«لم يكن حكم ٱلسلطان مُقنَّنا، بل كان مفوضا وطارئا يختلف من سلطان إلى آخر، لأن السلطة الفعلية كانت بين أيدي القبائل والشرفاء والعلماء والأعيان. ولم يكن هؤلاء يُفوِّضون سلطتهم إلا لغايات خاصة، وعلى أساس معاهدات محددة. وكان ٱلسلطان يُمثِّل سلطة دينية يعترف بها ٱلجميع، إلا أن قوته ظلت رهينة بقوة حلفائه في فترة معينة. [...] لقد خضعت سياسة ٱلمخزن لمسألة حيوية: ٱلمحافظة على سلطة ٱلسلطان، وقليل من ٱلسلاطين كانوا يطمحون إلى أكثر من ذلك. كما أن عددا قليلا من المغاربة كانوا ينتظرون شيئا آخر من حكومتهم. وما زال الواقع المغربي المعاصر يخضع لذلك الوضع، إذ لم يتخلص نهائيا النظام الملكي الحالي ولا المغاربة من هذا الموقف العتيق.» (جون واتربوري، "أمير المؤمنين"، بتشديد وتصرف جزئي) يَمِيل معظم مُحترِفِي ٱلخطاب حول ٱلمجال ٱلمغربي إلى ٱختزال مجموع ٱلبنيات ٱلِاجتماعية/ٱلِاقتصادية/ٱلسياسية ٱلخاصة به (وما يُلازِمها من بنيات ذهنية/ثقافية/رمزية) فيما يُسمَّى "ٱلمخزن". ويبدو أنّ ميلَهم هذا يأتي من كونهم لا يتوقفون بما يكفي عند "ٱللفظ" عينه بما يَلُفُّه من مُفترَضات خلفية تُلقي بظلالها على ٱلمعنى ٱلمتداول، وذلك من حيث إنهم يَستخِفُّون عموما ب"نحو ٱللغة" وما يَنقُله من فلسفة كامنة. إذ من ٱلمعتاد جدّا أن يَترك ٱلمتكلم أو ٱلكاتب سجيّتَه تأتي ٱلخطاب بالِامتثال ٱلسهل وٱلمُتساهل حسب ما هو مألوف منه، وهو ٱلأمر ٱلذي يجعل مُحترِفي ٱلخطاب بيننا لَا يفعلون في ٱلغالب شيئا أكثر من أنهم يُسايرون ٱلواقع نفسه ٱلذي يَدَّعون أنهم يتناولونه بالتحليل وٱلنقد، في حين أنهم بحالهم تلك ليسوا سوى ناطقين باسمه أو، بشكل أحسن، ليسوا بالنسبة إليه سوى "ٱلوسيط" ٱلذي من خلاله يتكلم. ومن ثم، فإن أي خطاب يُريد، بهذا ٱلصدد، أن يكون ذا بال لا مَناص له من أن يُبنَى بنحو مُخالف -إلى هذا ٱلحد أو ذاك- لِطُرق ٱلعامة في ٱلحديث، وذلك من أجل ٱلتمكُّن من تعطيل ٱلِاشتغال ٱللاواعي للواقع ٱلِاجتماعي ٱلذي يتلبَّس باللغة ٱلعادية ٱلمتروكة بِمَنْجاةٍ من كل مُراجعة وَفْق ما تقتضيه ٱلِانعكاسية ٱلنقدية ٱلتي تُلِحُّ على إعادة ٱلنظر باستمرار في كيفية ٱلتعبير للتمكين من فك ٱلتفكير من إِسار عادات ٱلكلام ٱلراسخة على شكل طِبَاع صارت تبدو لِأصحابها (وليس لهم وحدهم) بديهيةً ومنطقيةً (كما ظل يُؤكده "بيير بورديو"). ولذلك، فإن ٱلوقوف عند ٱستعارة "ٱلمخزن" لا يُمثِّل -كما قد يتبادر إلى أذهان أنصاف ٱلدُّهاة- مجرد تمرين بلاغي أو مُبارزة في ٱلتشقيق ٱللغوي، وإنما هو وُقوف همُّه ٱلأساسي تجاوز ٱلِاستسهال ٱلذي يَطبَع مُحاولات كثير من ٱلمُترسِّلين في خُضوعهم ٱلعفوي للاستعمال ٱلشائع لِلُّغة بكل ما تُمثِّله من براءة زائفة أو بلاغة