فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بأيِّ معنى يُعَدّ "القُرآن" مُعجزًا؟
نشر في هسبريس يوم 01 - 01 - 2013

«وإذَا قِيل لهم: "ماذا أَنزل ربُّكم؟"، قالُوا: "أساطير الأوّلين!"» (النحل: 24)
«قُل: لئنِ 0جتمعت الإنسُ والجنُّ على أن يَأتوا بمثل هذا القُرآن، لا يَأتون بمثله ؛ ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرا!» (الإسراء: 88)
«اِعلمْ أنّ البَلاء والدّاء العَياء أنْ ليس علمُ الفصاحة وتمييزُ الكلام من بعضٍ بالذي تستطيع أن تُفهمه من شئتَ ومتى شئتَ، وأنْ لست تملك من أمرك شيئا حتّى تَظْفَر بمن له طَبْعٌ إذا قَدَحته وَرِيَ، وقلبٌ إذَا أَرَيْته رأى. فأمّا وصاحبُك من لا يَرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تَهديه، فأنتَ معه كالنّافخ في الفحم من غير نار، وكالمُلتمس الشمّ مِنْ أَخْشم! وكما لا تُقيم الشِّعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا يَفهم هذا الباب من لم يُؤْتَ الآلة التي بها يَفهم ؛ إلّا أنّه إنّما يكون البَلاء إذَا ظنّ العادِمُ لها أنّه قد أُوتيها، وأنّه مِمّن يَكمُل للحُكم ويَصحّ منه القضاء، فجَعل يَخبط ويَخلط، ويقول القول لو عَلِم غِبّه لٱستحيى منه. وأمّا الذي يُحس بالنّقص في نفسه، ويَعلم أنّه قد عَدِم عِلْما قد أُوتيه مَنْ سِوَاه، فأنتَ منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حَماه عقلُه أن يَعْدُو طورَه، وأن يَتكلّف ما ليس له بأهل.» (عبد القاهر الجرجاني)[1]
1- مدخل
"القُرآنُ" كتابٌ قائمٌ بين أيدي الناس منذ أربعة عشر قرنا. إنّه، بكل تأكيد، ليس أوّلَ كتابٍ يُوضَعُ تحت أنظارهم، لكنّه يقينًا آخرُ كتابٍ يَحمل رسالةَ الله إلى من شاء من الناس. وكل من أبى أن يَسمع ويَذّكَّر، فما عليه إلا أن يَستجيب للتحدّي فيَأتي بكتابٍ يُضاهيه حكمةً وهُدى أو يَفضُله بيانًا وعلمًا، كتابٍ كَفيلٍ بأن يَلْفِت الناس عنه ويُزهِّدهم فيه. وليس أمام أحدٍ من مُكذِّبي "القُرآن" سبيلٌ آخر إلّا أن يُخْبِتَ مُؤْمنًا أو يَذهب مُعاجِزًا إلى أن يُقِرّ بعجزه أو يَهْلَِك عن بيِّنةٍ.
إنّ "القُرآن"، في نظر المُؤمن، كلامُ الله تعالى الذي أَنزله وحيًا على خاتم الأنبياء والرُّسل محمد صلّى الله عليه وسلم. ولأنّ اللّه - في ذاته وصفاته وأفعاله- «ليس كمِثْله شيءٌ»، فكلامُه المُدوَّن نصًّا بين دَفّتَيِ المُصحف يَعلُو ولا يُعلى عليه، إنّه «الأمر الإلاهيّ» الذي لا يَأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهو وحيُ ربِّ العالَمين المُعْجِز، ليس نظمُه بالشِّعر، ولا فكرُه بالنّثر، وبيانُه أبعدُ عن السِّحْر. إنّه بيِّناتٌ من «الذِّكْر الحكيم»، فُصِّلتْ آياتٍ لقوم يَعقلون.
لكنّ الجاحدَ لا يرى في "القُرآن" شيئا من ذلك، ليس لأنّ قُدرتَه على التمييز تَفُوق قدرةَ غيره، بل لأنّه لا يَقْدِر أن يُصدِّق ما شأنُه أن يَقْلِب كيانَه ويُبدِّل أحوالَه. فتراه، من جرّاء وُقوفه على عجزه، لا يكاد يجد طريقا لإرضاء نفسه سوى مُتابَعةِ هَواه بما يَجعله يَأبى أن ينزل عن كبريائه ليَعترف بما ليس في مُكْنةِ بَشرٍ أن يَأتيَ به.
ولأنّ الأمر يَهُمّ "الاستدلال" على حقيقةِ الإعجاز في "القُرآن"، فلا بُدّ من تقريرِ مُسلَّمةٍ أساسيّةٍ مُفادُها: ليس لأحدٍ من الناس أن يَتكلّمَ على شيء لا أهليّةَ له للحُكم عليه 0ستحسانا أو 0ستقباحا. وبِما أنّ "القُرآن" يَتحدّدُ بصفته نصا بيانيّا، فإنّ كل من لم يُعْطِ بُرهانا كافيًا يُثْبِتُ به أنّه قد بَلغ الغاية في تبيُّن أسرار الكلام البليغ وإجادة النَّظْم المُبين، لا ثقة بما يُلْقيه من كلام ولا مُعوَّلَ على ما يَزعُمه من رأي. والمُتأمِّلُ في حالِ من 0بْتُلوا بالتّقوُّل في "القُرآن" يجد أنّهم أبعدُ الناس عن مُقتضيات الفصاحة وأعجزُ النّاطقين عن الوفاء بشُروط البيان، بل إنّك لتُلْفي في كلامهم من العُيوب ما لا يَخفى إلا على من كان أجهلَ منهم أو أعجز عن مُساواتهم.
