آن الأوان للاستجابة لطلب الزعيم الاشتراكي "جان جوريس" (ولد سنة 1859 واغتيل سنة 1914 لمعارضته الحرب) في تقديم التقارير الميدانية الحقيقية حول الحرب القذرة التي شنتها فرنسا على المغرب، ونتج عنها فظائع وإبادات، قام بفضحها في وقتها، وجعل مناهضة الغزو من أولويات اهتمامه، لأنها تتعلق بأرواح آلاف الأبرياء، الذين قتلوا وشردوا ونهبت أموالهم وخربت ديارهم دون أن يقترفوا جرما في حق فرنسا؛ سوى الرغبة في السيطرة على جنوب المتوسط التي تقتضي إفراغ أرض المغرب من ساكنته لفائدة الاستيطان الأوربي وإعادة نشر الحضارة الفرنسية الرومانية لاستعادة المجد الإمبراطوري الروماني عندما كانت شمال إفريقيا سلة غذائها، فاحتلال المغرب كما يقول الكونت "شارل دوفالوري" 1854م: (ليس فقط من أجل المستقبل (فرنسا) لكن من أجل المحافظة على وضعها بإفريقيا). فإظهار تلك الفظاعات يقتضي كذلك الكشف عن نص الحماية الموقع من طرف السلطان مولاي عبد الحفيظ والوزير "رونو" وكذلك البحث في مسألة موت السلطان مولاي يوسف، وهل مات كما يقال مسموما. إن على البرلمان المغربي والحكومة والمجتمع المدني العمل على معرفة عدد القتلى المدنيين على يد الجيوش الفرنسية ابتداء من معركة إيسلي وتطوان والمناطق الشرقيةوالجنوبية والشمالية؛ قبل الدارالبيضاءوسطات وقصبة تادلة. ثم قتلى المغرب في الحربين الكونيتين دفاعا عن استقلال فرنسا، وتقييم إسهام المغاربة في تحريرها مرتين دون أن يرجع ذلك على تمتيع بلادهم بالحرية والاستقلال أو الاستفادة من مخططات التنمية التي طالت البلدان المتضررة من الحرب كمخطط مارشال، فهل يعتبر ذلك شكلا من أشكال العنصرية والإبادة الجماعية. إن تقديمنا لمساهمة الزعيم الاشتراكي "جان جوريس" وفريقه (الاشتراكيون المتحدون) داخل الجمعية العمومية الفرنسية في مناهضة الحرب على المغرب يهدف إلى الاعتراف بالجميل لذلك الزعيم التاريخي داخل الجمعية السالفة الذكر على موقفه الشجاع النبيل الذي أبرزته محاضر الجمعية والمنشور على صحائف ذلك الزمان، والذي جمع في كتاب (ضد الحرب على المغرب)، والذي تابعه في موقفه ذلك أعلام من الشرق والغرب، نددوا بما عرفه المغاربة من اضطهاد وإبادة وغدر وعدم وفاء من قبيل ما وقع للسلطان مولاي يوسف الذي بذل جهدا كبيرا في دعم تحرير فرنسا بالرجال والمال ليسمع والحرب قائمة من يقول في معرض فاس سنة 1916 لليوطي من كبار المسؤولين: (أستطيع أن أفهم جيدا سيادتكم في الاحتفاظ التام بهذه الحكومة وهذه الأشياء البالية القديمة، ما دمنا منهمكين في الحرب، أعتبر هذا منكم مهارة عظمى، لكن من الواضح جدا عندي وعندك أن كل هذا سيُكنس في أيام السلم لتبدليه بإدارة مباشرة منقولة عن الإدارة الفرنسية نفسها، ليندرج المغرب شيئا فشيئا حتى يصبح مقاطعة فرنسية) (ص:162 سياسة الحماية لمحمد المكي الناصري). ويأتي غيره فيقول: (قبل الحرب -الأولى- لم يكن ممكنا التفكير في شيء آخر غير الحماية، وبعدها وجدنا أنفسنا مدفوعين إلى التفكير في هذه النقطة، وكان من غير شك أمرا صعبا خلع سلطان مركزه شرعي، (واليوم) إذا كان هناك خلاف لا يحل بين جلالة السلطان والحكومة الفرنسية فالنتيجة المنطقية هي خلع السلطان) (ص172 مرجع سابق). والخلاف المشار إليه كان بين السلطان مولاي يوسف وسلطات الحماية حول التدبير المباشر للسيادة؛ أدى إلى مقتل السلطان مولاي يوسف في ظروف غامضة، كما أدى من جهة أخرى إلى تعرض