خادعة على نحو يُظهِر أنهم يبقون، في معظم ٱلأحيان، مجرد ضحايا لما تَقمَّصته أنفسهم من جراء تنشئة لغوية (قد تكون عالِمة أيضا) لَا تشتغل إلَّا ضمن تنشئة ٱجتماعية تُسوِّي داخل ٱلنفوس ٱلقُدرةَ على ٱلْإنشاء من دون إعطائها ٱلقدرة على تَبيُّن ٱلشروط ٱلمُسوِّغة للاعتباطي ٱلثقافي، وهي ٱلشروط ٱلتي من شأن إدراكها أن يكشف عن إمكانات وحُدود ٱلتنشئة ٱلطبيعية نفسها بالنسبة إلى تلك ٱلشروط ٱلمُحدِّدة لها. ولعل مثل هذا ٱلوقوف يُعَدُّ دليلا آخر على أن ٱحتراف إنتاج ٱلخطاب خارج ضوابط ٱلممارسة ٱلمتخصصة كما تتجلى في ميادينها ٱلمعروفة لا يعدو أن يكون تحريفا لوُعود ٱلخطاب ٱلتنويرية وٱلتحريرية، تحريف بقدر ما يُمثِّل من يَتعاطونه ٱلضحايا ٱلْأُوَل يَبْرُز مُتلقُّوه كضحايا أُخَر مضاعفة لِافتقادها ٱلمزدوج لِآليات عَقْد ٱلخطاب ولِأدوات فَكِّه في آن واحد. حقا، ما أكثر ما يتداول ٱلمغاربة لفظ "ٱلمخزن". لكنْ حينما نطلب تحديد ٱلمقصود بهذا "ٱلمخزن" لا نكاد نَظْفر، في أحسن ٱلْأحوال، بأكثر من قولهم إنه «ٱلنظام ٱلتقليدي للحُكْم في ٱلمغرب في شُموله للسلطان كرئيس للمخزن ولحاشيته ولِخُدَّامه من قُوَى ٱلْأمن وٱلمُمثِّلين ٱلمَحلِّيين من ٱلقُوَّاد وٱلْأعيان وأعوانهم». ويُعدُّ "ٱلمخزن" بهذا ٱلتحديد، لدى كثير من ٱلناس بمن فيهم من باحثين ومثقفين ومناضلين، ٱلفاعل ٱلرئيسي (أي، بلا منازع) في ٱلمجال ٱلمغربي بما يجعله ٱلمفتاح ٱلأساسي لتفسير وفهم ٱلأوضاع ٱلقائمة بالمغرب منذ أجيال. وهذا ما يجعل أولئك ٱلناس يَميلون، في مُعظمهم، إلى تحميل "ٱلمخزن" (بالتحديد ٱلْآنِف) ٱلمسؤولية في كل ما يقع بمختلف ٱلقطاعات. ولو أنّ ٱلمرء قَبِل هذا ٱلتصور، لَوَجَد نفسه مُضطرا إلى جعل "ٱلشعب ٱلمغربي" رهينةً بين أيدي "ٱلمخزن-ٱلغُول" (بلغة "هُوبز") ولَوَجَب، من ثم، أن تُلتمَس كل ٱلْأعذار ٱلممكنة ٱلتي تُبَرِّئ هذا "ٱلشعب ٱلمسكين" مما يُعانيه منذ أجيال من مظالم ومناقص ومشكلات، لأن "ٱلمخزن" هو ٱلعلّة ٱلكافية وٱلنهائية في تفسير ما يحدث ٱقتصاديا وٱجتماعيا وسياسيا ودينيا وثقافيا بالمغرب. وبهذا، ف"ٱلشعب ٱلمغربي" ليس سوى مجموعة من "ٱلرعايا" ٱلواقعة بالضرورة تحت رحمة "ٱلمخزن" وعنايته بما تشتمل عليه من أفضال وتفضيلات، وأيضا من مِحَن وٱبتلاءات (إذ كل شيء يميل، حسب ٱلظن ٱلشائع، إلى تأكيد أن "ٱلمخزن" تجسيد/تجسُّد للإلهي في ٱلأرض). وإنه لمن ٱلعجيب جدّا أن يستسلم كثير من ٱلناس، حتى بين ٱلنخبة، إلى تلك ٱلحكاية ٱللانهائية عن كائن خُرافي فَعَّال لما يريد، بصير بكل شيء فلا تُدركه ٱلأبصار، وقدير بلا كُفؤ فلا تُحيط به ٱلقُوى. ولهذا، تَنبَّه بعضهم منذ مدة إلى شيء أصبح يُسمى "موت ٱلمخزن ٱلقديم"، وهو قول ينطوي على ٱفتراض يُفيد