شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    الدورة الثانية للمعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب 2024.. مشاركة 340 عارضا وتوافد أزيد من 101 ألف زائر    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    "وزيعة نقابية" في امتحانات الصحة تجر وزير الصحة للمساءلة    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في كتابه الجديد ( من ديوان السياسة) : المفكر والمؤرخ عبد الله العروي يتحدث عن المخزن والدستور والملك والبرلمان والحكومة

تنزل كتب العروي دائما في اللحظة المناسبة، لتحلل وتشرح وتفسر، تصريحا أو تلميحا ما يقع في البلاد. وعندما يتكلم العروي، في الكتب كما في الحوارات ترهف النخبة، من اقصاها الى اقصاها السمع، وتستمع بإمعان إلي ما يقول.
من ديوان السياسة، كتابه الأخير، بدأ بطلب حوار من لدن احد الصحافيين، الذي لا يذكر العروي اسمه، يخص الوضع السياسي، الحكومة والأحزاب، بما فيها اليسار.. الخ. فقرر المفكر والمؤرخ الروائي أن يتحاور مع نفسه حول هذه المواضيع. وكعادته فقد أخرج من تأملاته مادة أصيلة ، جادة، عصية على التبسيط والاختزال.
يروي العروي قصة السلطان محمد الرابع ومبعوث ملكة بريطانيا جون دردمند هاي، الذي كلمه عن الامن والحرية ومساواة ، وتحديث القطاعات الحكومية والعسكرية ، وغير ذلك من مواطن الدولة التي تتطلب التحديث . وبعدان استمع السلطان الى مخاطبه باهتمام واضح، استحصن ما سمع، تمنى لو يستطيع ان يطبق البرنامج المقترح اذ اكد في الختام:كنت أبادر بفعل ما تقول لو كنت اسوس رجالا عقلاء، لكني كما أتعامل مع أسد مفترسة». وهو في رأي العروي يتكلم «عن تجربة داخل القصر وخارجه، في قاعدة الملك وفي الاطراف.
تفاجئنا كتب العروي دائما بتفردها.. وبعد كتب السيرة والتوثيق اليومي، وكتب التنظير التاريخي المفعم بالكثير من المفاهيم والتأصيل النظري، يسوقنا دوما إلى مجاهل بسيطة في حياة الفعل السياسي. ولهذا يفرد، على غرار كبار كتاب الأنوار، مساحة طيبة، وغير مسبوقة في تناوله السابق للعواطف والنزوعات والأحاسيس في السياسة، بعد الجهد العلمي والفلسفي الكبير الذي قام في السابق لشرح المفاهيم وتأصيل الأطروحات ومقاربة تاريخ المغرب.
الخوف، والطموح، الولاء، الطمع، الحاجة، كلها عواطف تحضر في أجوبة العروي على نفسه، في متابعته «الصحفية» للشأن العام، وتحضر إلى جانبها قواميس الحقل السياسي والمعرفي المغربي.
في العواطف، يفاجئنا العروي بتفسير الانشقاقات بالطموح من خلال حكاية قيادي في الحزب الاشتراكي، اختار هذا الحزب لأنه كان بدون شخصيات قيادية، ثم يسحب ذلك على المغرب، ليفسر ظهور الحركة الوطنية. (حزب الموالين للوضع القائم )الحماية في هذه الحالة) كان مكتظا ولم يعد فيه مكان لمتطفل، أو كان فيه مكان ضيق لعدد محدود من أبناء الشرفاء والعلماء والتجار. ماذا يفعل الآخرون وهم كذلك من الاعيان؟ الالتحاق بالحزب الناشيء، الحركة الوطنية»...
في كتاب العروي الكثير من الجدة ، ومن الاشياء التي لم يسبق له ان قالها، على الاقل وهو يروم ان يشرح اشياء معقدة مثل المخزن بكلمات بسيطة، كما في حوار صحافي .. وقد اخترنا منه بعض المقاطع ذات العلاقة بالحكم وبالملكية تعميما للفائدة واستدراجا الى قراءات كثيرة وحوار كثير..
دولة المخزن
كما أن الديموقراطية اليونانية شيء وما صوره الخطباء والمنظرون شيء آخر، فالدولة المغربية التقليدية، ما نسميه المخزن، شيءوما قاله عنها الفقهاء والوعاظ شيء ثان.
المخزن بالمعنى المحدد، النظام الذي كان في القرن التاسع عشر والذي تعامل معه نواب الأجناس في طنجة، هو وليد القرن الثامن عشر، وإن شاركته الإسم أنظمة سابقة.
