يقول الجنرال "ليوطي": "وصلت فاس يوم 24 ماي 1912م وحوصرت فيها مباشرة بعد وصولي، فشرعت فورا في رفع الحصار عنها، وابتدأت بسرعة في تحرير أطرافها، بتكليف "غورو" بذلك، الذي دخل فاس صبيحة يوم 14 يوليوز، ولقد استعرضت جنوده عند أبواب المدينة، واجتمعت بعد الزوال بكل الضباط والموظفين ومواطني فرنسا، والسلطات المغربية المحلية من أجل إحياء أول عيد وطني لفرنسا بالمغرب تحت الاحتلال، وقلت لهم: اليوم يجتمع أهلنا هنا في عاصمة المغرب تحت راية حمايتنا الفتية التي انغرست بغير رجعة، لكن بأي ثمن؟ وبأي جهد؟ وبأية مقاومة؟ وبأية تضحيات؟ أنتم هنا أعرف بها مني..". وقال أيضا: "عدت من فاس يوم 1 غشت لأجل فرض التنازل على السلطان مولاي حفيظ وتعويضه بمولاي يوسف.. نحن هنا في بلد محمي حيث لا شيء يمكن أن يتم بدون تعاون، والحال أن التعاون يقتضي جهتين، كنا نعم؛ جهتين، لكن غير متعاونتين، إن ما حدث خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، حيث كل محاولة للمبادرة تصطدم برفض شامل، واليوم لدينا سلطان جديد، مولاي يوسف، حقا ليس هينا تحمل المسؤولية في أوضاع متوترة مماثلة، لكن على الأقل فإن الإنصاف في التحاور والتعامل مضمون معه أكثر.." (مذكرات "ليوطي" ترجمة لحسن العسيبي الاتحاد الاشتراكي (ح2-3) 2012م). بعد 21 سنة من هذا الاحتفال باليوم الوطني الفرنسي على أبواب عاصمة المغرب السياسية والعلمية والتاريخية، فكرت الحركة الوطنية في المغرب بإقامة نظير له، يكون له نفس الدور الرمزي (للإستقلال)؛ الذي جاء "ليوطي" وقبله الجيوش الفرنسية للإطاحة بالسلطان وسلبه اختصاصاته، وغزو المغرب والاستيلاء على مقدراته. لقد وعت الحركة الوطنية الدرس السياسي والرمزي بما فعله "ليوطي"، فقدمت عدة مطالب بالإصلاح في الوقت الذي كانت فيه المقاومة المسلحة ما تزال على أشدها في مختلف أنحاء المغرب في الدفاع عن استقلاله ووحدة ترابه. ففي سنة 1920 قدمت المطالب المغربية الأولى إلى "ليوطي" وكان في طليعتها المطالبة (بحرية الصحافة وإصلاح التعليم)، هاته المطالب التي سينجم عنها ظهور عدد من الصحف والمجلات خاصة في تطوان وسلا، أذكر منها على الخصوص: مجلة المغرب بسلا، وجريدة الحرية بتطوان، كما نتج عنها بعد ذلك سقوط أول شهيد لحرية الصحافة سنة 1937م في سجن كلميمة وهو الشهيد الفقيه محمد القري، الذي لم تكن له بواك عند نقابة الصحفيين في المغرب طيلة السنوات الخمسين التي مرت. وفي 5 نونبر 1925م قدمت مطالب أخرى إلى المقيم "ستيغ" في طليعتها إصلاح التعليم وتعميمه، وتنظيم العدلية، ومنع تقسيم أراضي الجماعات.. وفي آخر نونبر 1930م قدمت مطالب أخرى مماثلة بلغت 13 مطلبا في طليعتها احترام نفوذ السلطان وإخضاع المغاربة جميعا إلى المحاكم الشرعية، وإيقاف حركة التنصير وإعمال العفو العام على المنفيين والمسجونين في القضية البربرية.. وفي 1934م قدمت مطالب شاملة للإصلاحات السياسية والحريات العامة