ٱنبثاق "عهد جديد" يُبشِّر بقيام "مخزن جديد" يُحكَى أنه صار يتنزّل قريبا من "ٱلشعب" بفُقرائه ومُستضعفيه وضحاياه بشكل يَكشف عطفَه عليهم وٱنعطافه ٱلتاريخي ٱلماحي للفُروق وٱلرافع للمظالم. وهكذا أخذت "ٱلحكاية" في شكلها ٱلجديد تستمر بالحديث ٱلمكرور عن تعزيز "ٱلِانتقال ٱلديموقراطي" وبناء "ٱلمجتمع ٱلحداثي" بِتَوسُّل "ٱلتنمية ٱلمُستدامة" و"ٱلحكامة ٱلرشيدة". غير أن "ٱلحكاية" في ٱلْأصل تبقى مجرد تخريج خيالي لظواهر ٱلواقع بفعل وطأة هذا الواقع نفسه، تخريج لا يُظهِر إلا بقدر ما يُبطِن، فهي جِمَاع إمكانات لانهائية ومُتشابهة في إدراك ٱلواقع ٱلذي لا يَقبل فقط ٱلتخريج ٱلحكائي كما يظن كثيرون، وإنما يُمكن (ويجب) أن تُوصف وتُفسَّر ضرورتُه "ٱلاعتباطية" على نحو منهجي وموضوعي طلبا لمعرفة ٱلكيفية التي تَحدُث بها (وتستمر) ٱنتظاماته في ٱلواقع ٱلفعلي. ولهذا، فإن حكاية "ٱلمخزن" لا تبدو مجرد حكاية، بل هي حكاية معلولة واقعيا لعدد من ٱلأسباب ٱلتي يُفترَض ٱلكشف عنها وٱلعمل على تَفهُّم ٱلكيفية ٱلتي تَشتغل بها ماديا ورمزيا، بما يسمح بتَبيُّن إمكانات ٱلتصرُّف وٱلتحكُّم في مُجريات ٱلواقع ٱلفعلي للناس في هذا ٱلعالم على نحو راشد ومعقول. من أجل ذلك، نجد أن لفظ "ٱلمخزن" يَدُلّ لغويا في ٱستعماله الحقيقي على «ٱسم ٱلمكان ٱلذي تُوضع فيه ٱلخزائن» (مُستودَع ٱلخزائن). وبما أن مُمثلي ٱلسلطة في ٱلمغرب كانوا تاريخيا يجمعون كل ما يُمكن تحصيله أو أخذه من ضرائب أو مغانم من ٱلشعب في "مخزن"، وبما أن هذا ٱلتحصيل كان -في معظم ٱلأحيان- مصحوبا باستعمال ٱلقوة ٱلعنيفة وٱلمتعسفة، فقد صار "ٱلمخزن" مصطلحا يدل ٱستعاريا على "نظام ٱلحُكم" في ٱلمغرب (وإلى حد ما ٱلجزائر) من حيث هو نظام يقوم على ٱستنفار فعلي و/أو وَهْمي لمجموع ٱلموارد ٱلمادية وٱلآليات ٱلروحية ٱلتي تَكْفُلُ تدبير ٱلسلطة في مُجتمع كثير ٱلعصبيات ومتعدد ٱلأجزاء (يُوصف عادةً ب"ٱلقَبَلي" أو "ٱلِانقسامي"). من ٱلواضح، إذن، أن لفظ "ٱلمخزن"، في ٱستعماله هذا، قد ٱسْتُعِير للدلالة على ٱلكيفية ٱلتي يتم بها تدبير "ٱلشأن ٱلعام" كفضاء من ٱلعلاقات بين مختلف ٱلفاعلين ٱلأساسيين بالمجتمع ٱلمغربي. وهكذا، فنحن أمام ٱستعارة لغوية-بيانية يُراد بها ٱلْإمساك بالواقع ٱلفعلي في تعقُّده وتشعُّبه ودَيمُومته. فكيف يُمكن توصيف هذا ٱلفضاء بكيفية تسمح بإقامة تفسير معقول وكافٍ لِاشتغال ٱلواقع ٱلمغربي، وهو ٱلتفسير ٱلذي يُمكِنُه أن يُؤدي إلى فهم حقيقي يُمَكِّن من ٱلقدرة على ٱلمساهمة في تدبير ٱلْأوضاع بالإتيان بالحلول ٱلمُناسبة للمشكلات ٱلقائمة؟ إننا لا نكاد نضع ذلك ٱلسؤال حتى يبدو أمامنا عمق ٱلإشكال ٱلمطروح. إذ هناك توجُّه عام لدى مُحترِفي ٱلخطاب، سواء كانوا مثقفين أو إعلاميين أو سياسيين، إلى ممارسة نوع من ٱلِاستسهال ٱلذي يَكفُل تحقيق وضمان مردودية سريعة، لا يسع ٱلمرء إلَّا أن يَحصُرها بالأساس في مردودية ٱلخداع وٱلتضليل ٱللَّذين لا يأتيهما ٱلناس دائما بكل وعي. ولهذا، ينبغي تأكيد أن ٱلسعي إلى بناء خطاب يَطمع في نوع من ٱلكفاية ٱلعلمية (بخصوص ٱلوقائع ٱلِاجتماعية/ٱلتاريخية/ٱلثقافية ٱلخاصة بالمغرب) يقتضي تجاوز ٱلِاستسهال وٱلِاستعجال إلى مستوى ٱلممارسة ٱلِاحترافية بشروطها ٱلمُبتذلة وٱلمُكَلِّفة كما هو ٱلْأمر في كل ٱلعلوم ٱلتي من بينها علوم ٱلْإنسان وٱلعلوم ٱلِاجتماعية. ومن هنا، فإنه لا يَعنينا مما هو متداول بين ٱلناس إلَّا ما كان مُفيدا ومُناسبا لهذه ٱلممارسة بشروطها ٱلمُحدَّدة، بعيدا عما هو شائع من كل أنواع ٱلِابتذال بتَبِعاته ٱلمختلفة. لذلك، نجد أنه قد كان يكفي إدراك أن ٱستعارة "ٱلمخزن" تقود إلى تبيُّن أن ٱلْأمر يتعلق ببِنْية رُباعية في ٱلواقع ٱلِاجتماعي/ٱلِاقتصادي: إذ هناك "مَخزون" يتحدَّد كشيء يقع عليه فعل "ٱلخَزْن" (مجموع ٱلجبايات وٱلضرائب و، من ثم، ما تُصْرَف/تُصَرَّفُ إليه من أموال وأملاك)، وهو ما يسعى في تكوينه وحفظه "ٱلخازن" كفاعل ل"ٱلخَزْن" (مُحصِّلُو ٱلضرائب و، بالتالي، ٱلساهرون على حمايتها وتنميتها ٱلذين صاروا ٱلآن موظفين في مؤسسات "ٱلدولة")، و"ٱلخازن" يتعامل مع "مخزون منه/عنه" (ٱلسكان ٱلمفروض عليهم أداء ٱلضرائب وٱلْإسهام في نفقات ٱلسلطة ٱلحاكمة، وهم ٱلذين يُفترَض فيهم ٱلآن أن يكونوا مُواطنين يُدركون واجباتهم ٱلِاجتماعية وٱلِاقتصادية تُجاه "ٱلدولة ٱلراعية")، ثم هناك "المخزون له" (ٱلمستفيد مما يُخْزَن ويُخَزَّن)، وهو بالدرجة ٱلْأُولى "ٱلسلطة ٱلحاكمة" (ٱلتي تبتدئ بالقُوَّاد وٱلْأعوان وتنتهي بالسلطان وحاشيته) ؛ ونقول بالدرجة ٱلْأُولى لِأن ٱلمفترض في "المخزون له" (كمستفيد من نتائج "ٱلمخزون") أن يكون بالدرجة ٱلْأُولى هو نفسه "ٱلمخزون منه/عنه" ("عامة ٱلشعب"، خصوصا من حيث يُنظر إليها ك"رعايا" لهم "حق ٱلرعاية" أو ك"مواطنين" لهم "حقوق ٱلمواطنة" كمشاركة مُتساوية في ٱلوطن وخيراته)، بحيث يُفترض دائما في "ٱلمخزون منه/عنه" أن يَلمس آثار ذلك "ٱلمخزون" في أحوال معاشه. وهكذا، ف"ٱلمَخزن" يُحيل إلى سيرورة ٱجتماعية وٱقتصادية لها ٱمتداداتها ٱلسياسية وٱلتاريخية وٱلثقافية، إنها سيرورة تقوم على "ٱلتخزين" وتُدخِل "ٱلْأشياء" و"ٱلْأشخاص" في علاقاتِ فاعليةٍ ومفعوليةٍ، فتُؤدِّي بذلك إلى شبكة من ٱلعلاقات ٱلتبادُلية وٱلتفاعلية ٱلتي تشمل ٱلمجتمع بكامله حيث ترتبط "ٱلخازنية" و"ٱلمخزونية" على نحو يكشف عن نوع من ٱلِارتباط ٱلمتبادل يَنتُج عنه تفجير مقولة "ٱلمَخزن" الصمّاء بما يُوجب ٱلِانتقال من ٱلِاستعارة