الملك محمد الخامس للنفي وتعويضه بآخر، بالرغم من أنه قد قلِّد وسام رفيق التحرير من طرف المقاومة الفرنسية في الحرب العالمية الثانية، مما يعتبر بحق نكرانا صارخا للجميل، أدانه كل محب للسلام. لقد وقف الزعيم "جوريس" يدافع عن المغرب ضد الحماية، أثناء مناقشة فرض عقد الحماية في الجمعية العامة طيلة شهر يونيو (14-21-28) سنة 1908م، وكانت جلسة الجمعة 28 حامية الوطيس، حيث طالب فيها بإلغاء تلك المعاهدة، معلقا على رفض الخارجية الفرنسية لمشروع معاهدة المغرب المقدمة من طرف المقري الواقعة في 27 فصلا، إلا أنه لم يعش ليرى فرنسا محتاجة إلى الرجال المغاربة ليدافعوا عنها في الحرب الأولى، رغم أنها حولت القوات التي كانت لديها بالمغرب والبالغ تعدادها 80 ألف رجل إلى الجبهة مضافا إليها الذين فرضت عليهم التجنيد من المغاربة، والذين اعتبرتهم رجال حرب لا يحتاجون إلى تدريب. إن التلغراف الفرنسي المرفوع بتاريخ 2 يناير 1915م إلى السلطان المغربي للإشادة بالعساكر المغربية المقاتلة على الجبهة الفرنسية؛ يقر بالجميل إلى أولئك المحاربين الشجعان كما تقول البرقية. لذلك فإن الزعيم الاشتراكي كان محقا عندما أدان بقوة الإنزال الفرنسي إلى الدارالبيضاء، ودكّ قنابل الأسطول للمدينة، معتبرا أن ذلك العمل الشنيع وصمة عار في تاريخ فرنسا، ولذلك اعترض في الجمعية العامة الفرنسية على رفع برقية (تهنئة للضباط والجنود) العاملين هناك؛ خاصة ضباط "جاليلي" الذين أرادوا قذف أزهار النصر قبل وصول الأسطول برمته إلى المياه المغربية، حيث سيدمر المدينة على رأس ساكنة تقدر ب30 ألف نسمة، مسجلين سخط المغاربة على فرنسا صديقتهم، في صفحة هي الأكثر حزنا في تاريخ فرنسا، صفحة تزداد سوءا عندما ترفض الحكومة رفضا باتا إعلان ونشر التقارير الرسمية التي توصلت بها في المسألة، مشيرا إلى أن عدد قتلى تادارت التي هاجمها الجنرال "درود" بلغت 800 قتيل كما جاء في البرقية التي وجهها إلى "كليمونصو" 04-08-1907م. وتتكرر المأساة في سطات التي زحف إليها الجنرال "دماد" في تجاوز لقرارات الحكومة والجمعية العامة، مما جعل قواته تسقط في كمين مغربي، جعلها تفر تحت مطاردة بنادق المغاربة المرابطين خلف الهضاب المحيطة بالمدينة، والذين لم يكن يتوقع وجودهم. لقد عاد "دماد" إلى سطات مرة أخرى فدكّها وأحرقها انتقاما لما وقع لجنوده، ثم توجه إلى موقعة أخرى يقول عنها "جان جوريس" في تدخله أمام الجمعية العامة: "أخشى أن يكون يوم 15 مارس يوما محزنا للإنسانية ولفرنسا، لماذا؟ لأن الجرائد أجمعت على أنه زحف على تجمع ملتف حول متصوف منعزل محافظ (بونوالة)، خرج من كوخه الذي أقامه منذ سنوات مبشرا الفارين من وجه الجنود الفرنسيين بأن كل من أحاط به فهو في منجاة من قنابلهم" (ص24 "ضد غزو المغرب" جان جوريس). ويضيف: "لم يكن تجمع مقاتلين؛ إذ ليس بينهم جند، وليس هناك ثكنة، بل دوار جمع أسرا حول شيخ؛ أطفال، نساء، شيوخ تحت الخيام، لا يوجد بينهم مهاجمون يمكن أن يتخوف منهم الفرنسيون من أن ينقضوا عليهم، بل قواتنا هي التي ذهبت تبحث عنهم على بعد 80 كيلومتر من الشاطئ، تطلب منها 8 ساعات من السير من دار ولد فاطمة إلى حيث التجمع قرب سطات، والدليل على أن التجمع ليس تجمع مقاتلين هو الخيام، وكما تعلمون فإن المغاربة خارج المدن التي تكون فيها المنازل محاطة بأسوار منيعة لا يستخدمون إلا الخيام، حيث يقطنها النساء والأطفال