القول إن المخزن دولة »إسلامية« أو سنية مالكية، أو شريفة، أو تقليدية، أو حتى استبدادية، لا يفيد كثيرا. الوصف الدقيق، المحرر من كل تعريف سابق، هو المنهج الصحيح.
للمخزن قاعدة انتاجية، يبحث فيها الاقتصاديون، تتداخل فيها عوامل عتيقة وأخرى مستجدة.
للمخزن هيكل اجتماعي، يبحث فيه علماء الأجناس، يعمتد علي هيئتين (القبيلة والزاوية)، لكل منهما أشكال متنوعة ووظائف كثيرة.
على المستوى الانتاجي تتمايز الجبال عن الصحاري، الهضاب عن البسائط، المدن عن الأرياف، تتنافس وتعاون، تتصارع وتتكامل. وكذلك تفعل على المستوى الاجتماعي القبائل والزوايا. قد تتطابق القبيلة وقد تعلو الواحدة على الأخرى، قد توحد الزوايا القبائل وقد تفرق بينها. الدينامية التاريخية تتجذر في هذه الحركة المستمرة من مد وجزر، من تآلف وتمزق.
في هذا الإطار لا تكون السلطة إلا محدودة. هل كان من الممكن ان تتجرد عن تأثير هذين الأصلين (القبيلة والزاوية) لتصبح دولة عامة، أي سياسية/ هل كان واردا، وبالتالي هل حصل فعلا، أن أخضعت إحداهما الأخرى، فكان المخزن تضخيما لسلطة زواية أو مجموعة زوايا، أو تعميما لنفوذ قبيلة أو مجموعة قبائل؟ طرح السؤال ثم أجاب عنه ابن خلدون وأتباعه. مهما يكن الجواب، في إطار تاريخ المغرب العام، فإن النظرية الخلدونية لا تنطبق تماما علي المخزن كما حددناه زمنيا، أي كما أقر قواعده محمد الثالث العلوي.
هذا المخزن يتولي القيادة القبلية وسياستها القمعية، كما يتولي الزوايا وسياستها التأليفية، كما يستمد شرعيته الأساسية من وظيفة الإمامة. يتجسد المخزن في فرد هو المولى / السلطان / الشريف / الإمام.
هو سلطان أي أمير، يأمر بالسيف وبالقلم. حوله جيش منتخب من قواد القبائل وكتاب مبرزين من سكان المدن.
هو شريف له نفوذ روحي مجرب، ينافس به ويحمي في الوقت نفسه دور العباد وشيوخ الزوايا.
هو إمام ساهر علي إقامة الشعائر وإحياء تعاليم الشرع بمساعدة القضاة والعلماء والمفتين والإسم الغالب، لأسباب ذكرناها، هو السيد أو المولى...
هل إذن رمز لوظيف. غير أن الظاهرة الرمزية لا تلغي الواقع الملموس: السلطة بيد رجل يقمع مرة ويؤلف القلوب مرة، بواسطة آليات تتدرج من المرافق التدبيرية (جيش، وزارة، كتابة، عمالة، شرطة، بريد، قضاء، إفتاء، حسبة، إلخ)، إلى الهيئات الاجتماعية (أشراف، علماء، تجار، صناع، شيوخ، إلخ) لتنتهي إلى الأصل والأساس (قبيلة، عشيرة، أسرة).
اللفظ العام الذي يصف علاقة الفرد الحاكم بكل واحدة من هذه الجماعات، على اختلاف مستوياتها، هو البيعة (الدال علي الولاء التام الدائم). اللفظ موجود في كل نظام ينتمي إلى دار الإسلام، لكنه اكتسى صبغة خاصة في المغرب العلوي السليماني وعاد لا يكاد ينفصل عن مفهوم السلطان.
عموم البيعة، أو كثرتها في حال شقاق، هو الذي يجعل من الفرد المبايع له، المولى الشريف، حقا أو ادعاء، سلطانا إماما.
دولة الحماية
مفهوم أن يكون نفوذ هذا السلطان - الإمام - الشريف غير قار في الزمن أو في المكان. تغلب هذه الصفة أو تلك حسب ميزان القوي بين الهياكل الإدارية والهيئات الاجتماعية والمكونات الأساسية. فيعود السلطان قائدا قبليا أو شيخ زوايا في منطقة أو عدة مناطق، مع الاحتفاظ علي كل حال بوظيفة الإمام المفوضة في الغالب للعلماء. وقد يجمع سلطان معين بين القيادة في منطقة ضيقة وبالإمامة في منطقة أوسع.