ٱلبريئة في ٱلظاهر ("ٱلمخزن" كسلطة حاكمة على أساس تدبير ٱقتصادي وسياسي للشأن ٱلعام) إلى ٱستعارة حيّة في ٱلعمق ("ٱلمخزن" نظام مجتمعي يتجسد في شبكة من ٱلعلاقات ٱلِاجتماعية وٱلِاقتصادية وٱلسياسية وٱلثقافية ٱلمحكومة تاريخيا وبنيويا). ومن ثم، فإن ٱلنظر إلى "ٱلمخزن" بصفته "ٱلسلطة ٱلحاكمة" تقليديا في ٱلمغرب (من حيث إنها تستحوذ على ٱلموارد وٱلخيرات ٱلمادية، فتُصَرِّفُها في صورة ٱقتصاد مادي ورمزي يُمكِّن من تدبير سياسي للمجتمع على نحو أُحادي، وهو تدبير يُعطي لهذه ٱلسلطة في أعيُن ٱلناس وداخل أنفسهم كل مظاهر ٱلقوة وٱلقدرة، وأيضا ٱلحِيلة وٱلبطش) يجعلُنا أمام ٱستعارة ميتة من فرط ٱلِاستعمال ٱلذي لم يحتفظ منها إلا بالوجه ٱلبارز في دلالته على ٱلقُوى ٱلفاعلة في سَيْر ٱلمجتمع ٱلمغربي كما تتجسَّد في "ٱلسلطان" وحواشيه ٱلِاقتصادية وٱلعسكرية وٱلسياسية وٱلثقافية وٱلدينية. لكن يبدو أن ٱلوجه ٱلآخر ٱلذي لا يُمكن أن تشتغل تلك ٱلِاستعارة إلَّا به إنما هو "ٱلمجتمع" نفسُه كدِعامة وكفضاء لكل ما يُحيط بالسيرورة ٱلمتعلقة بالسلطة، "ٱلمجتمع" في قَبوله للوضع وتَواطُئه معه بشكل ليس سَلْبيا دائما كما يتبادر إلى أذهان "أنصاف ٱلدُّهاة" فلا تجد ألسنتهم حرجا في إرساله كلاما على عواهنه. وإنَّ أي تبيُّن في هذا ٱلواقع يكشف عن حقيقة أن ٱلْأمر لا يتعلق فقط ب"نظام حُكْم" (هو "ٱلمخزن" كما يحلو للناس أن يُسمُّوه، وهم ٱلذين يَظنُّون أنهم قد قالوا كل شيء حين يَلفِظون، على نحو شبه سحري، ٱسم "مخزن" أو صفة "مخزني")، وإنما يتعلق ب"فضاء من ٱلعلاقات" كَوَّن ولا يزال ٱلنسيج ٱلِاجتماعي/ٱلتاريخي/ٱلثقافي لِإمكان فاعليةِ (و، من ثم، حياةِ) ٱلناس ببِلاد ٱلمغرب. وهذا ٱلفضاء يُكَوِّن في مجموعه نوعا من "ٱلروح ٱلمخزنية" ٱلتي تُعدُّ مبثوثةً بنيويا وتكوينيا في مؤسسات ونُظُم "ٱلمجتمع ٱلمغربي"، وراسخة -من ثم- في أذهان ونفوس مجموع ٱلفاعلين ٱلذين يسهرون (في ٱلواقع من دون وعي منهم أكثر مما هو بوعيهم) على قيام وٱستمرار هذه ٱلمؤسسات وٱلنُّظم. ذلك بأن ٱشتغال ٱلمجتمع ٱلمغربي على ٱمتداد عدة قرون أدّى إلى قيام نوع من ٱلروح "ٱلقومية" ٱلمتميزة أساسا بالإمَّعِيّة ٱلتوافُقية (لا ٱلْإِجْماع ٱلتعاقدي) وٱلنفاق ٱلِانتهازي (لا ٱلمُروءة ٱلقاصدة) وٱلِانتظارية ٱلرَّعَوِيّة (لا ٱلعزيمة ٱلمسؤولة وٱلمُسائِلة)، ٱلتي تولَّدت ولَا تزال من مُلابسة ٱلقوم لظروف قُرُونية من ٱلِالتباس وٱلغموض بشأن نوع ٱلعلاقات بين فئات ٱلمسيطرين (ٱلذين لا يحتكرون وحدهم، في ٱلواقع، أَزِمَّة ٱلفعل وٱلمبادرة) وٱلمسيطر عليهم (ٱلذين لم يكونوا يخضعون دائما للسيطرة دون تواطُؤ أو مقاومة من لدنهم). لقد بات معلوما، على ضوء ٱلمكتسبات ٱلمعاصرة في أكثر من مجال ("فوكو"، "غوفمان"، "بورديو"، إلخ.)