إن استحضار عهد الحماية يحيلنا مباشرة على تاريخ 30 مارس 1912 كما يحيلنا أيضا على فترة المقاومة الطويلة التي خاضتها القبائل المغربية والتي طبعتها العديد من الاعتقالات والانتفاضات الشعبية، خصوصا تلك التي عاشتها فاس في 16 و17 و18 أبريل 1912 كرد فعل على الغزو الفرنسي للبلاد. وتشبه هذه الانتفاضة التي تعرف ب«الأيام الدموية في فاس» كثيرا تلك التي عرفتها مدريد في 2 ماي 1808 والتي جاءت كرد فعل على الجيوش الفرنسية التي أرسلها نابليون بونابرت إلى إسبانيا. في 1920 كان المقاومون والوطنيون الشباب كمحمد الفاسي يلقبونها ب«انتفاضة فاس». التركيز على 1912 غيب بشكل كبير المراحل التي عاشها المغرب قبل عهد الحماية، خصوصا تلك التي تلت إبرام اتفاقية التفاهم الودي بين بريطانيا العظمى وفرنسا في سنة 1904. وبالتالي تم تهميش بعض الأحداث الأساسية في تاريخ المغرب قبل سقوطه في يد الحماية الفرنسية نتيجة تزايد الضغوطات الخارجية والتنافس الكبير الذي كان محتدما بين فرنسا وألمانيا، والذي كان يتطور في الكثير من الأحيان إلى المواجهة المسلحة. ولهذا يتوجب علينا الوقوف قليلا عند محطة تاريخية مهمة، وهي شهر نونبر 1911 لأن الأحداث التي عرفها هذا الشهر لعبت دورا حاسما ومباشرا في إبرام معاهدة 30 مارس 1912. القبائل الثائرة نستحضر في هذا الصدد موجة السخط والتمرد التي عرفتها البلاد ابتداء من 1909 بسبب إعادة ارتكاب بعض الأخطاء وتسجيل بعض الاختلالات التي كان يعرفها العهد السابق. وكانت هذه القبائل الثائرة في مدينة فاس تطالب ابتداء من أبريل 1911 بتنصيب سلطان جديد، وهو مولاي زين العابدين أخ السلطان مولاي حفيظ، كما كانوا يطالبون بتشكيل حكومة ثورية مؤقتة وإرسال قوات فرنسية تحت إشراف الجنرال موانيي إلى الشاوية (التي تم احتلالها في 19071908 بعد تفجيرات الدارالبيضاء) للتحذير ضد «مجزرة الأوروبيين» الذين كانوا محاصرين أيضا بالعاصمة. ولنستحضر كذلك إرسال سفينة حربية ألمانية إلى ميناء أكادير كرد فعل على التدخل الفرنسي في فاس، والذي جاء كخرق سافر، حسب ما صرحت به برلين، لمقتضيات الاتفاقية الدولية للجزيرة الخضراء المتعلقة بسيادة السلطان واستقلال المناطق التي يحكمها. حيث كان الألمان يهددون بالاستحواذ على سوس ومناطق أخرى في جنوب المغرب إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الفرنسيين. عاش المغرب فترة قصيرة من الحماس والثقة في إصلاح الوضع الذي كان يهدد استقلال البلد وحريته، وتبين للمغاربة أن اعتراف السلطان باتفاقية الجزيرة الخضراء في مراكش 1907 وتحمل أعباء الديون التي تركها له خلفه مولاي عبد العزيز واللجوء إلى قروض أخرى ومتابعة «الإصلاحات» العسكرية تحت إشراف فرنسا لم يساعد إلا في تسريع وتسهيل سقوط المغرب تحت الوصاية الخارجية. أضف إلى هذا التقسيم الذي عرفه البلد بسبب مؤامرات كبار القياد في الجنوب والذين نسجوا مؤامرات عديدة ضد مولاي عبد العزيز منذ 1904 وكانوا وراء المطالبة بتعيين أخيه خليفة له في 1907. هذا الوضع ساهم بشكل مباشر في تسريع تآكل المخزن من الداخل وفي تفاقم الشلل الذي أصابه وبالتالي في انخفاض