المشهورة، وكان منها العلم المغربي والأعياد القومية (انظر جريدة الحياة عدد:40 بتاريخ:13-12-1934م). في هذا الإطار تبنت جريدة (عمل الشعب) الصادرة بتاريخ 20 أكتوبر 1933م المطالبة بتنظيم احتفال بذكرى جلوس السلطان على العرش -بتاريخ 18 نونبر 1927م-، يصبح موعدا رسميا يفعل فيه السلطان ما يفعل جميع رؤساء الدول في الأمم المتحضرة، وهو العفو على جميع المساجين الوطنيين، بدء بالشباب المعتقلين بأفكارهم السياسية.. وفي سنة 1934م صدر قرار بترسيم ذلك الاحتفال بشرط أن لا تكون فيه خطب ولا استعراضات ولا وفود (الجريدة الرسمية أكتوبر 1934م). وإذا كان الملك قد التزم بعدم إلقاء خطب العرش إلى سنة 1941م، فإن الحركة الوطنية لم تلتزم بذلك إذ جعلت المناسبة فرصة لبسط أرائها ومواقفها ومطالبها التي سبق التنويه إليها، معتبرة أن الحماية كما عرفها "ليوطي" في تقريره السري بتاريخ 3-12-1920م: "صيغة مراقبة معارضة لصيغة إدارة مباشرة"، كما "اعترف في تلك المذكرة أن السلطان لا سلطة حقيقية له، ولا يؤخذ له برأي وهو في عزلة عظيمة، محبوس في قصره، مبعد عن حركة الشؤون العامة" (ص16-17 سياسة الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى لمحمد المكي الناصري). إن رمزية الاحتفال باليوم الوطني في 18 نونبر لا يحيل فقط على يوم تنصيب الملك ولا على اليوم الذي أعلن فيه سنة 1955م بعد عودته من المنفى، حيث صرح في خطابه يوم 18 نونبر بمناسبة عيد العرش: "أن البلاد سترتقي إلى درجة الاستقلال الذي نشدناه، لأنه الوسيلة التي تمكن الشعب من التمتع بأطيب الثمرات التي أنتجتها الحضارة العصرية والتطورات العالمية من تحرير قومي وتعميم الحريات الديمقراطية واعتراف بحقوق الإنسان، طبقا للتصريح العالمي الشهير، وقضاء على كل ميز عنصري" (ص62 خطب جلالة الملك محمد الخامس) وهو ما تبلور في الدستور الجديد بعد 56 سنة، مما يجعلنا نتساءل عن ذلك؟ وكان جلالته قد أعلن يوم 17 نونبر عند استقباله المقيم العام الجديد، قائلا: نؤكد لكم أننا نريد أن نكون ملكا دستوريا لدولة عصرية ديمقراطية مستقلة (ص:60 المصدر السابق). فهل تحقق هذا المراد؟ وهل تم ما أرادته الحركة الوطنية من رقي للبلاد وتقدم للعباد، واستفادة واعتراف للذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل استقلال البلاد قبل 1912 وبعد 1953؟ ترى لماذا صار 18 نونبر يوم عطلة عادية لا تثير في النفس أثرا، ولا تترك لدى الأجيال خبرا، ولم تعد ذكراه يأبه بها، وكأن الدماء التي أريقت والمكابدات التي جعلت منه رمز الاستقلال، استقلال الماضي الذي كان قبل الاحتلال، الذي يقول عنه "ليوطي" في مذكراته السالفة: "لا تنسوا أنه حين تعيشون هنا في أمان وتبدعون في راحة، فلأن هناك حائطا آدميا يحميكم في البعيد، وأنه يتقدم يوميا لفتح المجال أمام حركتكم، وكل ذلك التقدم يتم بفاتورة غالية من الأرواح، والدم الفرنسي المراق.. إننا حين كنا