ومِمّا يَدُلّ على أنّ الذين يُنْكرون - بين ظَهْرانَيْنا- إعجازَ "القُرآن" لا يَتبيَّنُون كفايةً في مَسعاهم كونُهم يَغفُلون عن أمرين عظيمَيْن: أوّلُهما أنّ من أمكنه إنكارُ وجود الله - بصفته الفَعّال الذي لا يُعجزه شيءٌ- ليس في حاجةٍ إلى إنكارِ شيء من فعله الذي يُعَدّ عند المُؤمن مُعجزا بما هو كذلك ؛ وثانيهما أنّ الذين تُحُدُّوا بالقُرآن لو لم يَفتضح أمرُهم بثُبوت عجزهم، لَمَا وجدوا أنفسَهم يَتركُون الردّ على كلامه بكلام يُساويه أو يَفضُله ويَتّجهون كَرْهًا إلى المُناجزَة بالسيف فينتهي بهم الأمر إلى الانهزام حتّى في الحرب. ولهذا، فإنّ "المُبْطلين" لا يَتقوّلُون في إعجاز "القُرآن" إلا لعجزهم المُضاعَف: عجزهم عن البرهنة على عدم «وُجود الله»، وعجزهم عن مُواجَهة التّحدِّي بالإتيان بما يَفُوق "القُرآن" بيانًا وهُدًى ؛ فتراهم يُريدون، بالتالي، أن يُثْبتوا أنّ كونَ "القُرآن" لا إعجاز فيه يُفيد في تأكيد أنّه ليس ثمّةَ إلاهٌ لأنّه لو كان كلامَ الله، لكان - حسب زعمهم- كلامًا بَيِّن الإعجاز بما لا يُحْوج إلى كثيرِ كلامٍ!
وعُموما، فإنّ 0عتراضات "الجاحدين" و"المُبْطلين" يُمكنُ ردُّها إلى أربعةٍ أساسيّةٍ: 0عتراض لُغويّ يَنْصبُّ على فحص «لُغةِ القُرآن» إمّا في علاقتها بلُغات العرب وإمّا بربطها بلُغاتٍ قريبةٍ منها مَجاليّا أو مُشابهة لها بنيويّا ؛ و0عتراض تاريخيّ يُركِّز على سَلاسل التّدوين والتّوثيق بحثًا عن تحديدِ سياق "التكوُّن" والشروط الاجتماعيّة والثقافيّة المُحدِّدة لإنتاج نص "القُرآن" ؛ و0عتراض دَلاليّ-أُسلوبيّ يَتوجّه إلى 0ستجلاء آليّاتِ بناء المعنى والصُّوَر البيانيّة بالمُقارَنة مع أهمّ أشكال التّعبير الأدبيّ السابقة أو المُعاصرة لظُهور "القُرآن" ؛ و0عتراض علميّ يَطلُب الكشف عن حقيقة الحُمُولة "الإشاريّة" في الخطاب القُرآنيّ ومدى قابليّتها لمُقتضيات "التّكْذيب" المُعتمَدة من قِبَل العُلوم (صدق أو كذب ما يُقال من وُجود "إشارات" أو "تلميحات" علميّة في آيات "القُرآن"). وهذه الاعتراضات هي التي سيُنظَر فيها، هُنا، نقديّا بعد بيان حقيقة إعجاز "القُرآن".
2- من إعجازٍ فاضح إلى عَجْز قاتل!
يَجدُر الانتباه إلى أنّ إعجاز "القُرآن" ليس مَسألةً نظريّةً تَقبَل أن يُجدَّد فيها النِّقاش بشكل دَوْريّ، وإنّما هي واقعةٌ عَمَليّةٌ تحقّقتْ فعلا بالنِّسبة لمن 0خْتُصّوا بالتحدِّي، وَهُم مُشركو العرب بدون مُنازِع. يقول "أبو سليمان الخَطّابيّ" (388 ه/998م): «[...]، والأمر في ذلك أبينُ من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدّى العرب قاطبةً بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه وانقطعو دونه.
وقد بقي صلى الله عليه وسلم يُطالبهم به مدة عشرين سنة، مُظهرا لهم النكير، زَارِيًا على أديانهم، مُسفِّها آراءَهم وأحلامَهم، حتّى نابذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيها النفوس، وأُريقت المُهَج، وقُطعت الأرحام، وذهبت الأموال. ولو كان ذلك في وُسعهم وتحت أقدارهم، لم يَتكلّفوا هذه الأمور الخطيرة، ولم يَركبوا تلك الفَوَاقر المُبيرة، ولم يكونوا تركوا السهل الدَّمِث من القول إلى الحَزَن الوَعِر من الفعل. وهذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذُو لُبٍّ. وقد كان قومُه قريش خاصة موصوفين برزانة الأحلام، ووَفارة العقول والألباب. وقد كان فيهم الخطباء المَصاقع والشعراء المُفَلِّقون. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدال واللَّدَد، فقال سبحانه ﴿[...] ما ضربوه لك إلا جدلا، بل هم قوم خَصِمُون!﴾ [الزخرف: 58]، وقال سبحانه: ﴿وتُنْذر به قوما لُدًّا﴾ [مريم: 97]. فكيف كان يجوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولُزوم الضرورة- أن يُغْفلوه ولا يَهتبلوا الفرصة فيه، وأن يَضربوا عنه صَفْحًا، ولا يَحُوزوا الفَلاح والظَّفَر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه! ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عَطِش عطشا شديدا خاف منه الهلاك على نفسه وبحضرته ماءٌ مُعْرِضٌ للشرب فلم يَشربه حتى هَلَك عطشا، [لَحَكَمنا] أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه. وهذا بَيِّنٌ واضحٌ لا يُشْكِلُ على عاقل.»[2].
