف تلك الكلمة الغامضة. يستدرون عطفنا وتفهمنا، يستغلون سذاجتنا وطيبوبتنا. ". تتوقف المعلمة لتأخذ نفسها ثم تستأنف " بالأمس كانوا يتغنون بمناعة اقتصاد البلاد، بنجاعة الاختيارات السياسية، بالقدرة على النجاة من الأزمة العالمية الخانقة. قالوا وصدقوا. قالوا إنهم أحسن من أمريكا ومن أوروبا، ومن باقي دول العالم المأزومة، التي لا تخجل من الاعتراف بإخفاقاتها. ما الذي جرى؟ ما الذي فند الادعاءات المتطاولة؟ أين ذهبت تلك الثقة المتعجرفة في الذات؟.. تستفيض المعلمة في حديثها الهجومي. تستمر النسوة في الإنصات والانبهار. تزداد المعلمة حماسا. تنسى النسوة أمر المولودة والاسم. يستولى عليهن الأسى والحسرة. ترتسم على ملامحهن علامات العجز عن استيعاب ما يسمعن. تظل عائشة واجمة، شاردة الذهن. لم تكن تدري أن الاسم الذي اختارته لابنتها يحمل كل هذه الدلالات وكل هذه الوظائف. تزداد إصرارا وتمسكا باختيارها. تقول في مناجاة مسموعة:" الآن أدركت سر استجابة الجنين في بطني. كان يهتز ساخرا. كان يعرف الحقيقة. حقيقة أنهم عاجزون. يحمل في جيناته دقائق وتفاصيل حياتنا وإصرارنا على البقاء. يعرف أنه قد يحرم من المدرسة، من العلاج، من الشغل، من السكن وأشياء أخرى. يعرف كل شيء. يقبل التحدي. يختار الحياة. ".تتوجه إلى المعلمة: "اطمئني صديقتي الغالية. لقد اعتدنا نمط عيشنا. أدمنّاه حتى التوحد. كم هو صعب أن تعتاد حياة رفاه مهدد بالزوال. أخاف عليهم من العودة إلى الأصل. إلى نقطة البداية". تشعر الجارة "سعاد" باعتزاز من لا يملك شيئا يخسره. تترجم اعتزازها إلى كلام، مجرد كلام: " هل ينشغل هؤلاء الناس فعلا بأمرنا؟ من طلب منهم ذلك؟ من أين أتتهم هذه الشجاعة؟ من أنزل عليهم هذه الصراحة؟. خطاب كوميدي مبتذل، لن يفسد علينا فرحتنا، أو يسلبنا عاداتنا الجميلة، أو يلهينا عن الاحتفال ". تصفق النسوة زهوا واستحسانا. تقر عائشة عينا بامتدادها. ترتمي جاراتها في قصعة "الرفيسة"، وقد صُمّت آذانهن عن زغرودة مولودة جديدة.. اسمها أزمة.