، أن "ٱلسلطة" في حقيقتها ليست مجموعة من ٱلمؤسسات وٱلْأجهزة (ٱلتي تُمَكِّن من إخضاع ٱلمُواطنين داخل "ٱلدولة" أو كنظام للهيمنة يُمارِسُه شخص على آخر). إذ أن ٱلْأشكال ٱلبارزة ٱلتي تُرى فيها ٱلسلطة رأي ٱلعين ليست سوى ما تنتهي إليه ممارسة "ٱلسلطة"، في حين أن ٱلواقع يتمثل في علاقات ٱلقُوَى ٱلمتعددة ٱلتي تَكُون مُلازِمة لمجالٍ ما بفعل ٱلمواجهات وٱلصراعات ٱلتي تشمل ٱلمجتمع بكامله. ومن هنا، فإن ٱلسلطة حاضرةٌ في كل مكان من ٱلجسم ٱلِاجتماعي دون أن تتعيَّن حصرا في مكان يتعلق بهذه ٱلفئة أو تلك. «إنها لا تأتي لا من فوق ولا من تحت، بل تأتي من كل الجهات، حيث إنها سلسلة من ٱلخُطَط أو ٱلِاستراتيجيات المتناهية في الصِّغَر والمبثوثة في المجتمع بِرُمَّته». وهكذا ف"ٱلسلطة" ليست سوى ٱسم يُشير إلى واقع ٱجتماعي شديد ٱلتنوع وٱلتعقد، واقع يتجلى من خلال مجموع ٱلْأوضاع ٱلمتفاوتة وٱلمُتراتِبة ٱلتي يدخل فيها ٱلفاعلون باستمرار أثناء مختلف تبادلاتهم وتفاعلاتهم. إنها، بالجملة، حَرَكية ٱجتماعية وتاريخية وثقافية ذات طابع نَسَقي وكلي لا يَبرُز منها على ٱلمستوى ٱلِاقتصادي وٱلسياسي وٱلثقافي إلَّا أجزاؤها غير ٱلْأساسية ٱلتي تبدو، من ثم، مثل ٱلزَّبَد ٱلذي تُشَدُّ إليه كل ٱلْأنظار بما يطفو منه على ٱلسطح/ٱلمسرح على شكل فُقاعات منتفخة ومُتلألئة. ومن ثم، فإن سلطة "ٱلمخزن" تتجلى في ٱلواقع ٱلعيني على شكل فضاء من ٱلنزاعات حول ٱمتلاك ٱلوسائل ٱلمادية و/أو ٱلرمزية ٱلمُمكِّنة من ٱلسلطة على "ٱلمخزن" بصفته كذلك. وبهذا ٱلمعنى، فإن ٱلفاعلين بالمجتمع ٱلمغربي يُعَدُّون كلُّهم "مخزنيين"، إذ لا أحد منهم يُمكِنُه أن يُقاوم إغراءات تلك ٱلوسائل ٱلمتنازَع عليها من خلال ٱلتنافس حول ٱلمواقع ٱلمتعلقة بها وأشكال ٱتِّخاذ مختلف ٱلمواقع، لا أحد بالفعل يُمكنه أن يَزْهَد فيها فيتخلَّى عنها تماما بشكل يَقُوده إلى ٱنسحاب تامّ ونهائي من مُعترَك ٱلحياة ٱلعادية في دورانها على تلك ٱلوسائل ٱلضرورية للمعاش، ٱللهم إلَّا من أمكنه أن ينتقل فعليا أو ٱفتراضيا إلى ٱلعالَم ٱلْآخر، إذ أن ٱلبقاء ضمن هذا ٱلعالَم يقتضي ٱلِانخراط في معاركه ولو بِفَسْح ٱلمجال للذين يَعُدُّونها مسألة حياة أو موت. وبالتالي، فلا مجال لِمُناهَضة "ٱلمخزن" (على ٱلنحو ٱلذي كان ولَا يزال يشتغل به) إلَّا بالدخول ٱلجَمْعي في "ٱنقلَابٍ" («une révolution») يتحدَّد، أولا، بأنه "ٱنقلَابٌ رمزي" يستهدف فَسْخ ذلك ٱلتواطؤ ٱلمركوز تاريخيا وثقافيا في أعماق ٱلنفوس وخَلايا ٱلأذهان، وهو ٱلتواطؤ ٱلذي ظل يَجعل من ٱلبديهي أن يكون "ٱلواقع ٱلمغربي" في ٱلعمق نِتَاج فُرقاء مُنقسِمين على أنفسهم ومُتَّحِدين بعضهم على بعض ولا جَامِع