غرائب الزيارة أن يمجد قائد غزو المغرب من طرف الرئيس الفرنسي في قاعة البرلمان المغربي، ويقابل كلامه بالتصفيق؛ فهو ما لا يقبل بحال!! وأن يخبر نفس الرئيس المنتخبين المغاربة بأنه أحضر معه مغاربة اندمجوا في المجتمع الفرنسي، فصاروا فرنسيين بهوى مغربي، متمنيا توسيع ذلك النموذج؛ فيحظى أيضا بالتصفيق والاستحسان كمن أتى فتحا من الفتوح. والأدهى من ذلك وقوف -رئيس الحكومة ذي المرجعية الإسلامية، وهو الذي يعرف أحاديث الموضوع في الشريعة الإسلامية- ليتبعه الوزراء والنواب يصفقون لبادرة حسن نية رئيس فرنسا، التي لا تتناسب مع المآسي التي اقترح سيادته على المغاربة وجوب نسيانها؛ في الوقت الذي يخبرنا فيه بأن بلاده ستحيي ذكرى مرور مائة سنة على الحرب العالمية الأولى التي فقدت بلاده فيها استقلالها، وتطوع المغاربة للمشاركة في تحريرها؛ ترى ماذا يمكن أن نسمي هاته المواقف؟ تمجيد في غير محله لم يكن أحد يتوقع من الاشتراكي الفرنسي "هولاند"، تمجيد أحد أكبر رموز الغزو الفرنسي للمغرب، وأكبر العنصريين الذين جسدوا الفصل العنصري في المغرب بدوا وحضرا، من تكليف ساع البريد بنقل الرسائل إلى المعمرين في البوادي، وترك نفس المهمة للمقدم بالنسبة للأهالي، إلى مدّ الطرق لنقل المعدات العسكرية وتصدير المنتجات للوطن الأم، وإيصال الكهرباء إلى الضيعات الفلاحية مهما بعدت وصعب الوصول إليها، وإنشاء تجمعات سكنية للأوربيين سميت بالمدن الجديدة، تتوفر فيها كل الشروط، مقابل المدن العتيقة التي تركت لحالها تعاني الإهمال لتصير تحفا غرائبية تطبع على الرسائل البريدية، وتقدم في المنتديات لتبين الحضارة الفرنسية، التي جاء الغزو الفرنسي ليخرج ساكنتها من طور الهمجية إلى مستوى الإنسان. إنه عراب الحماية الجنرال ثم المارشال "ليوطي"، الذي قال في خطاب له أمام معمري الرباط يوم 15 غشت 1912: "عدت من فاس يوم فاتح غشت من أجل فرض التنازل على السلطان مولاي حفيظ، وتعويضه بمولاي يوسف -مع أن الحقيقة هي أن مولاي حفيظ هو الذي رفض التعامل مع "ليوطي" لإفشال مخطط فرنسا في غزو المغرب باسمه؛ خاصة بعدما وصلت حركة الهبة إلى مراكش متوجهة نحو الشمال، وهو ما شرحه "ليوطي" بقوله في نفس الخطاب- لأشرح لكم الأمر نحن هنا في بلد محمي،ن حيث لا شيء يمكن أن يتم بدون تعاون، والحال أن التعاون يقتضي جهتين، ومنذ خمسة أيام لم تكن سوى جهة واحدة، فخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة -بعد التوقيع على معاهدة الحماية في 30 مارس 1912- كانت كل محاولة للمبادرة تصطدم برفض شامل يطول شرحه لكم هنا، واليوم لدينا في المغرب سلطانا جديدا مضمون التحاور والتعاون معه أكثر". مذكرات "ليوطي" ترجمة لحسن لعسيبي في الاتحاد الاشتراكي 2012 الحلقة 2. بيد أن السلطان الجديد لم يكن كما كان متوقعا مطواعا كفاية، مما عرقل كثيرا من القرارات، فتم إصدارها بالنيابة، ومن ذلك مثلا الواقعة التي أوردها "ديديير مدراس" في كتابه "Mettons en valeur l'Afrique du nord" والتي تتعلق بتسمية مدير للكوليج الإسلامي بالرباط الذي أنشأه "ليوطي" وقدمه للسلطان للمصادقة، إلا أن الأخير لم يفعل رغم تكرار المطالبة من الأول، وبعد أسابيع عدة قام بزيارة السلطان من أجل الاستفسار، فطلب منه السلطان اسم المدير المقترح للكوليج، ولما أخبره بما طلب أجابه بأنه يعرف أنه متدين ويتردد على الكنيسة مما يجعله عارفا بقيمة التدين، وفي ذلك ضمانة للحفاظ على دين التلاميذ. ص66. أما "ليوطي" فيقول بأنه لم ير تدينه عند اقتراحه، ولكن طلب كفاءة إدارته، إنها قضية قد تظهر بسيطة، ولكنها ذات