انتخاب خالد الأجباري ضمن المكتب الوطني لنقابة الاتحاد المغربي للشغل    الكاتب بوعلام صنصال يبدأ إضرابًا مفتوحا عن الطعام احتجاجًا على سجنه في الجزائر.. ودعوات للإفراج الفوري عنه    وزيرة الفلاحة الفرنسية تشيد بجهود الشراكة الاستراتيجية مع المغرب    رئيس لبنان: تعبنا من حروب الآخرين    فوز المحافظين بانتخابات ألمانيا    مغربي يتوج بلقب النسخة الخامسة من مبادرات "صناع الأمل" بالإمارات    ثنائية الزمامرة تهزم اتحاد طنجة    إطلاق نار يخلف قتيلين بالمحمدية    سبعيني يقتل ابنته وزوجها ببندقية صيد في المحمدية    مصرع فتاتين وإصابة آخرين أحدهما من الحسيمة في حادثة سير بطنجة    لقاء تواصلي بمدينة تاونات يناقش إكراهات قانون المالية 2025    مودريتش وفينيسيوس يقودان ريال مدريد لإسقاط جيرونا    هذه هي تشكيلة الجيش الملكي لمواجهة الرجاء في "الكلاسيكو"    حريق يأتي على سيارة إسعاف وسيدة حامل تنجو بأعجوبة    الملك محمد السادس يهنئ إمبراطور اليابان بمناسبة عيد ميلاده    تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس : الجمعية المغربية للصحافة الرياضية تنظم المؤتمر 87 للإتحاد الدولي للصحافة الرياضية    تفكيك شبكة للإتجار بالبشر في إسبانيا استغلت أكثر من ألف امرأة    المغرب ضمن الدول الأكثر تصديرا إلى أوكرانيا عبر "جمارك أوديسا"    نقابة تدعو للتحقيق في اختلالات معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة    إسبانيا.. تفكيك شبكة متخصصة في الاتجار بالبشر استغلت أزيد من ألف امرأة    الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي يُهدد القدرات المعرفية للمستخدمين    بوتين يستخدم الدين لتبرير الحرب في أوكرانيا: مهمتنا الدفاع عن روسيا بأمر من الله    رسالة مفتوحة إلى عبد السلام أحيزون    المغرب في الصدارة مغاربيا و ضمن 50 دولة الأكثر تأثيرا في العالم    طنجة تتصدر مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الإثنين    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    جمال بنصديق يحرز لقب "غلوري 98"    تقرير.. أزيد من ثلث المغاربة لايستطيعون تناول السمك بشكل يومي    عودة السمك المغربي تُنهي أزمة سبتة وتُنعش الأسواق    حماس تتهم إسرائيل بالتذرع بمراسم تسليم الأسرى "المهينة" لتعطيل الاتفاق    هل الحداثة ملك لأحد؟    رونالدو: تشرفت بلقاء محمد بن سلمان    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومتميزة في مكافحة الإرهاب    "غضب" نقابي بسبب "انفراد" رئيس جماعة الفقيه بن صالح بإجراء تنقيلات واسعة في صفوف الموظفين    متهم بالتهريب وغسيل الأموال.. توقيف فرنسي من أصول جزائرية بالدار البيضاء    لقاء تواصلي بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية ووفد صحفي مصري    نجاح كبير لمهرجان ألوان الشرق في نسخته الاولى بتاوريرت    سامية ورضان: حيث يلتقي الجمال بالفكر في عالم الألوان    نزار يعود بأغنية حب جديدة: «نتيا»    فقدان الشهية.. اضطراب خطير وتأثيره على الإدراك العاطفي    الصين تطلق قمرا صناعيا جديدا    رضا بلحيان يظهر لأول مرة مع لاتسيو في الدوري الإيطالي    القوات المسلحة الملكية تساهم في تقييم قدرات الدفاع والأمن بجمهورية إفريقيا الوسطى    القصة الكاملة لخيانة كيليان مبابي لإبراهيم دياز … !    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التّأْمين "ٱلمادِّيّ" للأمْن "ٱلرُّوحيّ"!