لشتاتهم سوى ٱلِاتفاق على ٱلتسليم أو ٱلِارتِهان ل"ٱلمخزن" كفاعل غَيْبي من وراء كل ٱلحُجُب/ٱلخُيُوط ٱلبادية للعِيَان، ولو بكَأْدٍ. ومن دون ٱلعمل على إقامة هذا "ٱلِانقلاب ٱلرمزي" (ٱلذي لا ينفصل، في ٱلواقع، عن ٱلتأسيس ٱلمادّي في ٱلمدى ٱلذي يُحتمَل أن يكون واعيا بأهميته)، لا يمكن تَبَيُّن ٱلكيفية ٱلتي تشتغل بها بنيات ٱلواقع على كل ٱلمستويات بالشكل ٱلذي يسمح بتعيين ٱلمسؤولية ٱلجماعية وٱلتاريخية عن كل تَبِعات ما يُؤتَى من أفعال من قِبَل أعضاء ٱلمجتمع، وهي ٱلمسؤولية ٱلتي من شأنها (بِتَعيُّنها على ذلك ٱلنحو) أن تُؤدّي إلى ٱلتهييء لِانتقالٍ مُتدرِّج ومَدَنيّ يَكفُل ٱلولوج إلى تنظيم راشد وناجع لِاشتغال ٱلمجتمع بصفته مجتمعا يملك من ٱلإمكانات ما يجعله يعيش نظريا وعمليا ك"مجتمع حديث"، حديث ليس بِمُجاراته لمُوضة "ٱلحداثة" أو جَرْيِه خلفها، وإنما لِأنه لا يستطيع أن يُواجه حاجاته ٱلطبيعية إلَّا بِالقيام ٱلفعلي لِإكراهات ٱلضرورة ٱلمُلازِمة له كمجتمع يوجد هنا وٱلآن. وهكذا يُمكننا أن نَخلُص إلى أن ٱلحديث عن "ٱلمخزن"، بخصوص ٱلمجال ٱلمغربي، يَقُود إلى تَبيُّن أن ٱلأمر يتعلق بنسق من ٱلبنيات ٱلِاجتماعية-ٱلِاقتصادية-ٱلثقافية-ٱلسياسية ٱلمُحدَّدة تاريخيا في إطار جغرافي يشمل ما يُسمَّى حاليا "ٱلمغرب". وٱستعمال "ٱلمخزن" في ٱلدلالة على "ٱلدولة" يقتضي أنها "تنظيم سياسي ومُؤسَّسِي" يقف، بفعل أسباب ٱجتماعية وتاريخية، دون "ٱلدولة-ٱلأمة". ومن ثم، فإن هذا ٱلِاستعمال يشمل أيضا "ٱلمجتمع" بصفته يقف دون "ٱلمجتمع ٱلمدني" من حيث إن ٱلناس لا يتحقق وجودُهم ٱلموضوعي إلا ك"رعايا" أو "خُدَّام"، وليس بما هم "مُواطنون" (أحرار ومُتساوون) على أساس "تعاقُد مَدَني" هو ٱلأساس في بناء تشارُك على كل ٱلمستويات يتجلّى في "ٱلدولة-ٱلأمة" ك"إطار وَضْعي ونِسبي من ٱلقوانين وٱلمؤسسات". ولذا، فإن ٱستعارة "ٱلمخزن" تُعبِّر بكل بلاغة عن نوع ٱلإعاقة ٱلتي تجعل ٱلمجتمع ٱلمغربي لا يزال مَشدودا إلى ٱلعيش ضمن بنيات مادية ورمزية شبه تقليدية، على ٱلرغم من أن ٱلأمر يتعلق ببنيات تتلوّن وتتلبّس على ٱلدوام بالمكتسبات ٱلمستجدّة في إطار ٱلعصر ٱلحديث. وهذا ٱلِانشداد هو ٱلذي يجعل حضور "ٱلمخزن" يتجلى ٱستعاريا على كل ٱلمستويات ويُوهِم بأن "ٱلمجتمع" مأخوذ برمته في علاقات سُلطوية وٱستغلالية تجعله خاضعا لفئة تُوصَف، في معظم ٱلْأحيان، بأنها "مخزنية" ؛ في حين أن ٱلواقع ٱلفعلي بهذا ٱلمجتمع يتحدَّد كمجموعة من ٱلبنيات ٱلتي تشمل أعضاءه كلهم وٱلتي لا يمكن فصل ٱلِاقتصادي فيها عمّا هو سياسي وثقافي، بحيث لو أردنا من ٱستعارة "ٱلمخزن" تلك أن تُفصح عن مقتضياتها لَٱنْقَدنا إلى جعل كل أعضاء ٱلمجتمع مُرتَهنين لتلك ٱلبنيات من