دلالة تعزز الرأي القائل بأن السلطان مات مسموما بعد تكرار رفضه لمطالب الغزاة، ولم يشفع له أنه ساعد الفرنسيين في الحرب الأولى التي شهد بها الرئيس "هولاند"، كذلك الأمر بالنسبة للحرب الثانية مع السلطان محمد الخامس. نموذج للجحود الفرنسي بيد أن الجحود الفرنسي الذي تعددت أشكاله سواء مع المواطنين أو مع السلاطين، كان يقتضي من الرئيس الفرنسي وهو ضيف على رئيس دولة عريقة كانت الوحيدة في العالم باعتراف الرئيس نفسه التي اعترفت بالمقاومة الفرنسية، وحمت جنودها الذين كانوا على أرضها ليكونوا قوة تحرير لفرنسا المستعمرة، إلا أن الحكومة الفرنسية تنكرت للسلطان الذي لقب برفيق التحرير وعزلته عن عرشه من غير أن تراعي ما أسداه لها من تضحية، وكيف تفعل ذلك وهي تخلت عن دعم السلطان عبد العزيز بعدما كبلته بالاتفاقيات والقروض الوهمية، وغزت بلاده لتثير عليه حفيظة الرأي العام، ولما عزل قامت بنفس العمل مع خلفه لأن مصالحها لا تعرف الأخلاق، لقد كان بإمكان الرئيس الفرنسي الاشتراكي أن يضرب المثل برموز فرنسية لها مصداقية لمواقفها النبيلة، وعلى رأسها السياسي القدير، والبرلماني الشهير "جان جوريس" الذي دافع عن المغرب في وجه الأطماع الإمبريالية والاستعمارية، ورفض أن ترسل الجمعية العامة الفرنسية تنويها إلى جنود البارجة التي دمرت الدارالبيضاء 1907م، وجنود "درود" الذين خربوا المدينة وأحرقوها، بخلاف "ليوطي" الذي قال في خطاب له بأن المغرب سار تحت راية حمايتنا التي انغرست بغير رجعة (لعسيبي)، وأن "دماء المعمرين التي سالت في غزو المغرب تعتبر سمادا لترسيخ وجودنا في هذا المغرب التليد". ترى ماذا يقول المصفقون عن دماء المغاربة؟ من المؤكد وأنت في قاعة القصر بالدارالبيضاء، أو البرلمان، لفت انتباهك الزخارف، سواء في الجدران، أو السقوف، حجرا كانت أو خشبا أو جبسا، ولست أدري إن كنت تساءلت عن مبدعيها؟ وهل هم نتيجة الغزو، أم هي عراقة متأصلة في شعب قلت عنه وأنت صادق: مزيج متجانس من أعراق مختلفة امتزج على أرض المغرب بفضل إكسير الدين الإسلامي الذي كفل للجميع الكرامة والعدل الذي هو مطلب كل كائن حي، والذي عملت فرنسا بعد غزوها له على تمزيق نسيجه فأخفقت. وجاء الرئيس الفرنسي اليوم ليقول لنا لننسى الماضي، ويقصدنا نحن؛ أما هو فيقول بأن فرنسا تعلم العربية مند القرن السادس، ولم يضف لماذا؟ وفرنسا تعلم الأمازيغية أيضا، وقد تعلم الحسانية، لكن لن يقول لماذا؟ أما نحن فيجب أن نعلم الفرنسية، لأن الذي يتكلم فرنسيا يستهلك فرنسيا كما قال "ديغول"، ولا يهم ما نريد نحن ولا مصالحنا من وراء تدريس لغة المستعمر. يقول "ليوطي" في خطابه السابق (14 يوليو 1912م) "لقد نجحنا في توحيد شمال إفريقيا الفرنسية وهو الحلم الذي سكنَنَا منذ زمن بعيد، والذي سعى لتحقيقه رجال دولة صناديد سيظلون فخر الجمهورية الثالثة. فبفضل الحملة الناجحة التي قادها الجنرال "هنري"، الذي ألحق بشكل نهائي كل نهر أم الربيع بنا، مما طوع الهضبة البربرية الصعبة، وسمح بأن يمتد خط احتلالنا مباشرة من أكادير حتى تازة. فبعد المرحلة الطويلة من المقاومة؛ ومن الرفض الذي كان علينا منذ نزولنا على الشاطئ -يقصد الدارالبيضاء 1907- أن نمشي خطوة خطوة أمام بلاد مجهولة لنا، ومقاومة لوجودنا بشكل موحد، وكنا ملزمين باستعمال سريع لأسلحتنا، لأننا نواجه يوميا أحداثا تتوالد، ونستطيع اليوم الاعتزاز بأننا سادة الموقف، والجزم بأننا بلغنا أهدافنا في التوقيت الذي حددناه لأنفسنا، ونحن على يقين من أننا قريبا سنتمكن من احتلال كل هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف". (لعسيبي