والأمرُ نفسُه يُؤكِّدُه "فخر الدين الرازي" (606ه/1209م) قائلا: «الدّليل على كون القرآن مُعجزًا أنّ العرب تُحُدُّوا إلى مُعارضته فلم يَأتُوا بها. ولولا عجزُهم عنها، لكان مُحالا أن يَتركوها ويَتعرَّضوا لِشَبَا الأسِنّة ويَقتحموا مَوارد الموت.»[3].
ومن ثَم، فإنّ من يُريد القيام للتحدِّي في أيِّ عصر تالٍ يَلزمُه 0بتداءً أن يُبرهن على أنّه قد 0ستوى مُتمكِّنًا في مَقامِ الذين تُحُدُّوا بالقُرآن في الأصل. والحالُ أنّه لن يَجرُؤ على هذا الأمر إلّا من بَلغ به الجهلُ أقصاه. ولذلك نجد أنّ كل العُقلاء من فُحول البيان في اللِّسان العربيّ أدركوا أنّ "القُرآنٌ" مُعْجزٌ بما لا قِبَل به لناطقٍ من البشر. وأنّى لمن غابت عنه هذه الحقيقة من اللّاحقين أن يَعرِف أنّ التّطلُّع إلى رفع التحدِّي يُعَدّ من قِبَلهم طمعًا في مُحال. إذْ لو كان ذلك مُمكنًا، لَمَا وَقف دُونه الذين كان يُفترَض فيهم أصلا أن يَنهضوا به. ومن هُنا، فلم يَبْق بين أيدي الجاحدين سوى إثارةِ الشُّبُهات مِصداقًا لقوله تعالى: «وقال الذين كفروا: "لا تسمعوا لهذا القرآن و0لْغَوْا فيه، لعلَّكم تَغْلِبُون!» [فُصِّلَتْ: 26].
3- الاعتراض اللُّغويّ
يَدُور هذا الِاعتراض على فحص «لُغة القُرآن» بهدفِ إثباتِ أنّه ليس كتابا أُنْزل «بِلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ» وأنّه ليس كتابا مُحكَمَ البيان بما يَفُوق قُدُرات أيِّ ناطق من البشر. ومُستنَدُ هذا الِاعتراض أنّ «لُغة القُرآن» إنّما هي لُغةٌ طبيعيّةٌ وعاديّةٌ فيها كلُّ آثار النّقْص التي تَعتري الفعل الإنسانيّ بما هو فعلٌ مشروطٌ 0جتماعيّا وتاريخيّا. ويَحْرِص "الجاحدون"، من ثَمّ، على تأكيد أنّ «لُغة القُرآن» ليست لُغةً عربيّةً أصيلةً وخالصةً، بل هي لُغةٌ فيها عشراتُ الألفاظ من "الدّخيل" ؛ ثُمّ إنّ فيها جُملةً من الصِّيَغ والتراكيب التي لا تَستقيم - في ظنِّهم- وَفْق سَنَن العرب في الكلام ولا يَقبلها منطق «اللِّسان العربيّ» نفسه.
وإنّنا لنجد في "القُرآن" أكثر من آيةٍ تُؤكِّد أنّ "القُرآن" في مجموعه قد أُنزل «بِلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ» («ولقد نَعلمُ أنّهم يقولون: "إنّما يُعلِّمه بَشرٌ"، لسانُ الذين يُلْحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مُبينٌ!؟» [النّحْل: 103] ؛ «وإنّه لتنزيلُ ربِّ العالَمين. نَزل به الرُّوح الأمين ؛ على قلبك لتَكُون من المُنذِرين ؛ بِلسان عربيٍّ مُبينٍ.» [الشعراء: 192-195] ؛ «وكذلك أوحينا إليك قُرآنًا عربيًّا لتُنْذر أُمَّ القُرى ومَن حولها [...].» [الشُّورى: 07] ؛ «قُرآنًا عربيًّا غيرَ ذِي عِوَجٍ، لعلّهم يَتّقون!» [الزُّمَر: 27] ؛ «إنّا أنزلناه قُرآنًا عربيًّا، لعلّكم تعقلون!» [يوسف: 02])، بل فيه آيَةٌ حاسمةٌ في 0ستنكارها لذلك الظّنّ السخيف («ولو جعلناه قُرآنًا أعجميًّا، لقالُوا: "لولا فُصِّلتْ آياتُه!"، أَأَعجميٌّ وعربيٌّ؟! [...]» [فُصِّلَتْ: 44]). وعلى الرغم من كل هذا، فإنّ الجاحدين لا يَفتأون يَدَّعون أنّ ثَمّةَ ألفاظا أعجميّةً في "القُرآن" (من اللَّافِت بَلاغيًّا أنّ آية سُورة "النَّحْل"، المذكورة في بداية هذه الفقرة، وَرد فيها تعبير «ولقد نَعلم أنّهم يَقولُون»: فِعْلَانِ في الزمن الحاضر مُؤكَّدان بأداة التّحقيق "لقد" لإفادة أنّ قول "الجاحدين"، بهذا الصدد، سيَظلّ مُستمرًّا!).
ويَتناول مَبحثُ «الغريب في القُرآن» مَسألة تلك الألفاظ "المُشْكِلة". ومن المعلوم أنّ بعض الصحابة أنفسهم كانوا يجدون صعوبة في تحديد معنى بعض الألفاظ. ولعلّ أشهر مثال هو ما يُروى عن "عُمر بن الخطاب" (رضي الله عنه) لمّا تساءل عن معنى "أبًّا" («وفاكهة وأبًّا.» [عبس: 31]، و"الأبُّ" هو "العُشْب"). ويُعَدّ "عبد الله بن عباس" (رضي الله عنه) أشهر من تكلّم على «الغريب في القرآن»، وأُثر عنه قولُه بأنّ في "القُرآن" ألفاظا أُخذت من ألسن أخرى (الحبشيّة، الرُوميّة، الفارسيّة، النبطيّة). لكنّ أكثر عُلماء المُسلمين (وعلى رأسهم الإمام "الشافعيّ") يُؤكِّدون أنّ "القُرآن" ليس فيه من "الدّخيل" شيء[4]. ولا شكّ أنّ ترجيحات القائلين بوُجود "المُعرَّب" في "القُرآن" تَصبُّ في 0تِّجاه الاعتراض اللُّغويّ على الرغم من ضُروب التّخريج التي أَتَوْها لتعليل ذلك.