نشر في هسبريس يوم 27 - 03 - 2013

«ٱلذين آمنوا ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بظُلْمٍ، أُولئك لهم ٱلأمنُ.» (الأنعام: 82)
«وٱبْتَغِ فيما آتاكَ ٱللّهُ الدارَ الآخرة، ولا تَنْسَ نصيبَكَ من الدُّنيا، وأَحْسِنْ كما أحسن ٱللّهُ إليكَ، ولا تَبْغِ الفسادَ في الأرض! إن ٱللّهَ لا يُحبُّ المُفسدِين.» (القَصص: 77)
«من أصبح منكم آمِنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسده، عنده قُوت يومه، فكأنّما حِيزَتْ له ٱلدُّنيا بحَذافِيرها.» (حديث نبوي، الترمذي: زُهد، حديث 2346 ؛ ابن ماجه: زُهد، حديث 4141 ؛ الألباني: الصحيحة، حديث 2318)
صار من الشّائع أنْ يَتحدّث بعض المُتدخِّلين - فكريًّا وإعلاميًّا- عن «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ»، إما قياسًا على «ٱلأمن ٱلقوميّ» و«ٱلأمن ٱلِاجتماعيّ» و«ٱلأمن ٱلِاقتصاديّ» وإما تمييزًا له عن «ٱلأمن ٱلعامّ» (أمن الأشخاص على أنفسهم ومُمتلكاتهم). ويبدو أنّ الأمر، هُنا، لا يَتعلّق بنوع من الأمن يُعدّ أهمّ من غيره لدى النّاس، بل يَتعلّق بكون الحديث عن «الأمن الرُّوحيّ» يُؤتى به بديلا ٱفتراضيًّا لِما يزداد ٱستصعابُ تحقيقه واقعيًّا من أنواع الأمن الأُخرى التي ترتبط، في الواقع، بالحاجات الضروريّة والمُباشرة لحياة مُعظَم الناس (المتعلقة أساسا ب"الشُّغل" و"السَّكن" و"التّغذيَة" و"الصِّحّة" و"التّعليم" و"الأمن" و"النّقل" و"النّظافة" و"العدالة").
وإذَا كان «الأمنُ الرُّوحيُّ» يدل، عموما، على «طُمأنينة النّفس» و«السّكينة الداخليّة» (بزوال كل خوف أو قلق أو هَمٍّ أو حُزن)، فإنّ دلالته تتحدّد بالضبط في قُدرة "المُواطن" على السعي العمليّ نحو تحقيق ما يَرتئيه من «ٱلحياة الطيِّبة» تمييزا واختيارا في مجال العقائد والعبادات والأخلاق. فهل «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ»، بهذا المعنى، مُمكنٌ في عالم الدُّنيا من دون حصول «ٱلتّمكين ٱلماديّ» الذي يرتبط بتوفير كل الأسباب التي تُؤمِّن ماديّا «ٱلعيش ٱلكريم» شرطا أساسيّا ل«ٱلحياة ٱلطيِّبة» كتجربة رُوحيّة يَعيشها ذاتيّا وإراديّا كل فرد؟ ألَا يكون الحديث عن «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ» في غياب أسبابه الماديّة نوعا من "ٱلتّبرير" و"ٱلتّسويغ" لكل أنواع الشقاء والبُؤس المشروطة ماديّا وموضوعيّا في صلتها بواقع "الظُّلم" و"الفساد" ضمن أنظمة «الاستبداد السياسيّ» و«الاستغلال الاقتصاديّ» و«الاستلاب الثقافيّ»؟
بِما أنّه لا شيءَ عند الإنسان يَعْدِل "ٱلحياة" وُجودًا وبقاءً، فإنّ "ٱلأَمْن" يَصير حِفْظًا ل"الرُّوح" بكل ما يُقوِّمها في فطرتها الخَلْقيّة ويُمِدُّها في تجلِّيها الخُلُقيّ، ولا ينحصر في مجرد حفظ ما تَملكه اليد كَسْبًا وتصرُّفا. ومن هُنا، فإنّ الاهتمام ب«ٱلأمن ٱلرُّوحيّ» إنّما هو ٱهتمامٌ بإزالةِ كل أسباب "ٱلخوف" و"ٱلقلق" و"ٱلهمّ" و"ٱلحُزن" مِمّا يُعانِيه النّاس في واقعهم المَعيش، فيَشقون به عادةً أيَّما شقاء. ويَتعلّق الأمر بالتّوفير العُموميّ لكل ما يَكفُل حاجاتِ "المُواطنين" الأساسيّة والمُشتركة مُمثَّلةً في "الشُّغل" و"السَّكن" و"التّغذيَة" و"الصِّحّة" و"التّعليم" و"الأمن" و"النّقل" و"النّظافة" و"العدالة".