مصدر سابق). ذلك هو "ليوطي" محب المغرب الذي أوصى بدفنه في ترابه والذي اعتقد أنه أعاد فيه مجد الدولة الرومانية، وهو الذي أصدر أولى القوانين للحفاظ على المآثر الرومانية، لتكون حافزا لإعادة جعل المغرب سلة غذاء الإمبراطورية الفرنسية بعد ألف وثلاثمائة سنة. العظماء الذين أغفلهم الرئيس الفرنسي فرق كبير وكبير جدا بين "جان جوريس" الذي قال في الجمعية الفرنسية أن مولاي حفيظ يشبه رئيس الجمهورية، لأن الشعب هو الذي نصبه من أجل الحفاظ على استقلاله، ويجب سحب الجيش الفرنسي من الشاوية وبني يزناسن حالا، وبين "ليوطي" الذي قال يجب أن يكون السلاح تحت معطف الطبيب والمعالج للأهالي، أو الاشتراكي "ميطران" الذي قدم استقالته من الحكومة احتجاجا على نفي محمد الخامس، مُصدرا بيانا (من أجل فرنسا والمغرب) وقعه معه "البير كامي" و"جان بول سارت" و"لوي فالون" و"آلان سفاري" وهم الذين لو ذكروا لاستحقوا التصفيق من النواب الذين استخدموا أياديهم في غير ما انتخبوا من أجله، ولكن ماذا نقول للذين لا يهمهم التاريخ ولا الجغرافية؛ ولا يعرفون قدر دماء أحرار البلد الذي يتشرفون بتمثيلهم وإن لم ينتدبوهم لذلك. يحق للرئيس الفرنسي أن يقفز على التاريخ وهو يرى أمامه أناسا لا يختلفون عما يراه في بلده، فاعتقد أن الجميع فرنسي، بيد أنه وهو المدافع عن النسوانية، لم يلحظ أن المغربيات أمامه شامخات مبرزات في أزيائهن، ومنهن سيدة وزيرة هي فخر للأمة رجالا ونساء، فكان حريا به أن يوجه لهن التحية وهو في دارهن، يتملى بجمال ما أنتجه أبناؤهن وبناتهن من فنون وزخارف وقيم ومواقف وبطولات سارت بذكراها الركبان، وإصرارهن على المحافظة على الطابع الهوياتي في اللباس البديع التنسيق، الساتر، والجميل، والذي جعل من قاعة الاستقبال بالقصر الملكي، تحفة وذكرى، وجعل بين البرلمان وشاغليه هوَّة لولا السيدات البرلمانيات، والسيدة الوزيرة، لظن الرائي أنه خارج المغرب. وحتى الوزراء الملتحون أوشكت لحاهم على الزوال للملاءمة كما يقال، وصارت ربطة العنق التي كانت عند الرومان عبارة عن حبل إدانة، صارت عند أصحاب المرجعية الإسلامية من الوزراء والنواب عوض الطربوش والطاقية والرزة وقب الجلابة، دليلا على الاستوزار، وقس على ذلك النواب الذين يتجلببون في الانتخابات و"يتكرفطون" في المناسبات. نساء المغرب مفخرة الأمة وأخيرا من حق الرئيس الفرنسي الافتخار بتاريخ رجالات بلاده، ومن حق الناس الإعجاب معه بذلك ومساندته، ولكن ليس من حقه أن يُصرِّف ذلك عندنا؛ ونحن الذين ما نزال نكتوي بغزوه الإعلامي والقيمي، ويطلب منا التعاون من أجل غزو الأسواق الإفريقية الواعدة، وهو خطاب مرَّ عليه مائة سنة قاد إلى الكثير من المآسي، وأفضل منه عندنا هو التعاون والتبادل والتكامل والتكافل، وهو ما تنادي به الحضارة المغربية الإسلامية، التي جعلت بلدنا يقف مع الحق ويهب للدفاع عن فرنسا مرتين، ويرفض التطاول على سيادته فيعيد للعرش من تنكرت له فرنسا، لأنها أرادته أن يقف ضد مطامح شعبه في الحرية والاستقلال، وهو الذي يتزيى بأزيائه الوطنية: من جلابيب، وسلاهيم، وقفاطين، وملحفات، ودراعيات، ومناطق، وخناجر، في أبهة لا تخطئها العين، ولا يشعر فيها بالدونية. فتحية للبرلمانيات المحترمات، والوزيرة الفاضلة، اللواتي أثبتن أن النساء عندنا هن صناع العادات، والمحافظات على مجد المغرب وتاريخه، وضمير الأمة وعنوان عزتها. * باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، وعضو الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وعضو رابطة علماء المغرب.