ويُعَدّ البريطاني "ألفونس مِنْغانا" (1878-1937) من أوائل المُستشرقين الذين 0هتمُّوا بتناوُل تلك المسألة[5]. كما أنّ المُستعرِب الأُستراليّ "آرثر جفري" (1892-1959) تناول الموضوع في كتابه «المُفردات الدّخيلة في القرآن»[6] حيث سعى إلى بَيان أنّ هُناك ألفاظا في "القُرآن" من إحدى عشرة لغة (الحبشيّة، الفارسيّة، الرُّوميّة، الهنديّة، السُّريانيّة، العبرانيّة، النّبطيّة، القبطيّة، التركيّة، الزّنجيّة، البربريّة). ويُمكن 0عتبار عمل "مارتين ر. زاميت" المُعنون ب«دراسة معجميّة مُقارنة في عربيّة القُرآن»[7] أحد أهمّ الأعمال في هذا المجال. ويُعَدّ المُسمّى "كريستوف لُوكسنبرغ" أحد آخر الذين ذهبوا بعيدا في بحث تلك المسألة في كتابه «التّأْويل السُّريانيّ-الآراميّ للقُرآن: مُساهَمة في حلِّ عَقْد لُغةِ القُرآن» (2000، 2007)[8]. ونجد "لُوكسنبرغ" يَزعُم أنّ "الغريب" في "القُرآن" لا يُفَكّ لُغزُه إلا بإرجاعه إلى التأثير «السُّريانيّ-الآراميّ» في اللِّسان العربيّ، وبالتالي فإنّ معنى كثير من الألفاظ (والآيات) لا يُمكن - في ظنِّه- تأويلُها إلّا بالرجوع إلى مَعانيها في "السُّريانيّة" و"الآراميّة".
لكنّ هذه المُحاولة مَردودةٌ لثلاثةٍ أسباب أساسيّة: أوّلُها أنّها تُغْفِل أنّ «اللِّسان العربيّ» لسانٌ قائمٌ بنفسه وأنّه تمّ به القول شِعْرًا حتّى قبل نُزول "القُرآن" ؛ وثانيها أنّ 0نتماء "العربيّة"، مع "السُّريانيّة" و"الآراميّة"، إلى نفس المجموعة اللُّغويّة لا يُجيز القول بأنّها هي الآخذة عنهما إلا بدليل بيِّن وقاطع، وإلا فإنّ كونَها جميعا لُغاتٍ تشترك في أصل واحد هو السبب في وُجود ألفاظ مُتشابهة بينها ؛ وثالثها أنّ دلالة الألفاظ ليست ثابتةً حتّى تقبل أن تُؤوَّل بإرجاعها فقط إلى أُصولها البعيدة. وفضلا عن هذا، فإنّ التأويل «السُّريانيّ-الآراميّ»، كما ذهب إليه "لُوكسنبرغ"، يقود إلى مُفارَقة كُبرى يكون فيها أصحابُ «اللِّسان العربيّ» قد 0ستعملوا لُغةً وهُم عاجزون عن فَهْمها والتّفاهُم بها لجهلهم بكونها لا تُفهم إلا في تبعيّتها للُّغتين "السُّرْيانيّة" و"الآراميّة"! ولهذا، فإنّ بعض الباحثين الأوروبيِّين لم يَتردّدوا عن تأكيد أنّ تلك المُحاوَلة تفتقد ما يَكفي من الأدلّة[9]، بل إنّها مجرد مُبالَغة[10]، وتبقى - رغم نتائجها الجُزئيّة- مشكوكا فيها[11].
ولقد قام البحّاثة "علي فهمي خشيم" - رحمه الله- بتناوُل تلك المسألة في كتابه «هل في القُرآن أعجميّ: نظرة جديدة إلى موضوع قديم»[12]، حيث فحص كل الألفاظ (أكثر من ثمانين) التي 0عْتِيد أن يُقال بأنّها "دخيلة" في لُغة "العرب"، ثُمّ 0نتهى إلى تأكيد أنّها لا تَخرُج عن نسق «اللِّسان العربيّ» بصفته أحد ألسُن «المجموعة العُروبيّة» (التي تُسمّى، عادةً، ب"الساميّة"). ولهذا، فإنّ كل لفظ في "القُرآن" لا يَصحّ إطلاقا أن يُقال عنه إنّه "دخيل" ما دام عربيًّا في صيغته الصرفيّة وله أصلٌ بعيد، بالخصوص، في "الأكاديّة" و"المصرية القديمة" اللتين تُعدّان من أقدم الألسن في «المجموعة العُروبيّة».
يَنبغي، إذًا، تأكيدُ أنّ الغرض من هذا الاعتراض لا يَتمثّل فقط في التّشكيك في عُروبة لُغة "القُرآن"، بل يَرمي إلى إثبات أنّها لُغةٌ تَدين بالكثير للُّغات الأخرى: كأنّ العرب ليس من حقِّهم أن يَتفرَّدوا بشيء يَخُصّهم حتّى في لُغتهم! ولا يَصعُب أن يُتبيّن أنّ أصحاب هذا الاعتراض يشتركون مع الذين 0ستكثروا على الله تعالى أن يَبعث في "الأُميِّين" نبيّا رسولا منهم! وحتّى لو صدّقناهم في وُجود بعض الألفاظ "الدّخيلة" في لُغة "القُرآن"، فلن يَكون هذا مَطْعَنًا في أصالتها بما هي لُغة. ذلك بأنّ كل الألسن فيها عشرات أو مئات الألفاظ "الدّخيلة" (هل يَصِحّ، مثلا، التّشكيك في أصالة "الفارسية" أو "الإسبانيّة" لكونهما لسانين يَتضمّنان مئات الألفاظ العربيّة؟!).