الجديد في الأمر هو أن هذا التجريد عاد مقبولا في المغرب السليماني. فحصل تمييز بين بلاد المخزن وبلاد »السيبة«. السائب لم يعد هو العاصي، الخارجي، »الروكي«، بالضرورة، إذ حاله أن يد المخزن لا تدركه ويده هو لا تمد لدار المخزن، مكتفيا بسلطة قبيلة او زاوية، في ظروف القرن قبل الماضي، ظروف التوسع الاستعماري الاوربي، حاول سلطان المغرب ان يقوي دوره كسلطان بتجديد الجيش والإدارة، لكنه لم ينجح لأسباب معروفة لدى الدارسين. فانتهى الامر بوضعه تحت حماية أجنبية.
ماذا كانت النتيجة؟ دفع بالتمييز المذكور الى أقصاه، فصل السلطان عن الشريف وعن الإمام.
عاد الجيش وعادت الإدارة (في غالبيتها مستحدثة) بيد ممثل الدولة الحامية، إذ كانت معاهدة الحماية عقد تفويض. كلف الممثل المذكور بإصلاح ماهو قائم وإنشاء الدوالب الناقصة والضرورية في مفهوم الدولة الحديثة. وهكذا في ظرف نصف قرن شيد على أرض المغرب مجتمع جديد بقاعدته الانتاجية وتنظيماته الاجتماعية ولغته وثقافته وعقيدته الخاصة، مجاور للمجتمع الاصلي، غير متداخل معه.
هل الامر بدعته؟ لا. منطق المجاورة والمساكنة (ما يعرف في أجواء أخرى بنظام الملات) معروف في منطقتنا منذ القرطاجيين والرمان. يمكن اعتبار الجالية الواردة قبيلة جديدة او زاوية ملحقة بمثيلاتها. أو لم يكن هذا حال الجالية اليهودية، بل حال جاليات مسيحية صغيرة من مرتزقة ورهبان؟ وحتى عهد البيعة بين هذه الجالية المستوردة والسلطان أمر حاصل ضمنيا، مبطن في معاهدة الحماية التي يسهر على تطبيقها المقيم العام.
اما المجتمع الاصيل (مجتمع الاهالي)، أكان عربي أم أمازيغي اللسان والعرف، فظل على حاله في ما يخص علاقته بالحاكم السلطان الذي لم يعد سلطانا حقيقيا، وان ظل شريفا في عين الجميع (مهما يكن من أمر بعض مشايخ الزوايا في فترة لاحقة)، وظل إماما بالنسبة لبلاد المخزن. لهذا السبب احتفظ بتدبير القضاء الشرعي وما يلحق به من شرطة وحسبة وأوقاف وتعليم. اما بلاد السيبة، وأغلب سكانها أمازيغ، فعادت، مبادرة منها او بإيعاز من سلطة الحماية، الى تطبيق الاحكام العرفية بإشراف أعيان القبائل. وكانت الرغبة واضحة لدى الاجنبي في توسيع مجال العرف الى أقصى حد ممكن.
في النهاية تغير النظام كثيرا في العمق، لكنه حافظ ظاهريا على المنطق نفسه، وذلك بواسطة آليتين: التفويض والمبايعة، الملازمتين للمخزن المغربي.
عندها نفهم المغزى العميق لإقدام الوطنيين على تسمية محمد بن يوسف »ملك المغرب« في الوقت الذي لم يعد فيه سلطانا حقا. كان الدافع هو تذكير الجميع ان »الملكية« ، ملكية السكان الاصليين، المجسدة في شخصه، لاتفوت أبدا، مهما كثر عدد المهاجرين الوافدين ومهما توسعت ممتلكاتهم.
أيام الحماية كانت الدولة المغربية مزدوجة (وان توحدت رمزيا في القمة): لغتان، ثقافتان، اقتصادان، قانونان، إلخ. كانت هناك »دولة« وافدة بمعالمها ونظمها، هيئاتها، يرأسها المقيم العام، ودولة أصيلة على رأسها شريف إمام. لكن هذه الدولة الاصيلة كانت هي ذاتها مزدوجة كما أوضحنا ذلك سابقا. لولا هذه الازدواجية البنيوية لما ترتبت عليها وبسهولة ملحوظة الازدواجية اللاحقة التي كادت ان تؤدي الى اقتسام أرض الوطن.