ومن البيِّن أنّه لا سبيل إلى تحقُّق «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ» لمجموع "المُواطنين" من دون ضمان تلك الحاجات الحيويّة التي يُؤدِّي توفُّرها إلى إقدارهم على "التّمييز" و"الاختيار" فيما يَصلُح لهم من «حياة طيِّبة» (جُملة التّفضيلات التي يُمكن أن يَميل إليها النّاس شخصيّا في حياتهم الخُلُقيّة والقِيميّة). فليس «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ»، إذًا، بديلا افتراضيّا عمّا يُمثِّل في حياة "المُواطنين" قوامَ وُجودهم الفعليّ بما هُم كائنات بشريّة كُتب عليها ألّا تَتحقّق إلّا بقدر ما تُضمن حاجاتُها الطبيعيّة والأساسيّة التي أصبحت الآن حُقوقا اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة يُفترَض عالميّا أن يَتساوى فيها كل النّاس بغض النّظر عن انتمائهم القوميّ (أو الوطنيّ) وجنسهم ولُغتهم ودينهم.
ذلك بأنّ «الوُجود البشريّ»، بصفته التّعيُّن العَمَليّ والموضوعيّ للإنسان ضمن شُروط هذا العالَم، يَقتضي أنّ الإنسان إنّما هو - بالأساس- هذا "البَشر" الذي كان قَدَرُه أن يُخلَق حيًّا بجسدٍ يَأكُل الطعام ويَتنسّم الهواء ويَمشي في مَناكب الأرض. و«الوُجود البشريّ»، في تعيُّنه هذا، لا يُمكن التّمييز فيه بين "ماديّ" و"رُوحيّ" من دون أن يَصحّ فصلُ أحدهما عن الآخر على النّحو الذي قد يَسمح بالمُفاضَلة بينهما (كما لو كانا بُعْدَيْن أحدهما أدنى والآخر أعلى) و، من ثَمّ، تفريق أحدهما عن الآخر تفضيلا نسبيّا أو مُطلقا له. ولذا، فإنّ «ٱلأمن ٱلرُّوحيّ» يُعَدّ من صميم «الوُجود البشريّ» في هذا العالَم على النحو الذي يجعله غايةَ «التّمكين الماديّ» ومَدارَه الأساسيّ، بحيث لا يَكتمل الإنسان وُجودا وعملا إلّا في المدى الذي يكون سعيُه وراء «الكَسْب الماديّ» مُقترنا بأحد أنواع «الطَّلَب الرُّوحيّ».
وباعتبار أنّ ثمة فئةً من مُحترفي الخطاب تتعاطى تبرير «العدل الإلاهيّ» في هذا العالَم (المَليء أصلا بأنواع الشرّ والظُّلْم والشقاء)، فإنّ الحديث عن «الأمن الروحيّ» - في إتيانه على ألسنةِ أُناسٍ يُعرَف عنهم دَوَرانُهم في فلك السُّلطان "الماديّ" وارتهانهم للصراع "الرمزيّ"- ليس سوى خطاب لتبرير «استقالة الدّولة» من أدوارها الأساسيّة في تحقيق "العدل" و"الإنصاف" (بالعمل، طبعا، على رفع الحرمان والظُّلْم عن "المُواطنين" ؛ وليس تظاهُرا بالتّفاني في الإحسان إليهم!).
ولذلك، فإنّ الحديث عن «الأمن الرُّوحيّ» يُعَدّ سُخْفا محضا لدى "العَلْمانيّ" الذي لا يرى معنًى للحياة إلّا بصفتها الوُجود والفعل ضمن حُدود هذا العالَم (في انحصاره "الدُّنيويّ" وعدم إحالته إلى أيِّ مآل "أُخْرَويّ"). ف"العَلْمانيّ" ليس هُناك ما هو أشدّ سُخْفا عنده من ترك كل الأخطار الماديّة تُهدِّد حياة الناس والاهتمام بما يُسمّى «الأمن الرُّوحيّ» (كما لو كان هو الطريق المُوصل إلى ضمان «الخَلاص النهائيّ»). إذْ بِما أنّ الحياة لا تعدو - في نظر "العَلْمانيّ"- هذا العالَم (حتّى فيما يُميِّزه مِمّا يُسمّى "رُوحيّا" أو "معنويّا")، فإنّ "الأمن" المطلوب ليس شيئا آخر غير «التّمكين الماديّ» في أدقّ مَعانيه وأعمق أُسسه وأوسع آفاقه. ولهذا، بدلا من تسخير النّاس أو استغلالهم باسم «الأمن الرُّوحيّ» (ومُتعلَّقه «الخَلاص الرُّوحيّ»)، فإنّ ما يجب تحقيقه لا يَتجاوز «الخَلاص الدُّنيويّ» تمكينا ماديّا وترفيها معنويّا.