وبالتالي، فإنّ ما يُثْبِت الإعجاز اللُّغويّ في "القُرآن" إنّما هو «النَّظْم الفريد» الذي لم يُستعمَل فيه من «لُغات العرب» كُلِّها سوى أقلّ نسبة (5٪ من «لسان العرب» لابن منظور[13]، و15٪ من «تاج العروس» للزَّبيديّ[14])، بل إنّ الإعجاز ثابتٌ أيضا في كون «لُغة القُرآن» هي التي فرضت نفسها بعد ذلك بصفتها تُمثِّل «اللِّسان المُبين» (أو «العربيّة الفُصحى»)، حيث إنّ ثلاثة أرباع «لُغات العرب» ستُمات منذ أن صارت «لُغة القُرآن» - ألفاظا وتراكيب- مُهيمنةً على الاستعمال. ولأنّ «لُغة القُرآن» قد أصبحت «المعيار الأمثل» للاستعمال القويم والمُبين للعربيّة، فإنّ من يذهب به الظنّ إلى وُجود أخطاء في "القُرآن" لا يدل إلّا على جهله أو سُوء فهمه. ولعلّه يكفي، هُنا، أن يُشار إلى أنّ المُستعرب الفرنسي "جاك بيرك" لمّا تفحص ما بدا شُذوذا ل"نُولدكه" لم يجد بُدًّا من تأكيد أنّ الأمر إنّما يَتعلّق بضُروب من «التفرُّد النحويّ» في "القُرآن"[15]. فأنّى يَنْصرفْ بَعْدُ "الجاحدون"؟!
4- الاعتراض التاريخيّ
يُركَّز، في هذا الاعتراض، على الطُرُق المُوصلة إلى تحديد الكيفيّة التي دُوِّن بها "القُرآن". ويُفضِّل "الجاحدون"، بهذا الصدد، أن يُثيروا ثلاث شُبهات مُترابطة: الأُولى حول حقيقة كون رسول الله - صلّى الله عليه وسلم- أُميّا لا يَقرأ ولا يَكتُب ؛ والثانية حول الفُروق والاختلافات بين المَصاحف قبل فَرْض «المُصحف المُوحَّد» في خلافة "عثمان بن عفّان" (رضي الله عنه) ؛ والثالثة حول علاقة "القُرآن" بنُصوص أهل الكتاب (اليهود والنّصارى). والحال أنّ الشُّبهة الأُولى لا تَستقيم لأنّ نفي أُمّيّة رسول الله لا يُطلَب إلّا من أجل غرض (لو ثَبَت أنّه كان قارئا وكاتبا، لكان إذًا في ظنّ "الجاحدين" قد تعلَّم أو عُلِّم "القُرآن" من بَشر غيره!)، ولأنّ إثبات كونه قارئا وكاتبا لا يَنفي عنه إطلاقا تلقِّي "الوحي" بصفته نبيّا ورسولا (سبقه "أنبياء" و"رُسل" مِمّن كانوا يعرفون القراءة والكتابة)! في حين أنّ الشُّبهة الثانية لا وجه لها، لأنّ "القُرآن" نُقل أساسا بالتّواتُر قراءةً من الصُّدور، ولأنّ الاختلاف بين "المقروء" و"المكتوب" لا يَتعدّى ألفاظا معدودات تبقى مُقيَّدة تركيبيّا ودلاليّا على نحو يَستبعد الخطأ فيها بالشكل الذي يَتوهّمه "المُبْطلون". وأمّا الشبهة الثالثة، ف"القُرآن" يتحدد أصلا بما هو كتاب «مُصدِّقٌ لما بين يديه» ([آل عمران: 03] ؛ [النساء: 47] ؛ [المائدة: 46 و48]) ؛ لكنّه في الوقت نفسه «مُهيمن عليه». واعتماد التشابهات الموجودة بين بعض الأجزاء من "القُرآن" وغيره من الكتب لا يُفسَّر كما لو كان "مُقتبسا" من كتب اليهود والنصارى، وإنّما عِلّته الحقيقية أنّه وتلك الكتب من مِشْكاة واحدة.
إنّ كونَ "القُرآن" له تاريخ أمرٌ مُسلَّمٌ به بين عُلماء المُسلمين أنفسهم. ذلك بأنّه كتابٌ نُزِّل "مُنَجًّمًا" على 0متداد ثلاث وعشرين سنة. لكنّ "الجاحدين" لا يَهتمّون بتاريخ "القُرآن" إلّا لأنّه وسيلتُهم في إثبات أنّه «نتاجُ تاريخٍ بشريٍّ خاص»، نتاجٌ مُحدَّد 0جتماعيّا وثقافيّا ؛ مِمّا يَقتضي - في نظرهم- أنّه ليس كتابًا "مُعجزًا" كما يَعتقد المُسلمون. ولهذا تراهُم يَعملون، في بحثهم عن «تاريخيّة القُرآن»، على إعادة ترتيب آياته وسُوره بحسب «أسباب النُّزول» ووَفْق قراءةٍ مَبْحثيّةٍ تستهدف تعيين آثار "التاريخ" في تلوينات "النّص" (كما 0نزلق إليه "محمد عابد الجابري" في كتابه الأخير حاذيًا حذو كل من "تيودور نولدكه"[16] و"رجيس بلاشير"[17]).
