لا ريب في أنّ كثيرا ممّن يقرأون ما أكتُب يتساءلون عن علّةِ لُجوئي إلى أُسلوبٍ غير مُباشر ولَوْلبيّ مَبْنيٍّ في صورةِ جُمَل شديدة التركيب وبالغة الطُّول، مع الحرص على تشكيل بعض الحروف ووضع كلمات بين هلالين مُزدوجين ("" أو «») أو الجمع بين لفظين بخط مائل (/)، فضلا عن الإكثار من الأقواس واستعمال فواصل تُقطِّع الأقوال المُكوِّنة للجُمل. وإذَا كان بعضُ القُرّاء لا يرون في هذه الطريقة سوى تكلُّف ممجوج أو تعقيد لا ضرورة له، فإنّ آخرين يَميلون إلى اعتبارها دالّةً على نوع من «الخَواء الفكريّ» الذي يجعل صاحبَه يَتخفّى وراء شكليّات إملائيّة وترقيميّة، بل لا يَتورّع عن تعاطي "الإنشاء" تشقيقا لفظيّا أو تنميقا بلاغيّا (كأنّه بإمكان النّاطق في لسان ما، وبَلْهَ الكاتب، أن يَنْفكّ عن "الإنشاء" بما هو كذلك)! ويبدو أنّ شُيوعَ نمطٍ في الكتابة بالعربيّة يَتّسم ب"الاستعجال" و"الاستسهال" إلى حدّ الإهمال والإسفاف (مثلا: كثرة الأخطاء إملاءً وتصريفا وتركيبًا ودلالةً) يُعدّ السبب في جعل كثير من القُرّاء لا يكادون يُقْبلون إلّا على مكتوباتٍ تستجيب كفايةً لمألوفهم في استساغة "البَسائط"، ولا يَستحسنون إلّا ما يُدغدغ أهواءَهم ويُرضي آمالهم دون أدنى تخييب. والحقّ أنّ الكتابة لا تَستقيم إلّا بما هي عملٌ فنيٌّ يقوم على "الإنشاء" بناءً مُحكَمًا ونَظْما مُتقَنًا. وكونُ الكتابة عملا جادّا إلى هذا الحدّ يفرض أن يكون مَبدأَها في أمرٍ ك«حاولْ أن تُفكِّر معي حتّى إنْ استطعتَ أن تذهب إلى ما هو أبعد منّي، فمَرحى!»، وليس في أمر ك«خُذْ ما فكَّرتُ فيه فهو يُغْنيك عن التّفكير بنفسك!». ذلك بأنّ "العقل" ليس 0دِّعاءً توحُّديّا أو استئثارا تسلُّطيّا، بل هو اشتراكٌ في مُقتضيات "الاجتهاد" طلبا لبُلوغ الغاية في «كيفيّة العمل». ولذا، فعملُ "الكتابة" لا يكون تحريرا للقُدرة على "البناء" إلّا بقدر ما يكون تقييدا لخواطر "الفِكْر" وسوانح "الوِجدان" من خلال مُمْكنات اللُّغة تعبيرا وتَبْيينا. ولأنّ الكاتب لا يكون له من الإجادة إلّا بقدر ما يجتهد في بناء مكتوباته من خلال نَظْم عناصر الكلام وَفْق ما يسمح به نظامُ الخط الإملائيّ وعلامات الوقف المُتعارَفة، فإنّه لا سبيل إلى جعل الكتابة بالعربيّة أكثر إنتاجيّة من دون مُمارَستها ك«إنشاء فنيّ» يُوظِّف كل مُمكنات "الإملاء" و"التّرقيم" تماما كما أصبحتْ مُتاحةً حاليّا في الكتابة بواسطة الحاسُوب. فلا تكون الكتابة بالعربيّة شيئا ذا بال ما دامت تُؤتى كيفما اتّفق، وإنما تصير عملا مُنتجا وبَانيًا في المدى الذي تكون وسيلتها إجادة "الإنشاء" نَظْما وتنسيقا وتظلّ غايتها إقامة "القول" مُساءَلةً ومُحاجّةً. غير أنّ هناك مُشكلةً في الكتابة بالعربيّة تتعلّق، في آن واحد، ب«الخط العربيّ» (الذي اعتاد الناسُ أن يكتبوا به كمجرد نظام "أبجديّ" يكتفي ب"الصوامت" وحدها، وليس ك«نظام ألفبائيّ» يجمع بين "الصوامت" و"الصوائت" كلتيهما) وب«علامات