خلال ٱنخراطهم ٱلفعلي وٱلضروري ٱلذي لا يَتَّخذ دائما صورة ٱلإرادة ٱلحرة أو ٱلوعي ٱلمُميِّز، وإنما يلتبس بالمسار ٱلتاريخي وٱلِاجتماعي لِتكوُّنِهم ٱلذي من خلاله يَقُومُون كفاعلين من دون أن تكون فاعليتهم محصورة فيما يدور داخليا ضمن "ذاتية" تقف متخارجةً مع ٱلعالم ٱلموضوعي لوجودهم، وهو ٱلعالم ٱلموضوعي ٱلذي لا معنى لفاعليتهم تلك إلا داخله. ف"ٱلمخزن" هو هذا ٱلفضاء ٱلِاجتماعي وٱلتاريخي حيث كانت ولا تزال تتبلور فاعلية ٱلْإنسان ٱلمغربي بصفته نِتاج كل ٱلظروف وٱلشروط ٱلتي تُحيط به ٱقتصاديا وثقافيا وسياسيا فتجعله بالأساس "ٱلمُنتَجَ ٱلجَمْعي" لِنتاجه ٱلخاص على نحو لا يُلغي فاعلية كل ٱلْأطراف لصالح طرف واحد ولا يُغَيِّب ٱلمسؤولية ٱلتاريخية وٱلمعنوية لكل أعضاء ٱلمجتمع. ومن ثم، إذا كان هناك "مخزن"، فليس ذلك إلا لأن هناك "فاعلين مخزنيين" في إطار "بنيات مخزنية" تَشرُط تاريخيا وٱجتماعيا كل إمكانات ٱلفعل ٱلتي تَتَعيَّن ٱقتصاديا و/أو سياسيا و/أو ثقافيا على نحو يجعل ما يُمكن تسميتُه "ٱلروح ٱلمخزنية" ساريةً بنيويا وتكوينيا في كل مستويات ٱلمجتمع ٱلمغربي، كما لو كانت ٱلماء ٱلذي تَرْتَوِي به شرايين ٱلْأبدان أو ٱلهواء ٱلذي تتنفَّسُه أنسجتُها، ليس على شاكلة ٱلقَدَر ٱلوجودي ٱلذي يُقَيِّد أبدا وحتما مصائر ٱلناس في هذه ٱلبقعة من ٱلأرض، وإنما على شاكلة أوضاع مُحدَّدة بالضرورة كبنيات مشروطة تاريخيا وٱجتماعيا بحيث لا تَفرض نفسها إلا بصفتها كذلك. ومن هنا، فإن أي إمكان لتغيير تلك ٱلأوضاع لا ينبثق إلا على أساس معرفة حقيقية بالكيفية ٱلتي تتحدَّد بها ضرورتها تاريخيا وٱجتماعيا، معرفة هي وحدها ٱلسبيل للانفكاك عن إكراهاتها في حدود ما تسمح به شروط ٱلوجود وٱلفعل في ٱلمجال ٱلمغربي بكل مُحدِّداته. لذلك، يبدو أن ما تتَّسم به ٱلْأوضاع -في ذلك ٱلمجال- من طابع ضروري وحتمي هو نفسه ٱلذي يُؤكِّد -بدلا من أن تُرى فيه ٱلملامح ٱلمُميِّزة للانسداد ٱلتام لكل أفق ممكن- أنه لا خيار أمام ٱلنُّزول ٱلقَسْري للضرورة ٱلواقعية سوى ٱلسعي ٱلمُضْنِي وٱلمُكلِّف لمعرفتها بشكل يُمَكِّن من فتح منافذ كفيلة بخلخلتها وزحزحتها شيئا فشيئا، وذلك بعيدا عن ٱلخطابات وٱلدعوات ٱلتي تَمِيل، بفعل شدة وطأة ٱلواقع نفسه، إما إلى سَدّ كل ٱلآفاق في ٱتجاه قَدَرية عَدَمية أو إلى فتحها في ٱتجاه إرادانية طُوبوية. ولعل ما يَجدُر تأكيده، بهذا ٱلخصوص، هو أن ٱلواقعية نفسها لا معنى لها إلا من حيث إنها وقوفٌ فِعْلي يُؤسِّس ٱلإرادة من خلال ما هو ممكن لمُواجهة ما يَنْزل على ٱلناس بمظاهر ٱلقَدَر، مع ٱلإيمان بأن ٱلوجود نفسه في هذا ٱلعالَم يتضمن -بشروطه ٱلنِّسبية وٱلمُحدِّدة- إمكانات للفعل على نحو معقول ومسؤول. [email protected]