وفي جميع الأحوال، يجب ألّا يَخفى أنّ أصحاب الاعتراض التاريخيّ يَغْفُلون عن أنّ مُبتغاهم إنّما يَطلُبونه باسم "التاريخ" الذي لا يَصِحّ أن يُعَدّ مُتعاليًا بما هو "تاريخ". ومن ثَمّ، فإنّ حرصَهم على إبراز «تاريخيّة القُرآن» إنّما يَأتي لإنكار تَعاليه (بما هو وحي إلاهيّ) ونسيان «تاريخيّة عَملهم الخاص» الذي لا يَقبل أن يُعلَّل – بما هو "تَأْريخ"- إلا بالنِّسبة إلى شُروط "التاريخ" نفسه. فكيف يَجُوز إنكار تعالي "القُرآن" على أساس "التاريخ" الذي لا يكون مُتعاليًا إلا بما هو "أُسطورة" خارقة أو بصفته، بالأحرى، "مُعجزةً" مُفارِقة؟!
5- الاعتراض الدّلاليّ-الأُسلوبيّ
في هذا المستوى، يُنظَر إلى نصِّ "القُرآن" كما لو كان مُجرَّد «نص أدبيّ» بحيث يجب أن يُدرَس القول فيه بما هو "إنشاءٌ" يَبني الدّلالةَ بلاغيّا وأُسلوبيّا. غير أنّ الغرض من هذا الاعتراض يَتمثّل في إثبات أنّ القول في "القُرآن" قولٌ إنشائيّ لا خبر فيه ولا حُكم، أيْ أنّه لا يُحيل إلى وقائع خارجيّة ولا يَستلزم مُقتضيات عمليّة. إنّه، إذًا، اعتراض مُغْرِضٌ بامتياز، لأنّه يَتوخّى تعطيل «الوحي القُرآنيّ» بجعله نصا "فنيًّا" لا يُحيل إلّا إلى نفسه!
إنّ الذين يُريدون تأكيد "أدبيّة" النّص القُرآنيّ - باعتباره «حَكْيًا قَصَصيّا ذا بنيةٍ أُسطوريّة»، أيْ تأليفا إنشائيّا لا يُحيل إلى "الواقع" إلّا تخييلا وتمثيلا (كما ظل يَزعُمه "محمد أركون"[18]، وكما واصله "نصر حامد أبو زيد"[19])- يَغفُلون عن حقيقة أنّ إرادةَ «تَأْنيس القُرآن» (بجعله إنتاجا إنسانيّا محضا) تَؤُول لديهم إلى إرادةٍ ل"تَدْنيسه" كما لو كان مجرد شكل من أشكال "التّعالِي" عن طريق مُمْكنات «البناء اللُّغويّ» في علاقته الضروريّة بالمُحدِّدات الاجتماعيّة للإنتاج الأدبيّ والفنيّ. والحال أنّ «سِحْر القُرآن» لا يَقبل أن يُختزل فيما يَأتيه الإنسان من "الرَّأْي" سواء أكان من "الشِّعْر" (هُيامًا في وديان "التّخْييل") أمْ من "النَّثْر" (0ستقصاءً بيانيّا لمَوارد "التّمْثيل")، لأنّه سحر بيانيّ يَتحدّد أساسا بما هُو آياتٌ من "الوحي" نُزِّلتْ تنزيلا، أيْ أنّه خطابٌ إلاهيٌّ لَابَس نَظْمُه لُغةَ البشر فنَقَلها إلى مُستوى «الذِّكْر» إحياءً وثناءً.
وإنّ الغفلة عن حقيقة "القُرآن" - بما هو «تَنَزُّل الوحي» فيما وراء مُمْكنات "الرَّأْي"- هي وحدها التي يُمكنها أن تُبرِّر إرادة «تَأْديب القُرآن» بالنظر إليه فقط قياسًا على «أدبيّة الشِّعْر». ومن المُؤسف أنّ الباحثين في البيان القرآنيّ لا يكادون يلتفتون إلى أنّه يُمثِّل، في الواقع، 0نقلابا على "الشِّعْر" بصفته «أبا الأنواع الأدبيّة» ؛ مِمّا يَجعل "القُرآن" بمثابة "تَنْسيب" للعمل الشعريّ في وُقوعه تحت «غَواية اللُّغة» تخييلا وتمثيلا، وبالتالي فهو السبيل إلى "تحرير" القول الأدبيّ عموما من خلال رفعه إلى مَقامٍ يَصير فيه «العمل الصالح» السبيل إلى "تَصْديق" خَوالج الوِجْدان قولا ذاكرا وليس شِعْرًا تائِهًا!
ومن ثَمّ، فإنّ كونَ "القُرآن" نصًّا ذا بِنْيةٍ خطابيّة تشتغل "ذِكْرًا" هو ما يجعل البناء الأُسلوبيّ للدّلالة فيه يَتحقّق بيانًا حجاجيّا. وهذا ما أخذ يَشتغل به بعض الباحثين كما نجده مثلا عند "عبد الله صولة" (الحِجاج في القرآن: من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي، 2001، 2007) و"نيفيد كرماني" (بلاغة النُّور: جماليّات النص القرآنيّ، منشورات الجمل، 2008) و"علي الشبعان" (الحِجاج والحقيقة وآفاق التأويل: في نماذج مُمثلة من تفسير سورة البقرة، دار الكتاب الجديد المتحدة، 2010). وإنّ مثل هذا الاشتغال - الذي كان "الباقلانيّ" (403ه/1013م)، و"الجُرجانيّ" (470ه/1078م) رائدين فيه- لَهُو المِحكّ الأمثل لاستجلاء المزيد من جوانب الإعجاز في "القُرآن" بما هو «حُجّة اللّه البالِغة» بين أيدي العالَمين، «حُجة اللّه» التي تُؤخَذُ بِعِلْمٍ ولا يَزيغ عنها إلا من أضلّه اللّهُ على عِلْمٍ.