في بداية الحماية، نحارب في مديونة برشيدسطات، كانت أسماء هذه المعارك مألوفة عند كل العاملين في الدارالبيضاء الذين كانوا يسمعون دوي القنابل وصوت الرصاص، لكن اليوم وذلك الحائط قد دفع إلى الأمام، فإن أسماء النواصر ودار القايد يطو وقصبة تادلة لا تظهر سوى كصورة مضببة بأصداء المعارك التي تدور هناك لا تصل سوى خافتة" (مصدر سابق)، (وإذا كانت سنابل الحاضر تحصدها عائلات ممن سقطوا كما قال "ليوطي" مخاطبا طلبة المدرسة العليا للعلوم السياسية بباريس في 11 دجنبر 1912م، فإن الذين حصدوا سنابل الاستقلال وما يزالون يحصدون؛ لا نقول بأنهم من عائلات من سقطوا في الدفاع عن الوطن كما قال "ليوطي"، بل إن الحاصدين لا يدرون بأولئك الزراع بدوا كانوا أم حضرا، أميين أم فقهاء، أشرافا أم عواما، بل هناك من يتطاول اليوم على الجميع منكرا عنهم ما فعلوا لدرجة ما عاد أحد يتحدث عن تلك السنوات الأولى من القرن الماضي، في وسائل إعلام صارت أداة أساسية من أدوات التواصل وربط الماضي بالحاضر، فلا أحد يتحدث عن الدروع البشرية التي قادتها الجيوش الغازية وهي تتمدد داخل المغرب، ولا عن الأراضي المصادرة والممتلكات والقتل والتدمير الذي كان حريا بالأحزاب السياسية والجمعيات النقابية التي استفادت كلا أو بعضا من الاستقلال والتي من أهدافها تأطير المواطنين، أن تحتفل بمثل هذه الذكرى، وتبرز فيها دور الرجال والنساء الذين قال عنهم "غورو" في رسالة شبه يائسة بتعبير "ليوطي": (إنها المقاومة دوما ولا شيء في الأفق، لا شيء يستقيم ولست أعلم كيف سنخرج من هذه الشرنقة) (المذكرات ح5 المصدر السابق). ترى ماذا نعرف عن البوعزاوي، وجهاد المذاكرة وبني مسكين واولاد حريز وبني يزناسن، وشرفاء تافيلالت، ومولاي أحمد السبعي، والشيخ ماء العينين وأولاده، والحاج العتابي الذي طالب باستقلال المغرب في المؤتمر المنعقد سنة 1913م بالآستانة، وشارك في مؤتمر ستوكهولم الذي أكد استقلال المغرب، والذي مات في القاهرة دون معرفة تاريخ وفاته بعدما تم إصدار حكم غيابي عليه في باريس بالإعدام ومصادرة أملاكه، وجعفر بن إدريس الكتاني صاحب الرسالة الشهيرة في وجوب قتال الفرنسيس سنة 1923م، وأين أموال قائد اولاد حريز الذي نفي إلى الجزائر؟ وجواهر السلطان مولاي عبد العزيز التي قدمها كضمانة للسلف الفرنسي؟ ولماذا صودرت أموال المولى عبد الحفيظ مع ما قيل من أنه متعاون مع الفرنسيين؟ وكم عدد الذي قطعت رؤوسهم عملا بمقتضيات الفصل 12 من مجلة القانون الجنائي الفرنسي، والمحكوم عليهم بالإعدام من طرف المحاكم الفرنسية في المغرب في 15 أبريل 1928م؟ (الجريدة الرسمية ع:8-10). وأين هي أملاك العصاة 14 ببني سعداء المحجوزة باعتبارهم ثوارا؟ (الجريدة الرسمية العدد:773). وأملاك 17 من زمور المصادرة؟ (ج - ر العدد: 787). وأمثال ذلك كثير؛ ناهيك عن الأراضي التي أفرغت من ساكنتها نتيجة تجميع السكان، واتخاذهم دروعا بشرية في غزو المغرب. وإذا كان البعض يريد الاقتصار في تناول تأريخه ما يناسبه من الشواهد التاريخية لغرض أو آخر، فإن ما لا يقبل هو تحريف الوقائع وطمس الحقائق الصارخة التي دونها الأعداء على ملحمة الاستقلال أو الدفاع عنه، التي صنعها مواطنون لم تكن لهم مراجع إيديولوجية أو أطماع شخصية إلا وجه الله والدار الآخرة، من أمثال ما ذهبنا إليه تفصيلا في كتابنا المنشور حديثا في سلسلة "غزو المغرب"، منوهين إلى التجاهل الذي قوبل به عمل منطقة الشمال، ومثلها البادية المغربية كلها، في الكفاح المسلح قبل 1936م، وما بعد 1953م بقيادة فقهاء وأميين رجالا ونساء، لدرجة أنه تم معاقبة سكان الدارالبيضاء على زغاريد نسائهم سنة 1907م وكذا زغاريد نساء فاس 1912م، وهو ما يعتبر دليلا بسيطا على مساهمة الجميع في الدفاع على استقلال البلاد وسيادته، التي ستضيع بعد الغزو الفرنسي. لذلك نقول بأن الاهتمام ب18 نونبر الذي هو ذكرى الاستقلال الذي كانت البلاد تنعم به قبل 1912م والذي أعيد بعد فرض عودة محمد الخامس سنة 1955م يعتبر من الواجبات على كل الفاعلين والمستفيدين من ثمراته، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، مسؤولين أو متنفذين، حتى لا يأتي يوم لا تجد فيه الناشئة رمزا موحدا لهم يذكرهم بأمجادهم ويدفعهم إلى الدفاع عن هويتهم وصيانة مقدراتهم. فالذين واجهوا القوات الغازية لم يتعلموا المواطنة على مقاعد المدارس ولم تدفع لهم رواتب أو امتيازات على ما قاموا به وقتها ولا بعدها، لذلك نطالب بإنصاف ذوي الشهداء الذين استشهدوا قبل 1936م بإعادة الممتلكات التي سلبت منهم، والاهتمام بذكراهم وتقدير جهودهم حق قدرها لدرء خطر اليأس والإحباط الذي عم النفوس بعد ما تحول العيد إلى عطلة مدفوعة الأجر للعاملين والموظفين دون الاهتمام بسبب ذلك على المستوى الحقوقي والواجباتي، والتطلعات التي نادى بها الملك محمد الخامس والتي كانت ترجمة للمطالب التي ناضل لأجلها رجال الحركة الوطنية وقاوم لتنفيذها وتطبيقها على الأرض سكان البادية الأشاوس الذين وجدوا أنسفهم بعد الاستقلال خارج الاهتمام معزولين مقصيين محكومين من طرف نافذين لا يراعون فيهم إلا ولا ذمة تطبق عليهم الواجبات ولا تعطى لهم حقوق.. قد يقال بأن هناك كتابات كثيرة حول الحركة الوطنية أو المقاومة السياسية أو المسلحة قام به أفراد أو المندوبية السامية للمقاومة سواء من خلال مجلتها أو الإصدارات القطاعية التي أنجزتها، والتي بقيت توزيعها محدودا أو لم توزع رغم الجهود التي بذلت في ذلك، مما يجعل وجودها ضئيل النفع، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن الجهة المستهدفة من ذلك، بحيث لو كانت الناشئة لكان من الواجب على الأقل أن تتوفر المدارس والمعاهد على نسخ من تلك الإصدارات في مكتباتها.. وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسات الصحافية والإعلامية حتى لا تسقط في الاجترار وإعادة ما سبق نشره وتداوله..