والشيوخ. وتقول الجرائد بأن هناك بعض الفرسان هبوا لمساعدة المحاصرين على الفرار دون الاشتراك في ردّ الزحف، بالرغم من أن المغاربة كما يشهد لهم شجعان في القتال والجرأة، بالإضافة إلى أنهم نبلاء بالقياس إلى قواتنا، فهم لم يقوموا بمحاولة الدفاع، لم يقاتلوا من المرتفعات المطلة على المنطقة التي كانت تمطرها المدفعية بالقنابل من كل جانب لمنع الفرار من الابتعاد عن مناطق القنبلة، وشلّ حركة الجميع تحت وابل غزير من القنابل ولتعزيز ذلك العمل استعملت الحراب في الهجوم على باقي الأحياء لقتلهم. وقد خسر الفرنسيون فقط صبايحي واحد. عضو من اليمين: تتأسف لأنه ليس هناك زيادة؟ "جوريس": أرجوك سيدي لا تراوغ ببؤس، إن مراسل جريدة le temps يقول: لا يمكننا الحديث عن معركة، ليست معركة، إنه سباق، وداخل المخيم كل شيء تم بالحراب. وزير الحرب: ليس كل شيء. "كليمونصو" رئيس الوزراء: لا تقل هذا السيد "جوريس"، أؤكد أن هذا غلط. مقرر الجلسة: تعرف سيد "جوريس" أنه ليس هناك جنود مثاليون وأكثر إنسانية من الجنود الفرنسيين. "جوريس": كيف سنتوصل إلى معرفة الحقيقة؟ وزير الحرب: سأطرح المسألة على الجنرال "دماد". رئيس الحكومة: الجنرال "دماد" أنقذ النساء والأطفال، وأمر بإيقاف إطلاق النار. "جوريس": ما تحدثتُ به هو ما أوردته كل وسائل الإعلام الفرنسية والدولية. رئيس الوزراء: نحن نكذبه. "جوريس": أطالب بتقديم كامل التوضيحات إلى البرلمان، أو إلى إحدى لجانه، وتقديم معطيات مضبوطة من طرف مراقبين لاستجلاء الحقيقة، وإيضاح ما إذا كان الجنود الفرنسيون كما وصفوا آنفا. إنها ليست مسؤولية الجنود، إنها مسؤولية من أعطاهم الأوامر (ص27 المصدر السابق). ويضيف "جوريس": لو طبقنا سلوك الرئيس في مسألة الصين (1900م) على ما وقع بالمغرب (1908م)، لما كان موقفه هو هذا الذي تحدث عنه، لقد تحدث وقتها عن القتل والإبادة والاغتصاب مصرحا بأن أوربا لن تصمت على تلك الإبادة، نفس الشيء وقع بالمغرب من قبل الجنرال "دماد" وهو ينفيه الآن. رئيس الوزراء: أنت تشتم الجنرال "دماد" الذي أنقذ الأطفال والنساء بإيقاف إطلاق النار. "جوريس": لقد كتبتَ في حينه: "دائما عندما يكون اللعب بالرؤوس، فإنها لا تقول للمنتشي بأي دم سكرت"، أقول لكم: بأن هناك مدينة مغربية قد أبيدت. رئيس الحكومة: أبدا. أحد النواب: على كل حال، يجب معرفة الحقيقة. "جوريس": بين يدي رسالة جندي موجود ببرشيد (جاء فيها): "لم أكن يوم 15 ضمن القوات الزاحفة على التجمعات المغربية، لكن الجنود الذين عادوا من هناك أخبرونا بأن النساء والأطفال والشيوخ قد أبيدوا جميعا". إنني أطلب بإجلاء الحقيقة، عما وقع يوم 15 مارس 1908م، وأصرح بأن شرف فرنسا يقتضي بأن يحقق فيما جرى، حتى يعرف من طرف الجميع (ص31 "جوريس") اه. إننا نقدم هذه الشهادة دون إغفال القوات التي أنشئت في سنة 1908 تحت اسم "مجموعة الكوم" والتي تكونت من المشاة والفرسان، حيث بلغت في سنة 1911 سبعة عشر فرقة، لتنتقل في الحرب العالمية الثانية إلى 158 فرقة نقلت جميعها إلى الجبهة الفرنسية، حيث لا يعرف عدد قتلاها، كما لا يعرف عدد قتلى المدنيين الذين سقطوا في مجموع التراب المغربي دفاعا عن حرية المغاربة واستقلالهم، مما يجعلنا نطالب بالبحث فيما جرى، خاصة مع وجود حكومة اشتراكية فرنسية حاكمة الآن. * باحث في علم الاجتماع الديني والثقافي، وعضو اتحاد كتاب المغرب، والجمعية المغربية لعلم الاجتماع..