شعبيته يوما بعد يوم. في مثل هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تنشأ تحالفات وتتفجر ثورات وأن تتزايد محاولات تنحية السلطان مولاي حفيظ، ومن هنا جاء تطويق فاس في فبراير وأبريل 1911 واجتماع القبائل في أغوراي حيث طالبوا بتنصيب مولاي زين العابدين ليعطي للإمامة وللخليفة روحا جديدة. كما أن أحد أعيان القبائل يدعى عقا بويدماني والحاج محمد مكوار المفاوض الفاسي الذي كان ينشط في المعاملات التجارية مع بريطانيا كانا الركيزة الأساسية في الحكومة المناوئة المؤقتة التي تم تشكيلها آنذاك لتنحية السلطان مولاي الحفيظ . سريان التنفيذ وفي مواجهة كل هذه التطورات، وجد مولاي حفيظ نفسه في حالة دفاع عن النفس، لهذا حاول الاستعانة بمساعدة الحوز والشاوية، على اعتبار أن هذه المناطق كانت تسانده بشكل قوي في بداياته، وشكلت خلافاته مع كبار القياد في الجنوب، الذين أبعدهم من حكومته تحت ضغط القبائل، حجر عثرة أمامه خصوصا وأن الجنرال موانيي عرف جيدا كيف يستغل هذا الوضع لصالحه. وهكذا سارع السلطان المحاصر إلى تعبئة القوات ل«إنقاذ فاس». وبعد زحف متدرج لقواته في بني حسن في الغرب، استطاعت الوصول إلى العاصمة في 21 ماي 1911. وبعد كسر الحصار، ومطاردة رجال القبائل التي حاصرت المدينة الإدريسية، اتجهوا نحو صفرو وبعدها فاس، حيث استولوا على المدينة وأجبروا مولاي زين العابدين على التخلي عن مطالبه وحل حكومته. وقبل إبرام اتفاقية برلين في 4 نونبر 1911 ونهاية التوتر الذي خلقه «انقلاب أكادير» تم فتح محادثات في باريس بين الحكومة الفرنسية والصدر الأعظم، محمد مقري، الذي أرسله السلطان . وبعد توصله بنتيجة هذه المحادثات، قام مولاي حفيظ في 6 نونبر 1911 بإرسال رسالة إلى سيلڤ، الوزير الفرنسي المكلف بالشؤون الخارجية، عبر فيها عن رضاه عن «المقتضيات الجيدة التي اتخذتها الحكومة الفرنسية تجاه الحكومة الشريفة». مشيرا إلى أن هذه المشاعر الصادقة بمثابة حجر الزاوية لفرنسا ورجالاتها الذين سيتحملون مسؤولية تنظيم الحكومة المغربية، وسيساهمون في ازدهار الإمبراطورية الشريفة ورعاياها، وفي الحفاظ على هيبة السلالة الحاكمة مع احترام العادات ومبادئ الشريعة والحفاظ على مؤسسات الأوقاف. كانت هذه الرسالة بمثابة الحافز والركيزة التي سوف يعتمد عليها الفرنسيون لفرض شروطهم على السلطان وبالتالي دفعه للتوقيع على معاهدة 30 مارس 1912 رغم حصاره. أما على الساحة الدولية، فلم تكن اتفاقية برلين سوى مرحلة عابرة، إذ سرعان ما عادت العلاقات الدولية إلى التقهقر، وهكذا أدرك نشطاء التيارات المسالمة في أوروبا بمعية القادة الاشتراكيين كجون جوريس (الذي كان معارضا بشكل تام للاحتلال الفرنسي للمغرب) أن وضع حل للأزمة المغربية لن يضع حدا للتوتر الذي كانت تعرفه العلاقات الدولية. كما أنها لم تحد من التسابق نحو التسلح ومن إثارة الحمية الوطنية إلى أقصى حد دون الاكتراث بالصراعات المميتة التي كانت تعرفها جزيرة البلقان، وكانت صربيا، تحديدا، المكان الذي اشتغل فيه فتيل الحرب العالمية الأولى غداة مقتل الدوق النمساوي الفرنسي فرونسوا فرديناند. إعداد - محمد كنبيب