6- الاعتراض العلميّ
يَتّخذ هذا الاعتراض وجهَيْن: أوّلُهما يَتمثّل في القول بأنّ كون "القُرآن" نصًّا مَصُوغًا في «اللُّغة الطبيعيّة» يَجعلُه "مُتشابها" و"مُلْتبسا" بما يَكفي لتأكيد أنّه «حَمّالُ أوجُهٍ» تقبل أن تُؤوَّل إلى ما لا نهاية، وهُو وضعٌ يقف به دون «اللُّغة الاصطناعيّة» في 0تِّساقها الصُّورِيِّ و0حتتانها الدّلاليّ وإفادتها القَطْعيّة ؛ وثانيهما يَذهب أصحابُه إلى أنّ تكوُّن "القُرآن" في القرن السابع الميلاديّ ضمن مجتمع بدويّ بَعيد عن مَراكز "الحضارة" يُوجب 0ستبعاد أيّ قرابة بينه وبين "العلم" الذي يُعَدّ بناءً منهجيّا ومعرفيّا تمّ، بالأساس، في إطار العصر الحديث بالمجتمعات الغربيّة.
ويبدو أنّ الاعتراض العلميّ، بوجهيه ذَيْنك، يَصُبّ في 0تِّجاه نفي إعجاز "القُرآن" خصوصا كما يَتجلّى فيما يُسمّى «الإعجاز العلميّ في القُرآن». وما ينبغي تبيُّنه، بهذا الصدد، هو أنّ وُرود "القُرآن" نصًّا مَصُوغًا في «اللُّغة الطبيعيّة» لا يَنتقص من قَدْره شيئا إلّا في نظر الذين لم يَقِفُوا بعدُ على الحقيقة المُتعلِّقة، من جهة، بحُدود الأنساق الصوريّة و، من جهة، بأهميّة الخطاب الطبيعيّ الذي لا يَقلُّ منطقيّةً ولا معقوليّةً عن الخطاب العلميّ نفسه، بل إنّ هذا الأخير ليس سوى «نُزُوع إلى التّجريد»، نُزُوع لا يَنفكّ أبدا عن مُلابَسة الاشتغال المَجازيّ والاستعاريّ الذي يَأتيه الإنسان عموما من خلال 0ستعمال "اللُّغة" على نحو بلاغيّ وحجاجيّ.
ولذلك، فإنّ "القُرآن" لا يُعترَض عليه لمجرد أنّه خطابٌ بَيانيّ، ولا بما هو بلاغ يَتضمّن «إشارات غَيْبيّة» تتعلق بما يُظْهِرُ عليه ربُّ العالَمين عبادَه من كريم فضله وواسع علمه. وإذَا ثَبَت هذا، فإنّه يَصير أجدر بالمُسلمين أن يَهتمُّوا بتبيُّن تلك "الإشارات" بما يَزيدُهم 0طمئنانا في إيمانهم ويُقوِّي تعبُّدَهم لربِّهم بالتفكُّر في آيات الله المُتجلِّية في الآفاق وفي أنفسهم. ومن البَيِّن أنّ من يَعترض على ذلك «باسم العلم» إنّما يفعل بناءً على تصوُّرٍ لا يَمُتّ بصلةٍ إلى واقع المُمارَسة العَمَليّة التي تُؤكِّد أنّ للعلم من الاستعمالات بقدر ما للإنسان من حاجات تظلّ تَتجاوَز فكرَه وفعلَه.
7- الوحي الخاتم والتّحدِّي الأتمّ
إذَا تَبيّن أنّ ما يَعُدّه "الجاحدون" 0عتراضات على إعجاز "القُرآن" ليس سوى شُبُهات لا يَستمسك بها إلّا الذين يُريدونها عِوَجًا، فإنّه يَتأكّد أنّ الأمرَ في نص "القُرآن" إنّما يَتعلّق بالوحي الخاتم الذي أنزله اللّهُ إلى عباده والذي جعله هُدًى لمن شاء منهم. وحتّى لو صدّقنا "المُبْطلين" فيما يَذهبون إليه، فإنّ "القُرآن" لا يُمثِّل فقط أحد «النُّصوص الكُبرى»، بل يَصير أعظمَ نصٍّ وُضع بين يَدي الإنس والجن منذ أربعة عشر قرنا. أليس هو كتاب المُسلمين الذين يُمثِّلون الآن مليارا ونصف مليار من النّاس؟! أليس هو الكتاب الذي يَحملُه آلاف الناس في صُدورهم ويَتْلُوه الملايين في صلواتهم الخمس كل يوم ويَختمونه، على الأقل، مرّةً واحدةً في السنة قراءةً وَ/أوْ سماعًا؟! أليس هو الكتاب الذي لا يَبْلى من كثرة التلاوة والذي لا يَستنفد الفكرُ مَعانيه والذي لا تنقضي عجائبُه مدى الدّهر!؟ فأيُّ كتاب ذاك الذي يُضاهيه في كل هذا؟!
ولأنّ "القُرآن" وحيُ الله الخاتم، فإنّ التحدِّي الأتَمّ في مُواجَهته يَتعيّن في أنّ كلّ إنسان صادق في طلبه للحقِّ يُمكنه أن يذهب في رحلةٍ لتعرُّف نص "القُرآن" كما هو في «المُصحَف الشريف». وإذَا 0ستطاع أن يَضع عن نفسه كبرياءَها ويُجرِّدها من عِنادها فيَتواضع لسماع نداء "الحقّ"، فلن يُنْهي رحلتَه إلا وهُو مُهتدٍ قد عرف - بإذن ربّه- سبيلَه إلى الحياة الطيِّبة عاجلا وآجلا. ولعلّ خير مثال على هذا ما حصل ل"الرياضياتيّ" الكنديّ "غاري ميلر" الذي أراد أن يَكشف عن الأخطاء العلميّة والتاريخيّة في "القُرآن" فإذا به يَنتهي إلى تأليف كتابه «القُرآن المُذْهِل»[20] حيث أقرّ بأنّه كتاب الله المُعجز. فالقُرآن هو الكتاب الوحيد الذي يَتضمّن خطابًا يَتحدّى مُتلقِّيَه بأن يَأتي بمِثْله إنْ 0ستطاع، بل يُعْلِن أنّه «ولو كان من عند غير الله، لَوَجدوا فيه 0ختلافا كثيرا!» [النساء: 82].