كانت السلطنة امارة وإمامة في الوقت نفسه. السلطنة - الامارة فوضت الى الاجنبي، وقد نقول الاعجمي مسايرة للقدماء، فيما ظلت قائمة الامامة المدعومة بالشرف (البركة). الدليل على ما نقول هو أن منظري الاستعمار اعتمدوا كليا على نظرية التفويض كما بسطها الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية.
الخلاصة هي أن انهيار نظام الحماية لم يلغ الازدواجية المذكورة، بل عادت فقط الى صورتها الاولى. عاد » الملك« سلطانا مجددا. أشرف مجددا على الجيش والإدارة المستحدثة، كاسبا بذلك قوة لم يتمتع بها أحد من أجداده. استعاد نفوذه الكامل على الزوايا وعلى القبائل، فاستطاع ان يرجح كفة الشرع على العرف في كل أنحاء البلد لاول مرة في التاريخ. التفويض الذي نتج عن ضعف وانحلال انتهى بتركيز السلطة بدرجة لم تسبق أبدا، حالة غير فريدة عرفتها مناطق كثيرة أثناء التاريخ الحديث.
هكذا تجمعت لدى السلطان - الامام - الشريف كل الوسائل ليكون إما أميرا عادلا وإما مستبدا جائرا.
كان المقيم العام الفرنسي حاكما مستبدا، باعتراف الفرنسيين الاحرار. لم يكن يحد من استبداده سوى قانون الجمهورية الفرنسية، إذن خارج تراب المغرب. من هنا كان الوطنيون يتظلمون الى باريس حتى يرفع عنهم الحيف.
ولا يمكن ان يحد ، نظريا، من استبداد السلطان - الشريف - الامام الا الدستور، صيغة مستحدثة لمفهوم البيعة. والدستور لا يتحقق إلا إذا حصل حوله إجماع من لدن الهيئات الاجتماعية والنخب المنبثقة عنها.
الدستور الملكي المغربي
بعد انهيار نظام الحماية ظن الكثيرون ان الوقت حان لإعادة بناء الدولة المغربية على أسس منطقية واضحة. ولابأس ان يكون اللباس على غير مقاس اذ جميع الدساتير تصبو الى الامثل.
اعترض البعض: لا حاجة لنا لأي اقتباس او إبداع. الدستور بدعة وكل بدعة ضلالة. حقيقة الامر ان هؤلاء كانوا يودون إسناد التدبير الى من كان منبوذا في العهد السابق، أعني العلماء. لكن كيف يسير الشأن العام من ظل مبعدا عنه طيلة جيل؟ لم يحقق المعترضون أغراضهم لكنهم منعوا خصومهم من الوصول الى مبتغاهم.
فجاء الدستور الممنوح سنة 1961، لا هو إحياء لما كان ولا هو تحقيق لما حلم به الوطنيون، بل كان وصفا وفيا للوضع القائم بعد ان استعاد ملك المغرب السلط التي سلبتها منه معاهدة الحماية.
لم تنتف الثنائية المشار إليها في المقطع السابق، وإن توحد رمزيا في شخص الملك. لا عجب ان يرفع في كل مناسبة شعار مزاوجة الاصالة والمعاصرة، ولو كانتا معا صوريتين فقط.
الاصالة في ما يتعلق بالامامة، تسمى تجاوزا امارة المؤمنين. الامامة تفويض من فوق، تفويض دائم نهائي لا يحتمل أي نوع من ا لنقاش. من تجرأ على ذلك عوقب. والامامة مهمة قابلة بدورها الى تفويض لمن هو تحت نظر الملك. بهذه الطريقة تنشأ هيئات أهمها هيئة العلماء والوعاظ والائمة (أئمة المساجد) والقضاة، وكذلك الشرفاء عبر النقابات، والزوايا في شكليها القديم والحديث تنعش القديمة وتؤسس الجديدة في شكل جمعيات او تعاونيات او وداديات واخيرا احزاب الاصالة ايضا في الامارة بالمعنى القديم، اي قيادة الجيش والشرطة ومصالح الاستخبار بهدف الضبط والزجر وربما ترويض الضمائر واضعاف العزائم.
المعاصرة فيما يتعلق بما احدثته الحماية من وسائل وهياكل هدفها الاعمار، استغلال الخيرات الطبيعية، تنظيم وتأهيل اليد العاملة، رفع مردودية المال المستثمر والجهد المبذول، الخ. كان المقيم العام الفرنسي يفتخر بان المغرب الحماية مقاولة ناجحة تحت ادارته. اصبح هذا الوظيف الجديد هو الاخر بيد الملك. الحكومة هي الساهرة على تسيير هذه المصالح. كان دور الحماية التاريخي هو اصلاح او انشاء د والب هذه الحكومة العصرية. الان ردت الى حوزة المخزن، فاصبحت قابلة هي الاخرى الى التفويض لمن يحسن تدبيرها شريطة ان تظل تحت المراقبة.