غير أنّ "المُؤمن" يَعلم أنّ اللّه تعالى قد خلق الإنسان في كَبَدٍ وأنّ مَشيئتَه، سُبحانه، اقتضتْ أن يَكدح العبدُ كَدْحا للقاء ربِّه. ف«الوُجود البشريّ» في هذا العالَم يُعدّ عند "المُؤمن" إنعامًا وابتلاءً لا يَنْفصلان البتّةَ. وبالتالي، فإنّ مُقتضى «العمل الصالح» أنّه مُجاهَدةٌ للنّفس ومُغالَبةٌ للأقدار بحثا عن "التّمكين" للرُّوح بما هي قُدرةٌ على مُلابَسة "الحقّ" 0ئتمانا وإيمانا. وإنّ ما يُهدِّد «الأمن الرُّوحيّ» ليس شيئا آخر غير افتقاد «التّمكين الماديّ» الذي يجعل العباد كادحين بما يُنْزلهم إلى أسفل سافلين في إخلادهم إلى الأرض طلبًا لحاجاتهم الطبيعيّة والضروريّة.
وكونُ "الإيمان" يقوم أصلا في «التّصديق مع الأَمْن من كذب المُخبِر»، فإنّ الواجب على "المُؤمن" أن يَدخُل في سيرورة «صدق الأمانة» التي 0ئتمنه الله عليها عملا صالحا ومُعامَلةً بالحُسنى («إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثُمّ لم يَرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ؛ أولئك هم الصادقون.» [الحُجرات: 15] ؛ «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.» [أحمد: مسند، 12324 ؛ الألباني: صحيح الجامع، 7179] ؛ «المُؤمن من أَمِنه الناس، والمُسلم من سَلِم الناس من لسانه ويده، والمُهاجر من هجر السوء. والذي نفسي بيده لا يَدخل رجلٌ الجنّة لا يَأمن جارُه بَوَائقَه!» [أحمد: 3/154]). وبما أنّ الإخلاد إلى الأرض اتِّباعا للهوى يَرجع إلى موت «الإيمان» في قلب صاحبه، فإنّ الاشتغال ب«الأمن الرُّوحيّ» اشتغالٌ بحقيقةِ «الوُجود البشريّ» بما هو وُجودٌ أسمى من وُجود كل "الأشياء" وأفضل من كثير من "الأحياء". فلا معنى، إذًا، ل«التّمْكين الماديّ» عند "المُؤمن" إلّا بما هو الأساس الطبيعيّ والضروريّ ل«الأمن الرُّوحيّ» الذي يُمثِّل غايةَ الوُجود والعمل الإنسانيَّيْن.
ومن ثَمّ، فإنّ التأسيس الماديّ ل«الأمن الرُّوحيّ» ليس معناه حصر همّ "المُواطن" في الاستجابة لحاجاته الطبيعيّة والضروريّة لكي يَتفتّح معنويّا ووجدانيّا فيصير أكثر إبداعا وإنتاجا، وإنّما هو بالأساس توفير الشروط الموضوعيّة التي تَكفُل له مُواجهة غَوائل «الجهل المُؤسَّس» تاريخيّا واجتماعيّا، وهو الجهل الذي أراد له بعضُهم أن يكون مُعبِّرا فقط عن "التّديُّن" بصفته ذاك «الفقر الثقافيّ» الذي لا يُمثِّل، في نظره، إلّا «الجهل المُقدَّس» بين "المُؤمنين". والحال أنّ «الجهل المُؤسَّس» إنّما هو عينه "الاغتراب" و"الاستلاب" من حيث كونُهما يُجسِّدان الجهل بالضرورة الاجتماعيّة والتاريخيّة كما تَسكُن الإنسان فتُحوِّله إلى مجرد دابّةٍ لا تعرف مَأتاها ولا مُنتهاها فتُخْلِد إلى الأرض إخلادا حتّى يحين هَلاكُها.
والمُؤسف، بهذا الصدد، أنّه بدلا من تأسيس "التّعليم" و"الإعلام" العُموميّين بالشكل الذي يَسمح بتكافُؤ الفُرص في تحصيل وسائل الدِّفاع عن النّفس ضدّ "التّمييز" في الثقافة (كما في غيرها)، صارت المُؤسسات العُموميّة تشتغل كوسائط ل«تعميم الجهل»، حيث إنّ اشتغال «المدرسة» و«الإذاعة-التّلفزة» كان توسُّل منهجيّا ب"التّعليم" و"الإعلام" بصفتهما مجموعة من آليّات "التَّعْليب" و"التَّعْتيم" لتسخير كُتَلٍ أو حُشود يَظُنّ "المُستبدُّون" أنّه لا يَنفع معها إلّا "التّضليل" تسليةً وتَلْهيةً كيفما اتّفق وبأيّ ثمن. ولا غرابة، بالتالي، ألَّا تَعْدَم من يَزْهد في المُطالَبة بحُقوقه الأساسيّة ويَلتجئ إمّا إلى نسيان وُجوده تعاطيًا للمُخدِّرات والمُسكرات أو إدمانا للمُنشِّطات الرُّوحانيّة، وإمّا إلى التّغنِّي بهُويّته المُستعرَضة تَعْهيرا جسديّا أو المُستدبَرة تأصيلًا ثقافيّا.