ومن أجل ذلك كُلِّه، فإنّ الذين يَستخفُّون ب«القول الثّقيل» في القُرآن الكريم لا يَدُلّون - في الواقع- على أكثر من خِفّة عُقُولهم وضَحالة علمهم. إذْ شأنُهم هو الجُحود تشكيكا
وتكذيبًا، وليس البحث عن "الحقّ" حتّى لو كان ضدّ ما تهواه الأنفس أو تَواطأت عليه عوائدُ الناس. والحالُ أنّ إعجاز "القُرآن" يَثْبُت يقينًا بالنِّسبة إلى كل من يَصدُق في طلبه. وأمّا الذين مَرَدُوا على الكُفر جُحودا وإلحادًا، فلن يُصدِّقوا إلّا أن يُقضى الأمرُ فيَأتيهم العذاب: «ولو نَزّلنا عليك كتابًا في قرطاس فَلَمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا "إنْ هذا إلّا سحرٌ مُبينٌ"! وقالوا: "لولا أُنزل عليه مَلَكٌ!" ؛ ولو أنزلنا مَلَكًا، لقُضيَ الأمرُ، ثُمّ لا يُنظرون!» [الأنعام: 07-08].
[email protected]
_______________
[1] اُنظر: عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه "محمود محمد شاكر"، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 5، 2004، ص. 626.
[2] اُنظر: أبو سليمان الخَطّابيّ، بيان إعجاز القرآن، ضمن «ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطّابيّ والجرجاني»، تحقيق محمد خلف الله أحمد ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، سلسلة ذخائر العرب 16، ط 3، 1976، ص. 21-22.
[3] اُنظر: فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، تحقيق الدكتور نصر الله حاجي، دار صادر، بيروت، ط 1، 1424ه/2004م، ص. 26.
[4] اُنظر: جلال الدين السيوطي، المُهذَّب فيما وقع في القرآن من المُعرَّب، تحقيق التهامي الراجي الهاشمي، مطبعة فضالة، المحمدية، ص. 57-65.
[5] اُنظر:
- Alphonse Mingana, «Syriac Influences On The Style Of The Kur'an», Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1927, Volume II, pp. 77–98; Also see A. Mingana, «An Ancient Syriac Translation Of The Kur'an Exhibiting, New Verses And Variants», Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1925, Volume IX, pp. 188-235.
[6] اُنظر:
- Arthur Jeffrey, The Foreign Vocabulary of The Qur'an, Oriental Institute, Baroda, 1938; reedition Brill, Leide, Boston, 2007.
[7] اُنظر:
- Martin R. Zammit, A Comparative Lexical Study in Qur'anic Arabic, Brill, Leiden Boston, 2002.
[8] اُنظر:
- Christoph Luxenberg, Die syro-aramäische Lesart des Koran, 2000; The Syro-Aramaic Reading of The Koran: A Contribution to decoding of the language of the Koran, Verlag Hans Schiler, 2007.
[9] اُنظر:
- R. Hoyland, «New Documentary Texts And The Early Islamic State», Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, 2006, Volume 69, No. 3, pp. 410-411. Quoted in: M. S. M. Saifullah, Mohammad Ghoniem & Shibli Zaman, From Alphonse Mingana To Christoph Luxenberg: Arabic Script & The Alleged Syriac Origins Of The Qur'an (http://www.islamic-awareness.org/Quran/Text/Mss/vowel.html)
[10] اُنظر:
- Jacqueline Chabbi, le Coran décrypté: figures bibliques an Arabie, éd. Fayard, 2008, p. 35.
[11] اُنظر:
- Alfred-Louis de Prémare, Aux origines du Coran, Questions d'hier, appoches d'aujourd'hui, éd. Cérès/Edif/Le Fennec, 2005, p. 40.
[12] اُنظر: علي فهمي خشيم، هل في القرآن أعجمي؟ نظرة جديدة إلى موضوع قديم، دار الشرق الأوسط، بيروت، ط 1، 1997.
[13] اُنظر:
- Jacques Berque, Le Coran : essai de traduction, éd. Albin Michel-Sindbad, Paris, 2ème éd, 1994, p. 736, note 1.
[14] اُنظر: عبد الصبور شاهين وعلي حلمي موسى، دراسة إحصائية لجذور مفردات تاج العروس باستخدام الكومبيوتر، مذكور في: عبد الصبور شاهين، في العربية والقرآن، مكتبة الشباب، ط 1، 1998، ص. 86.
[15] اُنظر:
- Jacques Berque, Le Coran : essai de traduction, op. cit, p. 741.
[16] اُنظر: تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، (بإشراف "فريدرش شفالي"، 1909)، ترجمة "جورج تامر"، منشورات الجمل، 2008.
[17] اُنظر:
- Régis Blachère, Introduction au Coran, Maisonneuve et Larose, Paris, 2e éd. , 1959; réimp. 1991.
[18] اُنظر:
- Mohammed Arkoun, la pensée arabe, éd. PUF, [1975], 2008 ; id, lectures du Coran, Maisonneuve et Larose, 1982.
- محمد أركون، القرآن: من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة "هاشم صالح"، دار الطليعة-بيروت، 2001.
[19] اُنظر: نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط 5، 2000 ؛ وأيضا للمؤلف نفسه: النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط 4، 2000.
[20] اُنظر:
- Gary Miller, The Amazing Qur'an, Abul-Qasim Pub


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.