الوقف» (التي شاع أن تُسمّى «علامات التّرْقيم»). وإنّك لترى أنني وضعتُ، منذ عنوان المقال وعلى امتداد الفقرات السابقة، عدّة ألفاظ وعبارات بين هلالين مُزدوجين: لأنّ كتابة عبارة «الخط العربيّ» مثلا على هذا النّحو أمرٌ يُراد به، أوّلا، إبرازُها (لا يزال مُتعذِّرا – بالخصوص في النّشر الإلكترونيّ- حفظ بعض الألفاظ والعبارات بخط غليظ بارز أو بكتابةٍ مُمالَة). ويأتي، ثانيا، للإشارة إلى نوع من التّحفُّظ يَهُمّ كيفيّة النظر إلى هذا الخطّ كما لو كان لا يسمح بكتابة "الصوائت" (طبعا هناك تحفُّظُ آخر يَخُصّ الذين يَدّعون أنّه ليس هناك إطلاقا «خط عربيّ»، وإنما هو «الخط الآراميّ» نفسُه أخذه "العرب" ونَسَبُوه إلى أنفسهم! وفي انتظار مقال بهذا الخصوص يكشف تضليل المُتحاملين، يُمكنني تأكيدُ أمرين: أوّلُهما أنّ «الخط العربيّ» لا يُضيرُه في شيء أن يكون مأخوذا عن «الخط الآراميّ» الذي هو نفسُه مأخوذٌ عن «الخط الفنيقيّ» الذي يُعدّ، باعتراف الغربيِّين أنفسهم، أصلَ كل من «الخط اليُونانيّ» و«الخط اللاتينيّ» ؛ مِمّا يَدُلّ - من ثَمّ- على أنّ "العرب" ليسوا أوّل من سَرق "الألف" و"البَيْت" من "الفنيقيّين"! وثانيهما أنّ "العرب" أَوْلى الناس بالأخذ عن جيرانهم «الآراميّين/السوريّين» - إنْ لم يكونُوا أشقّاءَهم الحقيقيِّين!- عن طريق جيرانهم الأقرب "النّبطيِّين"! وإلّا، فإنّ «الخط العربيّ» تُثْبِتُ أدنى مُقارَنةٍ بينه وبين «الخط الآراميّ» أنّه ليس مجرد نُسخة حَرْفيّةٍ منه كما يشتهي "المُبْطلون"!). وإنّك لترى، مرّةً ثانيةً، أنّني فتحتُ قوسين وكتبتُ بينهما فقرةً كاملةً! فقرة تشتمل على كثير من الألفاظ والعبارات التي وضعتُها بين مُزدوجتين، وبعضها وُضع بين عارضتين ؛ كما جمعتُ بين لفظ "آراميِّين" ولفظ "سُوريِّين" بخط مائل للتّقريب والربط بينهما، فضلا عن كثرة إيراد علامة «التأثُّر/التّعجُّب» (!). ووحده من كان أسيرا لعطالةِ الكسل أو من بَلغ به السُّخف مَبلغَه سيرى في كل ذلك مجردَ حشو بلا طائل أو تعبيرا عن حيلةِ «إسقاط الطائرة في الحديقة» لقول أشياء خارج سياق الموضوع! وأكثر من هذا، فإنّ من يُرسل الكلام على عواهنه – بفعل وُثوقيّة عمياء أو أُستاذيّة خرقاء- هو الذي لن يجد داعيًا يُكلِّفه لمُراجعة مكتوباته وإدخال ما يَكفي من التّنْقيحات والإشارات الكفيلة بتوضيح مَقاصده أو تقييد أقواله وأفكاره! وأكيدٌ أنّ مُشكلةَ «الخط العربيّ» قائمةٌ أساسا في أنّه خطٌّ يُراد له - حتّى من قِبَل بعض ذوي النِّيات الحسنة- أن يُكتَب ب"الصوامت" وحدها، في حين أنّه «نظامٌ ألفبائيّ» يَملك كل "العلامات" اللّازمة لتمثيل "الصوائت" وتمييز "الصوامت"، ممّا يجعل ما يُسمّى «علامات الشّكل» (وهي، في معظمها، «صوامت قصيرة») جُزءًا لا يَتجزّأ من «الألفباء العربيّ». وبالتالي، فإنّ كون "الصوائت" مُتميِّزةً عن "الصوامت" يجعل كتابتها بالشكل المعروف في «الخط العربيّ» أنسبَ لعين القارئ الذي لن يَستطيع، بعدئذٍ، تجاوُز «الصورة الخطيّة» في نُطْق وفهم المكتوب كما يَجب ؛ ممّا يُؤكِّد - لمن لا يزال في حاجةٍ إلى تأكيد- أنّ الكتابة بالعربيّة إذَا أَدخلتْ في إملائها «علامات الشّكل»، فإنّها تصير «نظاما ألفبائيّا» مُكتملا. ولا يخفى أنّ الذين يجهلون ذلك، والذين يَتجاهلونه عَمْدًا، إنّما يُريدون للكتابة بالعربيّة أن تبقى دون المستوى المطلوب، فتراهم – من شدّة جهلهم و/أو لسُوء نيّتهم- لا يفتأون يَزعُمون أنّ تلك "العلامات" ليست سوى "إضافات" تعمل على تشتيت انتباه القارئ وتُرهِقُ عينيه! والحالُ أنّ الحرص على تسهيل "المَقْرُوئيّة" يَفْرض على الكاتب في "العربيّة" أن يقوم بتشكيل كل لفظٍ قد يجد القارئُ بعض الصعوبة في نُطقه وفهمه. وأمّا «علامات الوقف»، فإنّ وضعَها مُفيدٌ جدّا في الكتابة إلى حدِّ أنّ إساءةَ التّصرُّف فيها معناهُ إساءة الفهم والتّأويل. والمُؤسف أنّ مُعظم الكُتّاب في "العربيّة" لا يُحسنون توقيف مكتوباتهم. ولعلّ خير دليل على هذا كونُهم لا يزالون يُصرُّون على استعمال «نُقطتين مُتتابعتين» [..] كُلّما عجزوا عن تبيُّن الصواب في وضع «علامات الوقف»! والثابت أنّ نظام «علامات الوقف» - كما وضعه "الغربيّون" الذين هُم أحرص الناس على تجويد "مقروئيّة" النُّصوص- لا يحتوي إطلاقا «نُقطتين مُتتابعتين»، بل إنّ كون "النُّقطة" دالّةً أصلا على وقفٍ طويل لتمام الكلام لأمرٌ يستدعي التّساؤُل عن معنى وضع علامةٍ تَدُلّ على «وقف مُضاعَف» (لا تكاد تخلو منه حتّى العناوين)! وحَسْبُ القارئ أن يتتبّع في مكتوب ما علامات الوقف فيُحاول البحث عن علّةٍ وجيهةٍ لوُرودها في مَواضعها (مثلا: كون "الفاصلة" [،] كثيرا ما تُوضع مُفردةً من قِبَل بعض الكُتّاب لقطع "الفعل" عن "مفعوله"! أو السهو عن إلصاق علامة الوقف مُباشرةً بعد الحرف الذي يَليها وإتباعُها غالبا بفراغ أو فُسحة كما هو مُتعارَف عالميّا!). ولن تَعْدَم، بَعدُ، أُناسا يَستخفُّون بتصحيح علامات الوقف فيرون أنّه اهتمام بأُمور شكليّة تافهة جاهلين أن كُبرى النُّصوص العالميّة كثيرا ما يُعاد تحقيقها وطبعُها فقط لتصحيح تصفيفها وتقطيعها بعلامات وقف مُناسبة! ولأنّ بسط الموضوع أكثر سيَقُود إلى إسهاب لا يسمح بها المَقام (يستطيع القارئ المُهتمّ الرجوع إلى مقال «ما أنتَ بقارئ، فكيف تَكتُب ما يُقرأ!»)، فإنّ الوُقوف عند فقرة بعينها قد يكون كافيًا. ولتكنْ هي آخر فقرة من مقالِي «في التأمين "المادي" للأمن "الروحي"» (لاحظ أنّ وضع كلمتي "الماديّ" و"الرُّوحيّ" بين هلالين مزدوجين يُطلَب به تقوية المُقابَلة بينهما و، من ثَمّ، إبراز مُفارقة أن «الأمن الرُّوحيّ» أوثق صلة بنوع من «التّأمين الماديّ»!): «وهكذا، فحيثُما لم يُمكَّنْ ماديّا وموضوعيّا لشُروط «الأمن الرُّوحيّ» على النّحو الذي يَضمن إمكان السعي الحُرّ نحو «الحياة الطيِّبة»، فإنّ الناس يَجدون أنفسهم حتما في مُواجهةِ أشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»، وهو