المراقبة هي لصاحب الامر، لكنها تفوض لجماعة يشارك العموم، بصفة ما، في انتخاب اعضائها. والجماعة هي البرلمان.
البرلمان ملحق بالحكومة كما ان الحكومة ملحقة بالحاكم. في تعبير المقيم العام الفرنسي البرلمان بمثابة مجلس ادارته شركة المغرب« يراقب الحكومة كما يشارك في تكوينها بتكليف، اي بشروط.
البرلمان، من هذا المنظور، مكون هو الاخر بتفويض، فيكتسي الانتخاب معني خاصا. لا يفهم على وجه يساير منطق الدستور الملكي الا اذا عرف بانه تكليف اي حق ممنوح. الانتخاب من جهة مصادقة ومن جهة تزكية. تحصل منافسة. على ضوئها يتم الاختيار بين هذا وذاك. لكن المنافسة بين اقران على ميز ة او خدمة.لا مزاحمة لمن هو فوق. العملية لا تمس في ماديتها، لكن مؤداها يتغير، وذلك لا عن امر وتدبير بل عن بنية اجتماعية قائمة. نادرا ما يتصرف الناخب كفرد مستقل بل يتصرف عاد ةكعضو في جماعة.
يفعل ذلك حكما وصراحة عندما ينتخب اعضاء الغرفة الثانية التي هي غرفة الجماعات، فما عليه الا ان يسير على النهج نفسه في انتخاب اعضاء الغرفة الاولى (مجلس النواب) وهذا هو ما يحدث بالفعل.
الالية العامة هي اذن التفويض، تفويض شامل ودائم، يقال مرة انه من فوق ومر انه من تحت، لمن تتجسد فيه الامارة والسياسة والامامة، تتفرع عنه بالضرورة تفويضات لاحقة متنوعة، مؤقتة ومشروطة. كل تفويض لاحق يتم في صورة بيع التي هي تعاقد ضمني على شروط التفويض. لا وجود لبيعة شاملة بمثابة تجميع بيعات كل فرد فرد، البيعة جماعية بمعنى انها بيعة هذه الجماعة او تلك.
ذكر المنظرون منذ القديم ان كل نظام يسير على دستورين، احدهما مكتوب يبقى حبرا علي ورق والثاني عرفي موروث على اساسه تدار الامور. فزاد البعض: بالاحرى ان يكون هذا حال المغرب.
الحق ان الازدواجية هنا لها صبغة خاصة. الدستور الملكي المغربي مطابق لواقع، لكنه مكتوب بلغتين (كتب على حرفين) لا تعني بذلك العربية والفرنسية كما يتبادر الى الذهن، بل نعني انه يحتمل قراءتين: شرعية وديمقراطية. كل كلمة اساسية فيه (سيادة، سلطة، حكومة، قانون، انتخاب، الخ) قد تؤول تأويلين. يمكن لاي امرئ ان يعيد تحرير مواد الدستور بصيغة شرعية حتى لتظن انه نظام خلافة، او بصيغة ديمقراطية، حتي لتظن انه دستور دولة اسكندنافية.
والامر هكذا لا لانه كان مقصودا اصلا، بل لانه عبارة عن ارث مزدوج، تلقيح المخزن التقليدي بادارة الحماية.
يبدو اليوم واضحا انه لم يكن في الامكان تحقيق القطيعة التي تمناها الفقهاء السلفيون من جهة والوطنيون الاصلاحيون او الثوريون من جهة ثانية. لو ادرك احد الفريقين مبتغاه وحرر الدستور بمنطقه، لكان عليه بعد ذلك، ليحصل في الواقع قدر من التجانس والتناغم، ان يقوم بقفزة اما الي الامام (ثورة اجتماعية وثقافية) و اما الى الوراء (ثورة مضادة) دون ان يضمن لنفسه حظوظ النجاح.
للسبب نفسه، بعد ان مر على صدور الدستور الممنوح اكثر من نصف قرن، اصبح من الصعب جدا العودة الى المنطقة واستئناف العملية الدستورية من الصفر. الاقرب الي الممكن والمستطاع هو السير علي طريق التأويل، في أحد الاتجاهين المشار اليهما انفا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.