وينبغي ألّا يَخفى أنّ الذين يَرون، باسم «عَلْمانيّةٍ مانِعةٍ»، ضرورةَ تخلِّي "الدّولة" عن "الدِّين" (و0لتزامها الحياد السَّلْبيّ في مجال الاعتقادات)، وكذا الذين يَدْعُون – باسم «إسلامانيّةٍ جامعةٍ»- إلى استبداد "الدّولة" ب«أمر الدِّين» (وإلزامها للعباد بما يجب عليهم اعتقادُه أو فعلُه) يُعدّان كلاهما فريقين لا يَعنيهم أن يُضمَن، قانونيّا ومُؤسسيّا، الحقّ الشخصيّ في "الاعتقاد" و"التّفكير" و"التّعبير" (خارج كل تضييق أو إكراه) إلّا من الناحية الشكليّة. ولهذا تراهُم يَبتهجون أيّما ابتهاج في تقديم أنفسهم كمُدافعين شرسين عنه أو كمُعارضين أشدّاء له. والظاهر أنّهم جميعا لا يَفعلون ذلك إلّا لأنّه من مَصلحتهم أن يَخضع عامّةُ الناس ل«تفريغ منهجيّ» يَجعلُهم مُهيَّئين لكل أنواع "التّضليل" و"التّجهيل" في إطار تحرير "الدّعوة" من سُلطان "الدّولة".
والحقّ أنّ الحرص على إلزام (و0لتزام) "الدّولة" (كسُلطات عُموميّة) الحياد في مَجال الاعتقادات ليس معناه بالضرورة أن يُترَك "المُواطنون" عُزَّلًا على المُستوى الماديّ والثقافيّ بحيث يَسهُل استدراجُهم، في هذا الاتجاه أو ذاك، من قِبَل تُجّار "التّضليل" بكل أصنافهم. ذلك بأنّ "الدّولة" مُطالَبةٌ – خصوصا بمُجتمعاتٍ أكثريّةُ الناس فيها مُسلِمة- أن تُؤمِّن ماديًّا أيَّ سعيٍ فرديٍّ (أو شخصيّ) نحو ما يُعرَض، في المجال العُموميّ، من أشكال التّفضيلات والتّوجيهات بشأن «الحياة الطيِّبة». وذلك بأن تُوفِّر كل الشروط الموضوعيّة التي تُمكِّن مجموع "المُواطنين" من القُدرة نظريّا وعمليّا على التقرير بأنفسهم فيما يَصلُح لهم بعيدا عن كل وصايةٍ أو تدجيل.
وهكذا، فحيثما لم يُمكَّن ماديّا وموضوعيّا لشُروط «الأمن الرُّوحيّ» على النحو الذي يَضمن إمكان السعي الحُرّ نحو «الحياة الطيِّبة»، فإنّ الناس يَجدون أنفسهم حتما في مُواجهةِ أشكال من "المُعاناة" و"اللّاأمن" التي تُعاش ذاتيّا كنوع من «اللّاأصالة»، وهو ما يجعل حاضرَهم بلا معنى ويُفْقد مُستقبلهم كل أُفق ؛ ممّا يَقُودهم إلى البحث لوُجودهم "المُهدَّد" و"الضائع" عن مَلاذه الآمن في ماض تُرى فيه كل «الأصالة» المُفتقَدة ضمن واقعهم المَعيش بلا أمن ولا أمل. ومن هُنا يأتي ذلك الهَوس ب"الهُويّة" منظورا إليها كتطابُق مع "الأصل" و/أو كحفظ ل"الأصالة" المُعتبَرة مُتجذِّرة تاريخيّا في "أرض" يُظَنّ أنّها كانت ولا تزال (وستبقى) واحدةً وثابتةً أو المُتوهَّمة مُتضمَّنةً ثقافيّا في "تُراث" يَقبل دائما أن يُستحضَر مُباشرةً "جوهرُه" الأصيل والخالد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.