ما يجعل حاضرَهم بلا معنى ويُفْقد مُستقبلَهم كل أُفق ؛ ممّا يَقُودهم إلى البحث لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماض تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمْن ولا أمل. ومن هُنا يأتي ذلك الهَوس ب"الهُويّة" منظورًا إليها كتطابُق مع "الأصل" و/أو كحفظ ل"الأصالة" المُعتبَرة مُتجذِّرة تاريخيّا في "أرض" يُظَنّ أنّها كانت ولا تزال (وستبقى) واحدةً وثابتةً أو المُتوهَّمة مُتضمَّنةً ثقافيّا في "تُراث" يَقبل دائما أن يُستحضَر مُباشرةً "جوهرُه" الأصيل والخالد!». والفقرة كلُّها، كما ترى، جُملتان هُما بمثابة خلاصة للمقال (بدايتهما صيغة «وهكذا» التي تُفيد الاستنتاج). فما السرّ في كتابتهما على ذلك النّحو؟ 1- الجملة الأولى: [وهكذا، فحيثُما لم يُمكَّن ماديّا وموضوعيّا لشُروط «الأمن الرُّوحيّ» على النحو الذي يَضمن إمكان السعي الحُرّ نحو «الحياة الطيِّبة»، فإنّ الناس يَجدون أنفسهم حتما في مُواجهةِ أشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»، وهو ما يجعل حاضرَهم بلا معنى ويُفْقد مُستقبلهم كل أُفق ؛ ممّا يَقُودهم إلى البحث لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماض تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمن ولا أمل.] ؛ 1.1- تتكوّن هذه الجملة من أربعة أقوال: أوّلُها يبتدئ ب«فحيثُما» وينتهي ب«الحياة الطيِّبة» ؛ وثانيها يبتدئ ب«فإنّ الناس» وينتهي ب«اللّاأصالة،» ؛ وثالثها يبتدئ ب«وهو ما يجعل» وينتهي عند «كل أُفق» ؛ ورابعها يبتدئ ب«ممّا يَقُودهم» وينتهي ب«ولا أمل» ؛ 2.1- يُمكن للقارئ أن يُلاحظ أنّ الأقوال المُكوِّنة للجملة مُركَّبةٌ ومُرتَّبة: قول أوّل عبارة عن شرطٍ رُتِّب ب«فَ» العطف وأداة «حيثُما» ([فحيثما لم يُمكَّن ماديّا وموضوعيّا لشُروط «الأمن الرُّوحيّ» على النّحو الذي يَضمن إمكان السعي الحُرّ نحو «الحياة الطيِّبة»،]، ومن قول ثان عبارة عن جواب الشرط [فإنّ الناس يَجدون أنفسهم حتما في مُواجهةِ أشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»،])، ومن قول ثالث يُرتِّب على الارتباط بين القضيتين السابقتين قضيةً ثالثةً ([وهو ما يجعل حاضرَهم بلا معنى ويُفْقد مُستقبلَهم كل أُفق])، ومن قول رابع عبارة عن نتيجة للرّبط بين الأقوال الثلاثة السابقة [ممّا يَقُودهم إلى البحث لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماضٍ تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمن ولا أمل.] ؛ 3.1- وبوُسع القارئ المُتسائل أن يَفحص مدى التّرابُط بين الأقوال الأربعة: فهل [عدم التّمكين الماديّ والموضوعيّ لشُروط «الأمن الرُّوحيّ» بالشكل الذي يَضمن إمكان السعي الحُرّ نحو «الحياة الطيِّبة»] يُمكن أن يُؤدِّي إلى [جعل الناس يَجدون أنفسهم في مُواجهةِ أشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»]؟ وإذَا صحّ هذا (أيْ عدم تحقُّق شُروط «الأمن الرُّوحيّ» يُؤدِّي إلى مُعاناةٍ تُعاش ذاتيّا كنوع من "اللّاأصالة")، ألَا يَترتّب عليه [أن يكون حاضرُ الناس بلا معنى وأن يَفْقد مُستقبلُهم كل أُفق]؟ وهل يَقُود ذلك كلُّه الناس [إلى البحث لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماض تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمن ولا أمل.]؟! 4.1- إذَا أدّى الفحص النقديّ إلى عدم صحّة الربط بين القضايا الأربع (قضية [التمكين المادي للأمن الروحي شرط في إمكان «السعي الحرّ» نحو «الحياة الطيّبة»] وقضية [مُواجَهة الناس لأشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»] وقضية [كون حاضر الناس بلا معنى وافتقاد مستقبلهم لأيّ أُفق] وقضية أنّ [الناس يبحثون لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماض تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمن ولا أمل.]) على ذلك النّحو، فإنّه ليس أمام النّاقد إلّا بيان العلّة المُحدِّدة لفساد ذلك الربط والانتقال - من ثَمّ- إلى نوع آخر من الربط الذي يُمكنه أن يُفسِّر العلاقة بين «الأمن الرُّوحيّ» و«الحياة الطيِّبة» و«الشُّعور باللّاأصالة» بما لم يُفسِّرها الربط المُعترَض عليه. وينبغي أن يكون واضحا أن لا شيء من هذا ممكن ما لم يُراجِع المرءُ مضمونَ المفاهيم الثلاثة ويُقارن بين الكيفيّة التي يُحدِّدها بها الخطاب الشائع (جعل «الأمن الرُّوحيّ» محصورا في الدِّفاع عمّا يُسمّى «عقيدة الشّعب»!) والكيفيّة التي عمل بها المقال على تحديدها (جعل «الأمن الرُّوحيّ» مُرتبطا بالقُدرة على التّمييز والاختيار بشأن «الحياة الطيِّبة» في شُمولها لكل ما يَحقّ ل"المُواطن" أن يراه صالحا له وجديرا به، سواء أكان اعتقادا أمْ سُلوكا أمْ تفضيلا). 2- الجملة الثانية: [ومن هُنا يأتي ذلك الهَوس ب"الهُويّة" منظورا إليها كتطابُق مع "الأصل" و/أو كحفظ ل"الأصالة" المُعتبَرة مُتجذِّرة تاريخيّا في "أرض" يُظَنّ أنّها كانت ولا تزال (وستبقى) واحدةً وثابتةً أو المُتوهَّمة مُتضمَّنةً ثقافيّا في "تُراث" يَقبل دائما أن يُستحضَر مُباشرةً "جوهرُه" الأصيل والخالد!».] ؛ 1.2- هذه الجملة الثانية معطوفة على السابقة ب«ومن هنا» بشكل يجعلها مَبْنيّةً عليها كنتيجة نهائيّة، وهي جملة مركبة يُظْهر التأمُّل أنها تتضمّن أربع قضايا مُترابطة: الأُولى أنّ [الهوس ب"الهُويّة" يُنظَر إليه إمّا كتطابُق مع "الأصل" وإمّا كحفظ ل"الأصالة" وإمّا كجمع بين التّطابُق مع "الأصل" وحفظ ل"الأصالة"] (ولهذا كَتبتُ «و/أو» للإشارة إلى هذه الاختيارات الثلاثة في النظر إلى "الهُويّة") والثانية أنّ ["الأصالة" تُعتبَر إمّا مُتجذّرةً في "الأرض" وإمّا تُتَوهّم مُتضمَّنةً ثقافيّا في "التّراث"] والثالثة أنّ ["التّراث" يقبل دائما أن يُستحضَر مُباشرةً "جوهرُه" الأصيل والخالد] والرابعة أنّ [الهوس بالهُويّة في أشكاله الثلاثة وخُصوصيّة تناوُله ل"الأصالة" و"التّراث" يأتي من عدم «التّمكين الماديّ» للأمن الروحيّ بالشكل المُبيَّن آنفا]؛ 2.2- كونُ عبارة [ومن هنا، يأتي ذلك الهَوس ب"الهُويّة" منظورا إليها كتطابُق مع "الأصل" و/أو كحفظ ل"الأصالة"] تُحيل إلى ثلاثة اختيارات في النّظر إلى "الهُويّة" يَمنع تماما من استبدال لفظ "السلفيّة" مكان لفظ "الهُويّة" كما ظنّ أحد القُرّاء من الذين يَشغلُهم وصمُ "السلفيّة" باعتبارها دينيّةً حصرا و، في المُقابل، تبجيل «الهوس القَوْمانيّ» بالهُويّة الأُحاديّة كما لو كان اختيارا عقلانيّا وتحرُّريّا! 3.2- إذَا كان الناقد يرى أنّ هذه الجملة الثانية (في تأكيدها لكون الهوس ب"الهُويّة" - بأشكاله المُتباينة- يَترتّب على عدم «التّمكين الماديّ» للأمن الروحيّ) لا تقول شيئا مُهمّا، فإنه مُلْزَمٌ ببيان السبب الذي يُفسِّر تلك الأشكال من النّظر إلى "الهُويّة" المُنتشرة بين أُناس يَفتقدون واقعيّا كل أو أهمّ الشروط المُتعلقة بإمكان «السعي الحرّ» نحو «الحياة الطيّبة» (أيْ قدرة كل مُواطن على التمييز والاختيار في مجال ما يُعرَض من اعتقادات وتفضيلات بالمجال العموميّ)؛ 4.2- إذَا كان رهانُ المقال يدور حول جعل التوسُّل الرسميّ (وشبه الرسميّ) بخطاب «الأمن الرُّوحيّ» تضليلا مفضوحا يُبْعِد عن مُواجَهة مُشكلات «التأمين الماديّ» لإمكانات «السعي الحُرّ» نحو «الحياة الطيِّبة»، فيبدو أنّ المُعترض لا تُحرِّكه فعليّا سوى إرادة فرض منظور مُعيَّن كما لو كان أساسَ أو جِماعَ «الحياة الطيِّبة» بالنّسبة لكل المُواطنين (مثلا: منظور مُعيَّن للهُويّة)! يُرجى، بناءً على كل ما سبق، أن يكون قد اتّضح أنّ عمل الكتابة – كما أجتهدُ شخصيّا في مُمارَسته- يَنْأى عن «خطاب اللَّغْوَى» الذي يَأتيه كثير من الكَتَبة بين ظَهْرانَيْنا والذي لا يَتمثّل في أكثر من الاستسلام لإكراهات "الاستعجال" ومُجاراة إغراءات "الاستسهال" بالشكل الذي يُنْتج سُيولا من الأقوال المُرسَلة والأحكام المُسيَّبة التي لا يَستسيغها إلّا من رضي لنفسه أن يقف عند بسائط الفكر وعواهن الكلام. أجَلْ، إنّ من حقّ أيِّ امرئ أن يَكتُب كيفما يشاء تعبيرا عن حريّته في التّفكير والتّعبير. ولكنْ، في الواقع، لا تستطيع أيّ طريقة في الكتابة أن تفرض نفسها بصفتها "المُثْلى" أو "الفُضلى" إلّا إذَا امتحنتها أجيالُ المُتلقِّين بحثا مُتبصّرا ونقدا مُتبيِّنا. وبِما أنّ الأمر في كل "مشروعيّة" رهينٌ دائما بتنازُع موضوعيّ وضروريّ بين مُختلِف الطامِعين والمُتغلِّبين، فإنّ العمل الكتابيّ الذي يكتفي صاحبُه بالاستجابة لانتظاراتِ جُمهورٍ نُشِّئ غُفْلا وعُوِّدَ سهلا ليس أمامه من مِحكّ إلّا أن يُواجِه عوائد الزمن ومآلات المُغالَبة. أمّا من كان يَأبى إلّا أن يَجتهد وُسعَه في طلب "الصواب" إحسانا في العمل ومُعامَلةً بالحُسنى، فلن يَثْنيه عن سعيه سهمُ قادحٍ أو يُعْثِره ثناءُ مادحٍ ما دام الذي يَحدُوه ليس سوى مثال أنّ الإحسان لا جزاء له إلّا الإحسان. وفي هذا، فليتنافسِ المُتنافسون!