تعتبر حرب الرموز والدلالات أخطر على النفوس من حرب المدافع، لأن تدميرها أكبر وأثرها أعظم، ولست أدري كيف غاب ذلك على الذين يريدون تثبيت رموز الاحتلال والغزو والإبادة على أبواب فاس، في الذكرى المائوية للمذبحة التي نفذها الجنرال "موانيي" بالمدينة سنة 1912م غداة توقيع الحماية بعد الثورة التي قادها العسكر النظامي ضد الحَرَّابة الفرنسيين الذين ساموهم سوء العذاب -كما سنرى لاحقا-، ونعني بذلك برج إيفل وقوس النصر الذي يقال بأنه سيقام على أبواب فاس حيث كان جنود الجنرال "موانيي" قد نصبوا مدافعهم لضرب المدينة ومعالمها التاريخية، ولولا تدخل السفير الفرنسي وقناصل الدول الأجنبية لصارت مثلها مثل الدارالبيضاء (1907م) أثرا بعد عين. إن نصب ذلك البرج وإقامة ذلك القوس في تلك المدينة وفي ذلك المكان، ليعيد إلى الذاكرة ما فعلته الجيوش الفرنسية بالمغرب والمغاربة، ويذكرهم بالمذبحة المروعة التي فرضها الجنرال المذكور على المعتقلين؛ بعد تمكنه من احتلال المدينة ومطاردته للسكان والعساكر المتمردة، حيث أمر أن يقتل بعضهم بعضا ويدفن الآخر الأول.. وكان بالأحرى أن يقام لذلك شواهد تذكر المجرمين بإجرامهم وتضيف عزة للأجيال اللاحقة التي فرض عليها أن تجهل تلك الوقائع وغيرها، يقول شاهد عيان عن تلك المذبحة، وهو الفقيه الوزير محمد بن الحسن الحجوي: "يوم الأربعاء 17 أبريل 1912م ثار العسكر المغربي على ضباطه الفرنسيين، وتوجهت جماعة منه مسلحة إلى مولاي عبد الحفيظ لتشتكي منه سوء تصرف ضباطها الفرنسيين، ولما وصلوا إلى القصر صاحوا.. الشكوى على الله وعليك مولاي حفيظ، فأوقفوهم بباب بنيقة الوزير ليقيدوا شكواهم، فقيدها الكاتب الأول، وأطلّ عليهم السلطان مظهرا أسفه، وأجابهم الوزير اذهبوا واحترموا في حرم مولاي عبد الله، فضجوا وصاحوا: بل نذهب للقشلة ونقاتل، إنما أتينا لرفع ظلامتنا، وأنتم تأمروننا بالاحترام، وخرجوا مغتاظين.. ثم جاءت جماعة أخرى تطلب مشافهة السلطان، فقالوا لهم: تكلموا فإنه يسمعكم، فقالوا: إن الحَرّابة احتقرونا وأهانونا بكل ما أمكنهم من الضرب واللطم والبصاق في وجوهنا، وأنهم عند الاحتلال (1911م) طلبوا منا الخدمة على شروط من جملتها؛ أننا عسكر السلطان، واليوم نقضوا تلك الشروط، قائلين: إن مولاي حفيظ ذاهب لحاله، فكونوا معنا، ومن أراد الشكاية فليذهب للكومندار والجنرال، ونحن لا نقبل الخدمة إلا مع السلطان، ثم إن بعضهم ناداهم بأن الفرنسيين جعلوا الوردية بباب مكناس، فتوجهت الجموع إلى هناك، وانتشر الباقي في المدينة، فظن الناس أن السلطان أعلن الحرب على الفرنسيس فابتهجوا وصارت النساء تزغردن، وبدأ تبادل إطلاق النار مع الجنود الفرنسيين المتواجدين في الثكنة وفي المراكز التابعة للسفارة حوالي 300 جندي، وبعدما جاءت التعزيزات من مكناس حوالي 1000 جندي، نصبوا المدافع على ظهر المهراز، وضربوا باب الفتوح ومقام مولاي علي بوغالب، وجبهة الطالعة، وهدموا صومعة المدرسة العنانية، وليلة الجمعة ذهب بعض الأعيان عند السفير الفرنسي معتذرين له، فأجابهم: بأنهم يلامون على ولولة العيال بالسطوح، وقائلا لهم: من كانت له قدرة على خلع سلطان ونصب آخر، فكيف لا يقدر على ردّ هذه الحركة؟ وبعد وصول الجنرال "موانيي" أمر يوم الإثنين بإقامة محاكمة قتل فيها 32 فردا، ويوم الثلاثاء 326 آخرين، وصورة التهمة أن يقبض على أحد، ويقال: هذا متهم فلا بحث ولا دليل ولا ولا..، فيؤمر بحفر حفرة ويرمي رفيقه بضربه بالرصاص فيها ثم دفنه، ثم يحفر حفرة أخرى لنفسه، فيقتله الذي يليه على نفس الشاكلة، وهكذا، حتى أتى على آخرهم، وقتل بعض آخر بدار الدبيبغ لا ندري عددهم. ويوم الأربعاء قتل 13 فردا بباب عجيسة، ويوم الخميس قتل 13 آخرون، وتم نهب الدور والحوانيت، وأعلنت الأحكام العرفية، وفرضت غرامة على أهل فاس متفاوتة حسب الأحياء، وأمر الخطباء بأن لا يتعرضوا بالدعاء للسلطان، ولا على أعداء الدين، وفي يوم الجمعة 7 جمادى الثانية، دخل ليوطي فاس كحاكم عام للمغرب في موكب حافل، وأغلقت الأسواق، وأمر الجميع بالخروج للقائه، وزراء وأعيان وعلماء، ولقي الجميع إهانات كثيرة من العسكر لتوسيع الطريق، وعطلت صلاة الجمعة نكاية بالناس، ولم يدخل ليوطي إلا في الساعة الخامسة مساء حيث تركهم ينتظرونه طيلة النهار. (انظر كتابنا "مسائل ورسائل للعلامة محمد بن الحسن الحجوي ص72 وما بعدها). ألا يحق لنا أن نتساءل عن دلالة إقامة هذين النصبين في زمن لم يعد خافيا على أحد أين يوجدان، ومن يريد زيارتهما، ولأي غرض؟ كما نتساءل عن قيمة ما يعرف من تاريخ البلد لدى بعض من يدير شأنه، بعدما عزت الكبرياء وقلت الأنفة في زمن أصبح التسابق فيه إلى التفكير بالجيب أو المعدة أو الشهوات والأهواء، ناسين أو متجاهلين أن المغرب إذا كان قد استعصى على الغرباء الذين أرادوه لقمة سائغة على مر التاريخ مستعينين بالحشود والقوات والحيل، فإنه أكثر عصيانا على الذين ينسون أنهم مغاربة!!